قضايا

أخلاقيات النظام الإسلامي

jaffar almezeherحزب الدعوة كان أمل المنتمين إليه، الذين تطلعوا لعمل إسلامي جماعي، وذلك بعدما أدركوا في حقبة الستينيات وما بعدها أن نظام عوائل الإقطاعيات الدينية لن يفسح المجال لأحد بأن يكون له موقعا أساسيا داخل الخارطة السياسية والفكرية بالعراق 'بعنوانها الديني' إلا من خلال هذه الإقطاعيات وعوائلها المهيمنة. ومرت السنين والأيام.. وإذا بحزب الدعوة -الذي كان أملا يرتجى- يتحول إلى إقطاعية كـ باقي الإقطاعيات التي تأسس على الضد منها، فأصبح الحزب بدل أن ينظر -بعد سقوط البعث- لقواعده وكوادره الوسطى المنتشرة على أغلب خارطة العراق؛ لأجل أن يشملها باستحقاقاتها الإنسانية الطبيعية، وكل حسب قدرته واختصاصه، نجد هذا الحزب قد احتكر المواقع والوظائف المهمة على عوائل وأقارب زعماء الحزب وقادته الكبار، فمن الجعفري، لخضير الخزاعي، لنوري المالكي، للسنيد، والقائمة تطول.. فكل هؤلاء احتكروا المواقع والوظائف لـ: أخوتهم، وأبنائهم، وأصهارهم، وأقاربهم، بعدما كان جل هؤلاء الأبناء والأصهار زعاطيط يتسكعون في أزقة طهران ودمشق ولندن، أو أقاربهم الذين كانو خانسين تحت خيمة البعث، ولا يهمهم لا من قريب ولا من بعيد ما كان يعانيه العراقيون من ضيم البعث.

كان المنتمون -وهذا جهل منهم غير مبرر- بأن أغلب قادة الدعوة وحتى باقي قادة الأحزاب الدينية أخذوا يندفعون منذ تبوأهم المواقع القيادية في الحزب نحو الانغلاق، ليتحولون بمرور الزمن لطبقات متعالية اجتماعيا واقتصاديا، ويتحولون كذلك لعوائل منغلقة على ذاتها، وغير قادرة على الإنفتاح على باقي شرائح المجتمع العراقي في المهاجر أو حتى داخل العراق!. وهذا التعالي ليس صدفة، وأنما هو كـ عودة الأبن الضال لحظن أمه؛ فهؤلاء عادوا للحالة الطبيعية التي تشكل منظومة القيم للنظام الإسلامي. لقد أثبت التاريخ الراهن، والتاريخ الإسلامي بشكل عام: أن النظام الإسلامي أبعد ما يكون عن الشفافية سواء في تاريخه الأول، أو في كل مراحله المتعاقبة، وليومنا هذا، وما الزهد والتقشف -وبنسب متفاوتة- في شخصية الخليفة عمر، والإمام علي، والصالح الأموي عمر بن عبد العزيز، والسيد الخميني في القرن العشرين، إلا ظواهر فردية وشاذة، ولا تعبر عن روح النظام الإسلامي، الذي هو في مجمله نظام شأني وطبقي. فالأنماط الحقيقية المعبرة عن النظام الإسلامي ترسمها التشكلات الإقطاعية والعشائرية، وفي الحقيقة التاريخية ليس هناك عنوان اسمه (روح الإسلام) استطاع أن يحكم المجتمع الإسلامي إلا في اللحظة التاريخية التي حكم بها علي بن أبي طالب عليه السلام، وحتى الشخصيات التي ذكرتُها بزهدها وتقشفها، كانت لحظاتها التاريخية في الحكم لا تمثل روح الإسلام، وإنما هي كانت بشخوصها ميالة للزهد والتقشف، ولم تستطع أن تجعل النظام الذي أدارته معبرا عن روح الإسلام: ما شبع غني إلا بما جاع فقير.

إن النظام الإسلامي غير قادر أن يرعى مجموع المنتمين للدولة الإسلامية المفترضة؛ لأنه نظام لا يتحرك في الواقع وللواقع، وإنما هو نظام تحكمه مقولات فقهية بالية تشكلت وفق أمزجة فردية وسياسية، والروح الحقيقية التي تدير النظام الإسلامي هي: روح العائلة و روح العشيرة، وتبقى هذه الروح تعزز رصيدها وزخمها من الموروث الديني في أفهامه وتأويلاته، وكتب الفقه تعج بشرعنة وتأصيل هذه الروح من خلال تكريس وتأكيد الفوارق الطبقية والاجتماعية، ومن الأمثلة البسيطة التي حضرتني -وأنا أكتب هذه الإشارة- قانون الشأنية الذي على أساسه يتم فرقنة الناس وتمييز احتياجاتهم على أساس الأنساب والمراكز الاجتماعية، لتمتد هذه الفرقنة و التفاوت بين الناس إلى العطاء، والتصاهر، والتواصل الاجتماعي في علاقاته البينية؛ فالفقير وبسيط النسب ليس له أن يطالب أو يعطى أكثر مما يناسب شأنه، والوجيه ورفيع النسب ليس لأحد أن يمنع عنه (مال الله) بما يناسب ويليق بوضعه الاجتماعي والوجاهي والنسبي (!) وهذا التقعيد الفقهي والشرعي ليس حكرا على مذهب دون مذهب آخر، فالسنة والشيعة سواء في هذه التقسيمات الطبقية الحادة!.

أختم بقناعة، وهي: أن روحانيات الدين الإسلامي هي من أروع روحانيات الأديان التي تمارسها البشريات المختلفة في هذا الكون الفسيح، وهي روحانية قادرة أن تجعل الإنسان بأن يكون مستقرا، ضميريا وعاطفيا، لكنها غير قادرة أن تبشع بطنه، أو أن تحفظ كرامته الاجتماعية والفردية؛ لأن مفهوم الكرامة هو مفهوم لا يدخل في الروحانيات، بل هو نسق من الأنساق التي تتشكل أو يعتنى بها من قبل النظام، والنظام الإسلامي غير مبني على هكذا أنساق شفافة وبسيطة؛ لأنه وبكل بساطة هو نظام معقد ومركب بتركيبات وفوارق شاسعة تدخل في تشكليها-كما ذكرت آنفا- الأنساب والفوارق الاجتماعية والطبقية.

 

في المثقف اليوم