قضايا

رجال لا أمن الحضارة الإنسانية

hamza alshafiفي الوقت الذي يَحْمِل فيه رِجَالُ أَمْنِ الحضارة الإنسانية هَمّ تحرير وحِماية الحضارة الإنسانية بأكملها من شَبح الدمار وهاجس الزوال عبر العصور والأمكنة فان رِجَالَ لاَ أَمْنِ الحضارة الإنسانية يسعون جاهدين إلى القضاء عليها مُدججين بشتى المبررات ومرتدين مختلف الأقنعة. رِجَالُ لاَ أَمْنِ الحضارة الإنسانية, عكس رجال أمنها, يَسْهُلُ التعرف عليهم دون عناء كما لا تحتاج عملية إدانتهم وشجب أفعالهم وتوجهاتهم إلى إِعْمِالِ عقل إنساني أو عَقْدِ مداولات حضارية مَارَاثُونِيَّة يَصْدُرُ فيها حُكْم يَتْلُوه نقيضه وهكذا دَوَالَيْك.

رِجَالُ لاَ أَمْنِ الحضارة الإنسانية مَسْؤولُونَ يَنتشون طَرَبًا عند تفاقم الحدود السياسية المتغيرة التي تفرق الأقطار مَهْمَا َأَلَّفَتْ بين شعوبها عناصر أهم وأعظم وأكثر قدرا من الثبات كاللغة (التواصل) والثقافة والتاريخ والمُعْتقد. لذلك نراهم يُسارِعُون في افتعال الأزمات وتَغْوِيل خطورة الهواجس واختلاق مبررات غير منطقية وتسويقها لِزَرْعِ وضمان توهج فتيل اللاحوار واللااندماج بين البلدان سواء كانت مُتجاورة أو مُتباعدة. إنهم رجال يَرْبطون عِلة وجودهم ونجاح مهمتهم بمدى كِبَر الهوة وفداحة الشرْخ بين قُطْرَيْن أو أكثر. الأخطر من ذلك, تهافتهم الفظيع في التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان وسعيهم الحثيث لتقطيعها وبلقنتها بُغْية خلق دويلات وهمية لأغراض سياسية نفعية صِرفة تتنافى مع نداءات الوحدة والاندماج المرفوعة من طرف اللغة والثقافة والتاريخ والمصير المُشْتَرَكْ.

رجال لاَ أمْنِ الحضارة الإنسانية سِيَاسيون اختاروا التهريج دَرْبًا والازدراء مَذْهَبًا والعَبث مَنْهَجًا والافتراء طَرِيقَةً. لذلك فهم لا يَدخرون جُهْدًا في السخرية من أي لغة من لغات الإنسانية ومن رموزها وإن كان تاريخها أعرق من تاريخ آباءهم وتاريخ لسانهم. إنهم رِجَالُ لاَ أَمْنِ الإرث اللغوي الإنساني العالمي اللذين غَزَتْهُمْ أمراض الدغمائية الثقافية والتعصب اللغوي المناهضين لتقبل واستيعاب كل الأنماط والأصناف المُغايِرَة والمُتجددة والمُسْتَحْدَثة. يَغيبُ عن حِسَابات هؤلاء أن تشويه لغة الآخر (المستهزأ بها) هو بالضرورة تشويه للغة الذات (اللغة المحتفى بها) نَظرًا لِكَون جميع لغات العالم دون تمييز إرثا مُشْترَكاً في مِلْكِية الإنسانية جمعاء. كما أن احتقار وتَمَني دمار ثقافة الغير/المختلف وتمجيد ثقافة الذات بنرجسية مقيتة يَعْكِسُ مدى التخلف الإنساني والحضاري لهؤلاء لأن تكامل وجمال واستمرارية وإنسانية أي ثقافة لن يتحقق بمعزل عن الثقافات الإنسانية الأخرى التي خَلفهاَ أو التي لا زال يُنتجُها الإنسان على مر العُصُور والحِقب في مغارب الأرض ومشارقها بَعيداً عن التشتذرات الجغرافية والمَجَالِية والنعرات القومية والدينية والنرجسيات اللغوية والثقافية.

رِجَالُ لاَ أَمْن الحضارة الإنسانية قُشُورُ مثقفين ورُذَالُ مُقرئين وأشباه دُعَاة أُصِيبوا بالغرور وانطلقوا الخُيَلاَءَ مزهوين بكثرة "مَقروئياتهم" عَدَداً وكَمًّا هائلا وحِفْظًا عن ظهر قلب وليس فهما و كَيْفاً نافعا ونقدا ذاتيا. إنهم كائنات مكتباتية مُنفصلة عن الحقيقة ومُتجاوزة طال نَظَرُهاَ في الكتب الصفراء المُؤَدْلَجَة والمُؤَدْلِجَة حتى تَعَطل لديها عَمَلُ وعَصَبُ ومفعول المادة الرمادية فتراهم حِينًا يَدْعون إلى إبادة لغة بعينها لإقامة أخرى كَرْهًا وحِينًا آخر لا يَستحيون من السخرية من قوم أو عِرْقٍ معين ذنبه الوحيد تشبعه بهوية التسامح وانتماءه لوطن الإنسانية وإيثاره للغة الآخر المُختلف تماما على لغته وَلَوْ لم يَكُنْ بِهِ خَصَاصَةٌ. هذا الصنف من رِجَالِ لاَ أَمْن الحضارة الإنسانية مُجرد كائنات وحيدة القرن/الرأي لأنها من فَرْطِ غرورها برصيدها المعرفي المثقوب والمنهوك بإيديولوجية الدحق والطرد والإزاحة والإجتثات لا تتوانى كلما خلقت فرصة بمكرها المعتاد أو سنحت لها الفرصة من تلقاء نفسها في تمجيد لسانها وذاتها وحضارتها مع احتقار والاستهزاء بغيرها المتعدد والمختلف وكأن العالم حسب اعتقادها خُلق وحيد اللغة والثقافة والطقوس.

رِجَالُ لاَ أَمْن الحضارة الإنسانية أفراد وجماعات لا يتألمون إلا إذا تيقنوا أن العالم من حولهم يَنْعَمُ بالأمن والطمأنينة والتقارب والحوار. إنهم أفراد وجماعات جعلوا من دمار ولا هناء غيرهم البريء شرطا وحيدا لا جدال فيه لسعادتهم وأمانهم واحتفالهم. كما جعلوا من أمن وصفاء عيش الإنسان عاملا مُزعجا يَقض مضجعهم ويُرْعِد فرائسهم ويُزيل النوم من عيونهم التواقة إلى اللاامن والخراب والترهيب. التسامح والحوار والليونة والتأقلم والواقعية مفاهيم حُبلى بالمخاوف بالنسبة إليهم وهي بمثابة ابرز الطابوهات في مذهب هذا الصنف من رجال لا أمن الحضارة الإنسانية بينما يُمثل كل من العنف والقطيعة والفظاظة والنفور والمثالية المبالغ فيها زُبْدَة مقدساته وممارساته وتطلعاته ومفاهيمه المَرجعية. منبع لا استقامة هذا الصنف يكمن أساسا في التشبع بأفكار ونزعات غير سوية مبنية على نعرات عرقية متطرفة ومرجعيات دينية ومذهبية متشددة وأخرى فكرية عنيفة ومغالية وعلى خلفيات لغو-ثقافية نرجسية وإقصائية.

رِجَالُ لاَ أَمْن الحضارة الإنسانية هياكل عظمية خاوية ودوغمائية إنطوائية تفتقد لقيم التعايش والتسامح واحتضان الآخر وفي مقابل ذلك تؤمن حد العمى بالعُنف ضد الإنسان وتتلذذ بتخريب قيم الإنسانية السامية وتسعى جاهدة إلى تدمير كل جوانب حضاراته الراقية. تلك الفئة من رجال لاَ أمن الحضارة الإنسانية تَعتقد أن تفوقها يتحقق عندما تتلقى الحضارة الإنسانية ضربة موجعة تُفقدها مُعظم أو بَعْض ركائزها الأساسية . لذلك، فالفئة السالفة تصارع من أجل محو لغة أو لغات معينة مع تقديس وفرض أخرى بكل الوسائل. كما أنها تَدْفِنُ الحقائق وتُزَور التاريخ بُغية ابتداع آخر من فراغ أو من خلال أساطير العِرْق والتحضر والانتماء والطهرانية. عِلاوة على قتل اللغات وطمس التاريخ، تَسْعَى هذه الفئة إلى القضاء على ما تيسر لها من أسس وثوابت (استمرار وانبعاث) الحضارة الإنسانية بشقيها المادي واللامادي مثل الآثار والتحف والأماكن التاريخية وكل أصناف التعبير والممارسات الأدبية والثقافية. الأخطر من ذلك كله، هو محاول طمس والقضاء على الإنسان تحت تأثير جرعات دينية ومذهبية زائدة أو عرقية متعصبة أو ثقافية ذات أهداف إقصائية وإستولائية واحتوائية ، أو جنسية نوعية أنانية غير متزنة ولا منطقية.

يتضح إذن أن غاية رِجال لاَ أَمْن الحضارة الإنسانية الكُبرى هي تدمير الإرث الحضاري الإنساني تحت ذرائع متعددة وأقنعة متغيرة. من تجليات رغبتهم في تخريبهم الإرث الحضاري الإنساني سعيهم الحثيث لتمزيق الأقطار رغم "نداء الحضاري المشترك" بينها لخلق دويلات وهمية وتحقيق مصالح سياسية وإستراتجية متذبذبة تنفي بل تغتال العمق الإنساني الثابت لدى شعوب تلك الأقطار. إضافة إلى انتهاز كل الفرص للسخرية من لغات العالم العريقة واستصغارها ومحاولة إجثتاتها واحتقار ناطقيها بالموازاة مع تقديس لغة الذات وفرضها على شعوب مختلفة سواء بالحيلة أو بالقوة. رِجَالُ لاَ أَمْن الحضارة الإنسانية يسعون أيضا إلى زرع الخوف والعنف واللاسلم بين شعوب العالم الإنساني تارة باسم العِرْق والنوع واللون والتفوق العسكري وتارة أخرى باسم الدين والمُعْتَقَد والثقافة واللغة. في خضم ذلك كله، من حق الحضارة الإنسانية أن تحزن وتعلن حدادا تأمليا تحصي خلاله خسائرها المادية واللامادية الكبيرة بفعل ضربات رجال لا أمنها الموجعة والمتكررة في الزمان والمكان. بالمقابل يحق للحضارة الإنسانية أن تتفاءل وتنشد البقاء والازدهار والرقي في ظل صمود وتجدد رجال أمنها المشكلين أساسا من شعراء ملتزمين وكتاب وباحثين ومثقفين عضويين ورسامين ونحاتين مبدعين إلى جانب دعاة إنسانية متسامحين ولَينين ومولعين بالإنسان وحضارته!

 

حمزة الشافعي

أفانور/المغرب

22.01.2015

.......................

ملحوظة: المرجو الإطلاع على مقالي السابق بعنوان "رجال أمن الحضارة الإنسانية"، صحيفة الشرق عدد رقم (٩٠١) صفحة (١٤) بتاريخ: ٢٣ -٠٥-٢٠١٤، الرابط :

(http://www.alsharq.net.sa/2014/05/23/1147323)

 

في المثقف اليوم