آراء

عبد السلام فاروق: مشاهد درامية في بلاد العم سام!

العام الأخير من ولاية بايدن قبل انتخابات نوفمبر القادم شهد أحداثاً خطيرة..

أخطرها ما حدث في غزة على مدار أكثر من خمسة أشهر. وخلال تلك الشهور رأينا مشاهد تبدو درامية وغريبة ! إننا لم نرَ الولايات المتحدة الأمريكية بمثل هذا الضعف والتراخي من قبل. لن أتساءل عن أسباب يعلمها القاصي والداني. كما لن أفسر تلك المشاهد فأقفز إلى استنتاج سبق وتحدثت عنه في مقالات سابقة أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد بنفس قوتها السابقة وأنها فى مرحلة أفول..

فقط سوف أستعرض تلك المشاهد معتمداً على ذكاء القارئ في استنباط ما يشاء من استنتاجات.

تمرد تكساس

لا يمكننا فهم ما حدث في ولاية تكساس من تهديد بالانفصال والاستقلال في أعقاب قرار المحكمة بهدم السور الفاصل بينها وبين المكسيك. والذي تسبب في أزمة بين حاكم تكساس وبين البيت الأبيض، بمنأي عما تمت تسميته بالحركة الترامبية، أو بمنأي عن فهم طبيعة الحياة السياسية في الداخل الأمريكي..

تهديد تكساس الأخير لم يكن الوحيد، بل حدث مراراً في تاريخها السابق. وهي تفعل هذا لعدة أسباب: منها أنها مثل جميع الولايات تتمتع باستقلالية القرار في ظل حكومة فيدرالية لامركزية. وطوال عمرها وهي تقبع في كنف الحزب الجمهوري. أي أن ثورتها تأتي دائماً كرد فعل ضد أي قرار خاطئ يتخذه رئيس ينتمي للحزب الديمقراطي.

السبب الأهم في تمرد حاكم تكساس شعوره بقوته التي تجعله بالقعل قادر على تنفيذ تهديده. فولايته هي من أكبر الولايات الأمريكية من حيث المساحة والقوة البشرية والعسكرية والاقتصادية. ومواردها هي الأكبر وبخاصة البترول. ثم إنه يتمتع بدعم الولايات الجمهورية الأخرى وقد يصل عددها إلى نصف الولايات الأمريكية.

ماذا عن الحركة الترامبية التي ظهر تأثيرها المرعب عقب ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقة؟ تلك الحركة التي وصل نفوذها وعنفوانها لدرجة اقتحام مبني الكونجرس وتهديد أعضائه. تلك الحركة التي تستعد لمناصرة الحزب الجمهوري ودعمه في انتخابات قادمة تشهد أكبر انقسام مجتمعي حاد في تاريخ أمريكا بما يشي بصعوبة هذه الانتخابات..

اختفاء بايدن

رأينا الخطاب الغريب للرئيس بايدن والذي بدا فيه مهتزاً عديم التركيز بما جعله ينطق بعبارات تنم عن ضعف ذاكرته وعدم أهليته لقيادة دولة بحجم أمريكا. وهو خطاب جاء بعد عدة مواقف سابقة له وهو يسقط أو يتلجلج أو يبدو تائهاً. كثرت المواقف من هذا النوع أمام كاميرات التقطتها وبثتها في كل العالم، لتصبح سمعة البيت الأبيض نفسها مهددة بما يسيئها. وهنا اختفي بايدن!

لم نعد نري بايدن إلا نادراً. وبدلاً منه ظهرت نائبته "كامالا هاريس" في مشهد عجيب قد يشير لتوليها أمر قرارات مصيرية نافذة. بدا هذا في خطابها الذي وجهته لإسرائيل تدعوها للاستجابة للدعاوي التي تنادي بتغيير منهجها الدموي في حربها مع غزة والاتجاه نحو دعاوى الهدنة والوصول لحل جذري للقضية الفلسطينية بدلاً من الصلف والعناد الذي يتخذه نتنياهو. وجاء الخطاب متزامناً مع لقاء أجرته كامالا مع بعض وزراء حكومة نتنياهو بشكل غير رسمي أغضب الأخير ووتر العلاقة بينه وبين البيت الأبيض.

الغريب في الأمر أن خطاب هاريس بدا حاسماً كأنه صادر من الرئيس الأمريكي ذاته. فهل ستصبح كامالا هي مرشحة الحزب الديمقراطي القادمة لرئاسة أمريكا؟!

عودة ترامب

على الناحية الأخرى شاهدنا عودة ظهور اسم ترامب مرة أخري على ساحة المرشحين للرئاسة. يحدث هذا برغم كل القضايا والاتهامات والأحكام التي صدرت ضده، ومنها أحكام تطعن في أهليته للحكم. فهل تفلح محاولات إبعاده عن المشهد أم يفلح هو في فرض قراره بمعاونة مناصريه من المنتمين للحزب الجمهوري في الشارع الأمريكي ودوائر القرار؟!

