آراء

كريم المظفر: بريطانيا تبقى أسيرة أوهامها

لم نستغرب ابدا من بريطانيا "الخبيثة" أي شيء يبدر منها، الكذب، وتزييف الحقائق، السرقة، القتل والدمار، ونهب الثروات والمؤامرات، وصفات أخرى لا تكتفي هذه السطور لكتابتها، فتاريخ هذا البلد مليء بالقصص السوداء في العالم ولا مجال لذكرها الان، لأن كل العالم على بصيرة تامة في مقدار حقدها على الشعوب، ولكن ما استوقفني ونحن نكتب هذه السطور، هي تلك التصريحات التي أدلى بها نائب الممثل الدائم البريطاني لدى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، جيمس كاريوكي، في 23 يناير/كانون الثاني.

ويقول "كاريوكي" "إنه نتيجة للصراع الأوكراني، تراجع التحديث العسكري الروسي ثمانية عشر عاما إلى الوراء، والآن تقوم صناعة الدفاع الروسية بتفكيك الثلاجات إلى أجزاء "، وهنا لا نلوم هذا الدبلوماسي الجاهل، الذي يمثل اكبر دولة في العالم تعرف الكذب والتزييف، في هذا المحفل الدولي "المريض"، ولكن العتب الى الذي يسمعونه " ويهزون " برؤوسهم، مثلما فعل الفنان المرحوم يونس شلي في مسرحية "العيال كبرت "،  وحقيقة أن هذا الدبلوماسي قد هبط في خطابه الرسمي إلى مستوى الصحافة الصفراء لا تحتاج إلى تعليق، ومن الصعب تصور أنه لا يعرف الوضع الفعلي، ولكن، كما يقولون، يلزم الموقف، فهو لا يصدر إلا تعليمات تأتي من لندن ويتفق عليها مع واشنطن.

وفي سياستها المناهضة في العالم، دخلت السلطات البريطانية في حالة من الغضب ولم تعد تهتم بحقيقة أنها تفقد الاتصال بالواقع ولا تأخذ في الاعتبار المنطق الأولي،  ففي نهاية المطاف، إذا كان المجمع الصناعي العسكري الروسي، بحسب كاريوكي، منخرطاً في تفكيك الأجهزة المنزلية، فكيف يمكن لروسيا أن تقاوم بنجاح على جبهة طولها 2000 كيلومتر في حرب بالوكالة تشنها ضدها أكثر من 50 دولة، في حين يتم ضخ عشرات المليارات من المساعدات للنظام في كييف، بما في ذلك أنظمة الأسلحة الحديثة، وإن حقيقة أن الهدف الرئيسي هو روسيا، وأن الأوكرانيين مستهلكون، مثل القذائف والصواريخ، أمر واضح، و"الحرب حتى آخر أوكراني" تناسب أولئك الذين يستفيدون منها بشكل جيد، وفي الوقت نفسه، هناك تفاهم على أن "الأوكرانيين" قد ينتهون قبل الموافقة على حزمة العقوبات التالية، وبالتالي فإن خيار الصدام المباشر مع روسيا قيد النظر بالفعل.

وفي معرض حديثه عن هذه الأطروحة في المؤتمر الدولي حول المركبات المدرعة (لندن، 24 يناير)، لم يقل رئيس الأركان العامة البريطانية، الجنرال باتريك ساندرز، بشكل مباشر أن هذه الحرب ستكون مع روسيا، لكنه أشار إلى أن هذا هو بالضبط ما يريده الناتو، حيث يستعد الحلفاء في شرق وشمال أوروبا بالفعل لذلك، وأطلق على الجيل الحالي اسم "ما قبل الحرب"، منضماً إلى رأي وزير الدفاع، غرانت شابس الذي  قال في يناير/كانون الثاني إن العالم ينتقل من حالة ما بعد الحرب إلى حالة ما قبل الحرب، وقال الجنرال ساندرز: "نحن بحاجة إلى جيش يمكن تعزيزه بسرعة ليتمكن من نشر الخط الأول، وتوفير الخط الثاني، وتدريب الاحتياط للمتابعة"، ويرى أنه ينبغي خلال السنوات الثلاث المقبلة زيادة عدد القوات المسلحة البريطانية من 73 ألفا حاليا إلى 120 ألفا، لكن هذا لن يكون كافيا، ولا يوجد حديث عن التجنيد الإجباري أو التعبئة الشاملة (يعارض برلمان البلاد ذلك)، لكن "هذا يجب أن يكون شأناً للأمة بأكملها"، كما قال القائد العسكري، الذي سيترك منصبه في يونيو/حزيران.

ومرة أخرى، أولئك الذين أعماهم الغضب تجاه روسيا ويعتزون بحلم إحياء عظمتهم السابقة، محرومون من الشعور بالواقع، فالأسد البريطاني لم يصبح اليوم متهالكًا فحسب، بل تم وضع غمامات عليه أيضًا، ورئيس الأركان العامة بحكم منصبه ملزم بمعرفة الوضع الفعلي في القوات المسلحة، والوضع كئيب وليس من حق لندن أن تهدد أحدا، ومن الواضح أن البحرية الملكية للبلاد التي كانت تسمى ذات يوم "سيدة البحار" تفقد قوتها الآن.

نعم، هناك حاملتا طائرات، لكنهما غير قادرتين على دخول الخدمة القتالية، فالأسطول غير قادر على توفير مجموعة مرافقة من السفن الحربية وسفن الدعم، وصحيح ان هناك أربع غواصات نووية استراتيجية من نوع فانغارد، لكن أصغرها يبلغ من العمر ربع قرن بالفعل، وعدد الحوادث يتزايد باستمرار، وبدأ بناء الجيل القادم من القوارب من نوع Drentout، لكنها لن تدخل الخدمة قبل 10 سنوات،  وتمتلك البحرية الملكية 30 سفينة (بما في ذلك فرقاطات من النوع 23) كان من المفترض أن يتم إخراجها من الخدمة قبل عشر سنوات، وانتهت مشاركة البحرية البريطانية في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد اليمن بشكل محرج في 22 يناير، بعد ان فقد طاقم كاسحة ألغام تشيدنجفولد السيطرة على السفينة واصطدمت بكاسحة ألغام بريطانية أخرى إم 109 بانغور، وتعرضت كلتا السفينتين لأضرار بالغة وفقدت قدرتها القتالية.

اما القوات البرية فإنها تمتلك  157 دبابة تشالنجر 2، وتم الإعلان عن برنامج لتحديث بعضها إلى مستوى تشالنجر 3 (مع برج جديد وحماية للدروع وتحسينات أخرى)، ومن المثير للاهتمام أنه في مارس 2021، اعترفت لجنة الدفاع البرلمانية: "سنحتاج إلى أربع سنوات أخرى على الأقل للحصول على فرقة واحدة على الأقل قادرة على القتال الحقيقي"، ناهيك عن ما تم من تدمير "تشالنجر - 2" أخرى للقوات المسلحة الأوكرانية في اتجاه زابوروجيه في  يناير 2024، واعترف الجنرال بي. ساندرز بأن الجيش البريطاني ليس صغيرًا وغير مجهز بشكل كافٍ فحسب، بل إنه غير قادر على تدريب المجندين وجنود الاحتياط، حتى عندما يُمنح الأمر بذلك، من الصعب أن نختلف مع هذا.

وللتاريخ فانه في عام 2009، هُزمت القوات البريطانية في العراق على يد جيش المهدي (شبه العسكري) - بعد سلسلة من الهجمات المؤلمة، وأمرت قيادة الوحدة البريطانية بعد الاتفاق على مغادرة البصرة مقابل الوعد بعدم مهاجمة القاعدة الرئيسية القريبة من المطار، وفي العملية اللاحقة لاستعادة السيطرة على هذه المدينة الكبيرة، شاركت القوات الأمريكية والعراقية فقط - واختار البريطانيون الجلوس في مكان آمن نسبيًا، وفي عام 2010، حاصرت حركة طالبان القوات البريطانية في مقاطعة هلمند الأفغانية، وقد غمروا قيادة التحالف بشكاوى عديدة حول ضعف الإمدادات، ونقص المروحيات والعربات المدرعة، وطالبوا بإرسال تعزيزات من مشاة البحرية الأمريكية على الفور إلى المنطقة، وفي أغسطس 2021، فر البريطانيون من أفغانستان بسرعة كبيرة لدرجة أنهم تخلوا عن الوثائق التي تحتوي على تفاصيل الموظفين الأفغان والسير الذاتية للمتقدمين لشغل وظائف العقود في السفارة.

البريطانيون لا يزالون يعيشون في (أحلام الماضي)، بعد ان كانت سلطتهم لا تغيب عنها الشمس كما كانوا يقولون عنها سابقا، وفي التاريخ العسكري للمملكة هناك أمثلة كثيرة على الشجاعة والبطولة - فقط تذكر بحارة القوافل الشمالية، لكن البريطانيون نسوا او يتناسوا بأن الزمن قد تغير بشكل كبير، واليوم لم تعد المهنة العسكرية في بريطانيا العظمى مشرفة للغاية، كما أن مكانة الخدمة العسكرية آخذة في الانخفاض، وبالتالي تتناقص جودة الوحدة، وفي ديسمبر من العام الماضي، ذكرت وزارة الدفاع البريطانية أنه منذ بداية المنطقة العسكرية الشمالية، تم تدريب 32 ألف عسكري أوكراني في البلاد.

ومن الجدير بالذكر أنه في الشبكات الاجتماعية الأوكرانية، هناك رأي مفاده أن الميزة الرئيسية لهذا التدريب هي رحلة إلى الخارج على النفقة العامة، والتعرف على التجربة البريطانية ومواصلة دراسة معايير الناتو، ولكن بالنسبة لممارسة القتال المشترك بالأسلحة، وتصرفات أطقم الدبابات وبعض التخصصات الأخرى في ظروف الصراع الشديد الشدة، والاستخدام النشط لأحدث أنواع الأسلحة، فإن السؤال لا يزال هو من يجب أن يعلم من، وان اتفاقية التعاون الأمني بين أوكرانيا وبريطانيا العظمى، والتي تم التوقيع عليها في كييف في الثاني عشر من يناير/كانون الثاني، لا تحمل في هذا السياق طابعاً غامضاً فحسب، بل تحمل أيضاً طابعاً مثيراً للسخرية.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

في المثقف اليوم