قضايا

المال اخطر من الدكتاتورية

fakhry mashkorمفهوم، وربما مهضوم، أن يَقْتُل الانسانُ أخاه الانسان خشيةَ أن يُقْتَل

"ان لم تَقتل قتلناك" معادلة اعتمدتها الدكتاتوريات في ادارتها لانظمة القتل من جيوش في الساحات أو قوى أمن في الزنزانات .. القتل أوامر واجبة التنفيذ، من يعصها يقتله من يقف جنبه أو من يقف فوقه في تراتبية النظام العسكري أو الأمني الذي يحمي الدكتاتور.

معادلة " ان لم تَقتل قتلناك " عاشت عليها دكتاتوريات عريقة من ستالين النموذج الى صدام النموذج. الجندي او عنصر الأمن يقتل خشية ان يُقتل من منتسب آخر لنفس النظام، وهذا المنتسب الاخر أيضاً يقتل من لم يَقْتُل خشية ان يقتله منتسب ثالث..... وهكذا تستمر سلسلة " القتل " مع سلسلة " الخشية من القتل " الى ان تصل الى الدائرة الضيقة المحيطة بالدكتاتور والمتكونة من بضعة أفراد يقتلون خشية ان يقتلهم الدكتاتور نفسه.... وهكذا ينتشر القتل ليقضي على البلاد والعباد ولا يبقى الا الدكتاتور والأموات الأحياء الذين وصفهم بدوي الجبل أروع وصف بقوله:

نحن موتى، وشرُّ ما يفعله الطغيانُ موتى على الدروبِ تسيرُ

نحن موتى وإن غدونا و رحنا، والقصور المشيدات قبورُ

نحن موتى... يُسِرُّ جارٌ لجارٍ مستريباً: متى يكون النشورُ؟

لهذه الخطورة أباحت الشريعة الاسلامية لمن يتعرض للقتل ان يتحلل من العديد من قيودها، الا قيداً واحداً هو : القتل. يجوز لك ان تفعل أشياء كثيرة لكي تنجو من القتل، لكن لا يجوز لك ان تقتل غيرك لتنجو من القتل. المشرع الاسلامي يعرف ان اباحة القتل للنجاة من القتل تؤدي الى قتل الجميع.

لكن هناك ما هو اخطر من القتل في اطالة عمر الدكتاتوريات واستمرار القتل والابادة.... انها آلية اخرى أقوى تأثيراً وأوسع نطاقاً من القتل. انها المال، نعم المال، هذه القوة الناعمة التي تجعل الجياع المضطرين كما الطامعين المختارين يقتلون لكي يحصلوا عليه.

القتل لا يؤثر الا في الخاضعين لسلطة الدكتاتور، وداخل حدود ملكه، اما المال فهو قوة عابرة للحدود، عابرة للقارات، عابرة للجنسيات والمذاهب والأديان والأيديولوجيات....بل عابرة للأفراد الى المنظمات والحكومات... ولولا خشية الوقوع في الهرطقة لقلنا: ان قوة المال عابرة للأرض وواصلة الى السماوات.

نعم، بالمال لا بالقتل استمرت دكتاتورية معاوية التي حكمت بلدانا وشعوباً لا يستطيع القتل ان يُخضع ربعها او عُشرها، فكان "إسقاط العطاء" آلية سهلة لإخضاع شعوب بكاملها.

اما ملك الري، وقيادة الجيش والاستيزار، والمعطيات والجوائز فهي تجليات اخرى لقوة المال الناعمة التي تحشد بعض من عاصرَ رسولَ الله ليضع احاديث تشرعن اغتصاب الحاكم للسلطة وتحقن الشعب بالمورفين المقدس لكي يخضع له ولو جلد ظهره وأخذ ماله، فالصلاة خلف علي أتمّ، والطعام مع معاوية أدسم.

والمال هو الذي جعل عمر بن سعد يقود الجيش الذي قتل الحسين والجنود الذين شاركوا اما طمعاً بالجائزة، واما خشية إسقاط عطائهم.

خارج حدود سلطة الدكتاتور يجنّد المال لخدمة القتل الافاً مؤلفة من إعلاميين ومثقفين اشترتهم السعودية على مدى عقود فاذا بهم يشكلون اليوم ٨٠.٪ من الاعلام العربي

وبالمال اشترت فقهاء وشيوخاً تحولوا من سنّة الى وهابيين ينشرون الفكر الذي تحتاجه المملكة الوهابية الفلوسية في العالم الاسلامي لكي تحوّل مرجعيته من الازهر والزيتونة وأمثالهما الى الفقهاء البدو العميان والعوران الذين يفتون بضلال من يعتقد بكروية الارض و يحرّمون الانتخابات ويهدرون دم المعارضة داخل المملكة وبالجهاد خارجها.