مهما كان الاتجاه فإن مجرد عودة ظهور ترامب يمثل خطورة في الشارع الأمريكي الذي يشهد بالفعل حالة من الانقسام والتشرذم والاحتقان لأسباب كثيرة أهمها غلاء الأسعار وارتفاع نسب البطالة وانحدار مؤشرات الاقتصاد الأمريكي في ظل حربين تخوضهما أمريكا بالنيابة إحداهما في أوكرانيا والأخري في غزة. وتلك الحرب الأخيرة تسببت في توسيع الفجوة بين الشارع الأمريكي وبين إدارتها داخل أروقة البيت الأبيض. وهو الانقسام الذي ينذر بحدوث الأسوأ في الانتخابات القادمة قرب نهاية هذا العام.

مظاهرات نيويورك

منذ مظاهرات الوول ستريت التي حدثت في أمريكا منذ نحو عشر سنوات مضت وملأت شوارعها لم تشهد أمريكا مظاهرات بهذا الحجم الكبير كما حدث في ميادين أمريكا الكبرى اعتراضاً على مجازر إسرائيل في غزة، وعلى القرارات الكارثية التي تتخذها إدارة بايدن لتأجيج الوضع هناك والتي أدت لما نشاهده اليوم من تفاقم الوضع الإنساني هناك، دون أن يحدث أي حسم لهذه الحرب.

أمريكا أصرت على دعم إسرائيل عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ووقفت أمام العالم كله شاهرة الفيتو في وجه كل الدول التي نادت بالوقف الكامل والفوري لإطلاق النار! والواضح أن الإدارة الأمريكية لم تعد تعبأ بكل هذا الغضب الذي يبديه الشارع الأمريكي تجاه ظلمها وعنجهيتها. ربما تفتر المظاهرات غداً أو بعد غد، وربما تقل حماسة الجمهور الأمريكي المعترض على سياسات إدارتها، لكن ستبقي النار كامنة تحت الرماد تنتظر هبة ريح تعيد إشعالها من جديد.

والأكيد أن مثل هذا الغضب له تأثير ضخم ممتد، بدليل مشهد انتحار أحد طياري أمريكا حرقاً!

اعتراض الجنود

المشهد العجيب الذي حدث أمام الكاميرات، والذي أحرق فيه أحد الطيارين الأمريكيين نفسه اعتراضاً على حرب غزة ورفضه للمشاركة في مجازر الحرب. ثم هتافه لفلسطين كآخر كلمة يصرخ بها وهو يشتعل. مثل هذا المشهد يعيد للأذهان مشهد اعتراض الجنود الأمريكيين بعد سنوات من معاناتهم أثناء حرب فيتنام.

حاملة الطائرات التي أرسلتها أمريكا للمشاركة في حرب غزة فور بدئها انسحبت، واستبدلتها الإدارة بفكرة ميناء عائم لجلب المساعدات، أو ربما لتأمين مخططات ما بعد الحرب. إلا أن هناك اعتراض لدي فريق من الجنود داخل الجيش الأمريكي ضد المشاركة في حرب الإبادة والتجويع في غزة. وهو ما بدا من ردة الفعل التالية لمشهد الطيار المنتحر؛ حيث تلاه مشهد آخر لعدد من الضباط والجنود يحرقون ملابسهم العسكرية تعاطفاً مع زميلهم المنتحر.

أمام هذا التمرد الذي فضحته الكاميرات، لا يمكن للبنتاجون أن يقف متفرجاً دون أن يكون له موقف في بلد بات يعاني انقساماً مجتمعياً خطيراً قبيل انتخابات يبدو أنها الأهم والأخطر في تاريخ أمريكا.

تهديدات الحوثي

الملاحة في مضيق باب المندب مهددة. سفن كثيرة تعرضت للقصف والأسر. لدرجة أن سفينة بريطانية غرقت بالفعل، وسفينة أخرى سقط فيها قتلي نتيجة القصف العنيف. ثم ارتفع حجم التهديد باستهداف بعض كابلات الإنترنت. الأمر الذي جعل خطر الحوثي يستفحل ويهدد المصالح الأمريكية بمنطقة البحر الأحمر. لكن أمريكا ومعها بريطانيا لم تردا بالشكل الكافي بما يردع مناوشات وتهديدات الحوثي، والسبب أنها تخشي اتساع نطاق الحرب في الوقت الذي ترزح فيه أمريكا لضغوط هائلة من روسيا والصين ومن الداخل الأمريكي المنقسم على ذاته قبيل الانتخابات ومن الوضع الاقتصادي الذي يسوء أكثر يوماً بعد يوم.

وبغض النظر عما ستسفر عنه المواجهة بين الحوثي وإيران من جهة، وبين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين من جهة أخري، فإن المحصلة أن الولايات المتحدة تبدو أضعف وأقل قدرة على الردع أمام أعدائها الأهم والأقدم: روسيا والصين.

كل تلك المشاهد الدرامية وغيرها لها دلالة. وخاصة أنها تأتي متتابعة متسارعة وكأنها تمهد لمشاهد قادمة قد تكون أكثر إدهاشاً وغرابة!

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم