قضايا

عندما رفضت اوكرانيا التعاقد مع العراق

fakhry mashkorتفاجأ مدير مكتب رئيس القائمة عندما لم يجد من يستقبله في مطار كييف. اعتبرها اهانة للعراق .. كيف توجّه دولة مثل اوكرانيا هذه الاهانة الى مدير مكتب رئيس قائمة كبيرة في البرلمان العراقي؟

لا يمكن ابداً ان يكون الامر خطأً غير مقصود، فالزيارة متفق عليها بين رئيس القائمة وبين الخارجية الاوكرانية. صحيح انها كانت سرية للغاية، وصحيح ان رئيس القائمة لم يحضر بنفسه؛ لكن ذلك كان متفقاً عليه مع اوكرانيا بسبب حساسية الامر وخطورته .

لماذا لم ترسل الخارجية من يستقبل مدير مكتب رئيس القائمة؟

ظل السؤال يرن في رأس مدير المكتب وتحوّل الى عاصفة حين رفضوا ان يقدموا له اية مساعدة او تسهيلات بالرغم من انه ابرز جوازه الدبلوماسي. استشاط غضباً، لكنه لم يستطع فعل شيء هو مضطر هنا لاحترام القانون، فهنا اكرانيا وليس العراق.

جلس يفكر وهو يرتعش .. اتصل برئيس القائمة مضطراً لان التعليمات كانت تقتضي عدم الكشف عن رحلته السرية، فأيّ كشفٍ او تسريب يشكل خطراً لن يصل – في كل الاحوال- الى حد كشف اوراق رئيس القائمة، فكشف الاوراق لم، ولا، ولن يحصل في العراق.

بعد عدة محاولات اتصال فاشلة - بسبب اغلاق رئيس القائمة للخط - نجحت المحاولة العاشرة، وكانت المكالمة قصيرة جداً احتوت امراً حاسماً بابتلاع كل شيء من اجل نجاح المهمة، لأن الهدف أهم من الكرامة

****

اضطر مدير المكتب لدخول كييف كسائح عادي .. صعد في احدى سيارات تكسي المطار وتوجه مباشرةً الى الخارجية الاوكرانية، وهناك، وبعد جهد جهيد، تمكن من اللقاء بمسؤول من الدرجة الثالثة، ففهم انه غير مرحّبٍ به، لكنه ابتلع الاهانة مرة اخرى، فالتعليمات تقتضي ابتلاع كل شيء...بلا استثناء...من اجل نجاح المهمة.

****

بدأ المسؤول الاوكراني الحديث بدون مقدمات فقال:

- ليس في الامر خطأ اطلاقاً، لقد كنا اعددنا كل المراسم لاستقبالك وفق البروتوكول المتبع في الزيارات السرية للمسؤولين الكبار، لكن الترتيبات الغيت في اللحظات الاخيرة بعد ورود معلومات عن الهدف الحقيقي من زيارتك.

- هل يمكن ان تعطيني ايضاحات أكثر؟

- لقد كانت حكومتي تتصور ان الزيارة تتعلق ببيع اسلحة اوكرانية لبلدكم لتطهيره من الارهاب الذي احتل ثلثه، وانتم تواجهون مشكلة نقص السلاح. رأت بلادي انها فرصة جيدة لفتح علاقة اقتصادية مع العراق كبلد غني محتاج للسلاح المكدس في مخازننا منذ الفترة السوفييتية. وفي هذا الاطار فهمنا سرية الزيارة وفسّرنا عدم حضور رئيسك شخصياً على انه مبالغة في الحرص على سرية الصفقة العسكرية، لكننا عندما عرفنا حقيقة الصفقة التي ينوي رئيسك ابرامها قررنا ان نوجه لكم رسالة من خلال رفض الاستقبال. انتهت المقابلة.

ابتلع مدير المكتب الاهانة، فهو مكلف بابتلاع كل شيء .. بلا استثناء .. بل لم تكن تلك الاهانة شيئاً صعْبَ الابتلاعِ عنده...بل ان رئيس القائمة نفسه لم يكن ليصل الى ما وصل اليه لولا ابتلاعه لكل شيء... فهذا هو الطريق الى "المجد السياسي" في العراق الجديد.

***

غادر مبنى الخارجية ونزل الى الشارع وفي رأسه قرارٌ وخطة.

القرار هو انجاح المهمة مهما كلف الامر، فسيفقد منصبه لو فشلت.