بالمال اشترت السعودية حكومات دول كبيرة مثل مصر والباكستان والاردن والمغرب،

وبالمال اشترت الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي وأخيراً مجلس الأمن الذي يتجنب - ولأول مرة في تاريخ النزاعات- الإشارة الى ضرورة وقف إطلاق النار في اليمن!

بالمال اشترت السعودية موقف بريطانيا التي يعتمد نصف اقتصادها على الودائع السعودية والعقود السعودية والاستثمارات السعودية

وبالمال اشترت موقف فرنسا التي باعت لمملكة الشر أسلحة لا تحتاجها، وهبةً سعودية للبنان لا تصلح للدفاع عن لبنان بقدر ما تصلح للدفاع عن سمعة السياسيين الذين اشترتهم من طبقة المتعاطفين مع اسرائيل وجبهة النصرة.

وبالمال السعودي تدور ماكنة البنوك الامريكية التي تنهار في نهار لو سحبت المملكة الفلوسية جزءاً يسيرا من أرصدتها فيها.

بالمال، وبالمال وحده اشترت مملكةُ الشر جميعَ هؤلاء وغيرهم لكي تصل الى تأييدٍ عارم أو سكوتٍ حاسم على جريمتها في اليمن فتمارس ابشع صور قتل المدنيين وشرَّ ألوان هدم البنية التحتية، وأقسى حصار غذاء ودواء ومحروقات على شعب كامل ولا تجد منبراً واحداً - الا ما ندر- يغطي( فقط يغطي) هذه المجزرة الشاملة دون ان يبررها.

لنترك الاعلام العربي وعاصمته بيروت، ولنأخذ مثالاً من إذاعة لندن التي يرى كثيرون انها حيادية وموضوعية، وندقق في الخبر التالي:

"مزاعم عن سقوط مدنيين في غارات التحالف على الحوثيين.... في إطار ما يسميه الحوثيون بالعدوان السعودي عليهم"

اذن سقوط المدنيين هي مزاعم لم يتسنَّ لمؤسسة ب ب س التحقق منها!!

والقصف السعودي على اليمن هو عدوان فقط برأي الحوثيين، وهو فقط يطال الحوثيين!!

الى هذا الحضيض تنحط اعرق مؤسسة إعلامية في العالم بسبب المال.

الحكام العرب والسياسيون العرب والاعلاميون العرب والمحللون السياسيون العرب والفقهاء العرب والمفكرون العرب و....و.... كلهم - الا القليل القليل - اما ساكتون، واما يتبجحون ببطولة دولة ذاقت الذل والهوان بسكوتها على الرصاص الاسرائيلي المصبوب على غزة والساكتة على البصاق المسكوب في عيون ملوكها وشيوخها، والحذاء الامريكي المرفوع على راسها لو تكلمت، هؤلاء المحللون المتحللون من كل القيم يمدحون شجاعة القوات السعودية التي تقصف شعبا اعزل، وهي تعلم ان اخسّ انواع الجبن هو الاستفراد بالضعيف...هؤلاء المتبجحون بالحسم والعزم تجاه الشعب اليمني ناسين الهزيمة والسخيمة امام العدو الاسرائيلي كيف يفتخرون بطائرات الفانتوم التي اشتروها بالمال، كما يفخر العنّين بفحولة ابيه.... ترى ماذا كانوا يقولون لو كانت الفانتوم صناعة سعودية؟ وماذا كانوا فعلوا لو كانت السعودية تصنع بنفسها طائرات من دون طيار؟

هؤلاء المتبجحون الذين يتجاهلون سكوت مملكة الشر على احتلال جزرها في البحر الأحمر، وسكتوا ايام الشاه على جزر الإمارات، ما بالهم يتباهون بقصف البنية التحتية والمناطق السكنية؟

الا يعلمون ان الجبان يعوض هزيمته امام الأقوياء بالانقضاض على الضعفاء ؟

اذن لماذا يقفون مع القوي الظالم ضد الضعيف المظلوم ؟ هل يخافون من القتل؟ ام يطمعون بالمال، خشية ان يسقط عطاؤهم؟

ارايتم ان المال أقوى من القتل في خدمة الدكتاتوريات ؟

كلا.... ان الانسان ليطغى، أن رَآه استغنى

في المثقف اليوم