اما الخطة فسهلة.. سوف يتوجه بنفسه الى السوق لإبرام الصفقة، فله تاريخ طويل مع هذه السوق..يعرف كيف يصل اليها وكيف يتعاطى مع باعة المفرد، لكنه يريد الوصول الى "شيخ الكار" كما يقول تجار الشام، او "شيخ الطريقة" كما يقول المتصوفون. يريد مقابلة رأس الهرم لكي يبرم اتفاقية تعاون ستراتيجي بين اوكرانيا والعراق في هذا القطاع الاقتصادي الواعد الذي ازدهر اخيرا في العراق الجديد. ان رئيس الكتلة يريد اخراج احتكار هذا القطاع من المنطقة الخضراء الى سائر مناطق العراق. يجب الاستحواذ على هذا القطاع المربح قبل ان تصل اليه ايدي السياسيين المنشغلين باستثمارات اخرى، فهذا القطاع لا يحتاج الى خبرات فنية، ولا تخطيط اقتصادي ولا دراسة جدوى، ولا الى عدد كبير من الموظفين، ولا مخازن ولا مستودعات، ولا صيانة ولا يحتاج الى شهادة او كفاءة او خبرة...انه حقاً تجارةٌ لن تبور.

كيف التقط رئيس قائمتنا هذه الفكرة العبقرية لاخراج الاقتصاد العراقي من اقتصاد ريعي الى اقتصاد خدمات؟

....ويقولون ان سياسيي العراق الجديد لا يتمتعون بالقدرة على الابداع..!

***

اصبح الان في الشارع وعليه تنفيذ المهمة التي كلفها بها رئيس القائمة.. بسيطة ... ما اسهلها... انه صاحب خبرة.

اشار الى اول تكسي فتوقف، فتح الباب ودلف الى المقعد الامامي وقال للسائق وهو يدس بيده مائة دولار:

- انا سائح، واريد ان اقضي وقتاً طيبا

- مرحباً بك، سآخذك الى اجمل فتاة في اوكرانيا

وانطلق به السائق الذي استلم اجرة عمل اسبوعين كاملين، واوصله الى المكان المطلوب. بعد ان اغلق باب السيارة قال مدير المكتب:

- انتظرني هنا، نصف ساعة واعود اليك

- انا بانتظارك يا سيدي

****

بعد ان قضى "وقتاً طيباً" جلس معها يشرب القهوة... كانت فرصة نادرة لها ان تحصل علي زبون يدفع مائتي دولار بأريحية.. لابد لها ان تضيـّفه بما يليق بمقامه لكي يزورها في قادم الايام. قال لها وهو يعطيها مائة دولار اخرى:

- اريد منك خدمة

- حاضرة لأي خدمة

- اريد ان تعرّفيني على رئيسة قائمتكم

- قائمتي؟ ليس لدي قائمة.. نحن نتقاضى اجورنا نقداً ولا نصدر قائمة بالمبلغ الذي نستلمه

- لا لا.. ليس هذا قصدي، اريد ان التقي مع رئيسة قائمتكم.. اقصد رئيسة حزبكم أو رئيسة مجلسكم أو تياركم...زعيمتكم ...لا أدري ماذا تسمونها هنا

- اها عرفت قصدك، رئيسة نقابتنا

- ولكم نقابة؟

- نعم يا سيدي، كل المهن هنا لها نقابات

- لكن تلك المهن....

- لا فرق، كل المهن تخدم اصحابها وتخدم الوطن...حتى نحن نخدم الاقتصاد الوطني أيضاً خلال مهنتنا

- هكذا؟

- حتى نحن نخدم وطننا

- .........

- على العموم، اتريد ان اعرفك على رئيسة نقابتنا؟

- نعم اذا سمحت

- خذ، هذه بطاقة عنوانها. يستحسن ان تتصل بها قبل الذهاب

- وما رقم تلفونها؟

- يا سيدي انه مكتوب على البطاقة، هذا هو؟

- وترد على التلفون؟

- غريب! وهل هناك من لا يرد على التلفون؟

- ......أأأ....أقصد.....قد تكون مشغولة مثلاً

- اذا كانت مشغولة فسكرتيرتها ترد... نحن نعتبر عدم الرد على التلفون عملا لا اخلاقيا....نحن لا نفعله.

خرج مسروراً، توجه مباشرةً الى سائق التاكسي الذي كان في انتظاره، اعطاه كارت العنوان وطلب منه ان يأخذه هناك لكي يقابل رئيسة النقابة.

كانت امرأة مسنـّة بكامل زينتها. آثارُ خبرتِها الطويلة بادية على طريقة لباسها واسلوب كلامها....لك تغيّر طريقة الملابس وطريقة الكلام حتى بعد ان حصلت على منصب كبير... جلست في مكتبها الفخم ودخلت معه في الموضوع مباشرة:

- تفضل سيدي، اي خدمة يمكنني ان اقدمها لك؟

- انا اريد التعاقد معكم على تعاون ستراتيجي لتغطية بلدي بخدماتكم

- نحن لا نتعاقد مع اشخاص، نحن نتعاقد مع حكومات

- حكومات؟

- انا مدير مكتب مسؤول حكومي كبير، في الحقيقة رئيس كتلة سياسية كبيرة في بلدي.

- اهلا بك. لحظة من فضلك، قبل كل شيء

.....ومدت يدها الى الجرّار واخرجت ملفاً ناولته اياه قائلة:

- اقرأ هذا أولاً

- وما هذا ؟

- هذه اخلاق المهنة التي تتقيد بها جميع العاملات في نقابتنا، وهي وثيقة شرف تلتزم بها جميعهن سواء كان العمل في الداخل ام في الخارج.

- وما علاقتي بها؟ هذه تهم العاملات عندكم

- الا تريد ان تعرف الضوابط التي تحكم عملنا؟ ام انكم تتعاقدون دون ان تعرفوا ضوابطنا واسلوبنا في العمل؟

- طيب دعيني اقراها

- تستطيع ان تجلس في تلك القاعة لتقرأها على مهل بينما تتناول القهوة. ارجو ان تدقق بها جيداً لكي يكون الاتفاق على ارضية صلبة. سأنشغل عنك قليلاً مع مندوب اخر إنتهى للتوّ من قراءة هذه اللائحة. سامحني لانك جئت بدون موعد مسبق

- لا، لا...لا يهم. ساقرأها هناك

****

قرأ لائحة اخلاق المهنة على عجل لأنه شعر بقلق بعد ان سمع ان مندوباً آخر ينتظر دوره.. من يكون هذا الآخر؟

مرّ على الشروط والضوابط فوجد فيها ما لم يكن يخطر بباله..

وجد في (الديباجة) ان تاريخ العاملين في هذا القطاع يحمل تراثاً من القيم التي تناقلتها الامهات عن الجدّات، وان مهمة الجيل الحاضر من العاملات هو الحفاظ على شرف المهنة وعدم تلويث سمعتها من خلال البحث عن المصلحة الشخصية فقط أو البحث عن الربح دون التقيد بالقيم الاخلاقية.

كما وجد في التفاصيل تأكيداً على النزاهة في كافة مراحل العمل، وان تكشف جميع المنتميات للنقابة عن ذمتهن المالية.....الخ.

في اللحظة التي انتهى من قراءتها سمع صوت رئيسة النقابة في الغرفة المغلقة يرتفع وهي تخاطب المتعاقد الذي سبقه. اقترب من الباب فاذا به يسمع بوضوح صوت رئيسة النقابة ترفض المتعاقد الجديد وتعنفه وتعرب عن استحالة التعاقد معه.

سمع قولها له:

- يا سيدي لا يمكنني ان اتعاقد معكم . ولن تجد في هذا البلد من يتعاقد معكم. لقد اتخذت نقابتنا قراراً بعدم التعامل مع اي مسؤول عراقي منذ عشر سنوات.

- يجب ان تعرفي من تخاطبين...نحن من عائلة معروفة ذات تاريخ في بلادنا

- يا سيدي عائلتنا لم تفعل ما فعلته عوائلكم المعروفة في العراق

- لكنني ادفع لك ثلاثة اضعاف العقود المماثلة، واكتب العقد بخمسة اضعاف....هذا مكسب كبير لك، وانا احميك من التفتيش والملاحقة القضائية في بلدنا.

- إحمِ نفسك اولاً عندما تفقدون السلطة، وبعد ذلك قدّم الوعود لغيرك.

- انت تتمتعين بثقافة موسوعية...من اين اكتسبت هذه المعلومات؟

- لقد عاشرنا كثيرين ومن مختلف الطبقات والثقافات.. تعلمنا من كل شخص حرفاً فتراكمت لدينا المعرفة، خلافاً للذين ضيعوا ما كانوا يعرفون.

- هل لي ان احدد بالضبط ما الذي يمنعك من الاتفاق معي؟

- تريد بالضبط؟

- نعم بالضبط

- اخشى ان تتلوث عاملاتـُنا بأخلاقكم. انتهت المقابلة.

****

وخرج المندوب مطروداً فرآه... واذا به مدير مكتب القائمة المنافسة!...هنا فقط عرف مصدر معلومات الخارجية الاوكرانية عن حقيقة مهمته.

قال له هامساً:

- انت هنا؟

- وانت هنا؟

- أسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسس

- أسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسس

****

انه التوافق بين الكتل السياسية !!

 

 

في المثقف اليوم