قضايا

ميثولوجيا الـطوفان في الحضارات القديمة ..!

haytham alqaimتعتبر قصة الطوفان من أشهر قصص الميثولوجيا على مرّ التاريخ .. وهذه الأهمية جاءت بسبب تداخل الأسطورة مع الأديان الوضعية والأديان السماوية معاً .. مما منحها (قـدسية) على مـرّ التاريخ ... تنازعتها الأطراف الثلاثة – الأسطورة / الأديان الوضعية / الأديان السماوية ..!

فكرة الطوفان والتي تشترك بها كل الأطراف .. تتلـّخص بالتالي: (بأن الآلِهة غضبت على البشر بسبب شرورهم، ثم بطريقة ما تختار الآلِهة رجلاً صالحاً تأمرهُ أو تقترح عليه بناء سفينة يضع فيها عائلته ومَن حوله من ناس طيبين، ويحمل من كل كائن حي زوجين (ذكراً وأنثى) لإنقاذ الخليقة من الفناء الكامل .. وبعد أهوال الطوفان تستقر السفينة على قمة جبل ما، ومرة أخرى يبدأ البشر في التكاثر ..!)

- قبل تناول أبرز قصص الطوفان المعروفة، لابد من الأشارة الى أن معظم شعوب العالم القديم كان لها (قصة طوفان) خاصة بها . - فمثلاً حضارة (الأنكا) في أمريكا اللاتينية – 1100 سنة قبل الميلاد – كانت لهم قصة طوفان مفادها: (كانت لديهم أسطورة عن إلاله - فيراكوتشا - الذي أغرق جميع البشر في بحيرة تيتيكاكا .. باستثناء اثنين من الصالحين الذين عادوا للعيش في الأرض ..!)

- الحضارة اليونانية كانت لهم أيضا أسطورة طوفان تقول: (أن الآله زيوس قرر أنه سوف يقضي على الجنس البشري بأسره بالطوفان .. ولكن هناك رجل واحد وامرأة واحده هما - ديوكاليون وبيرها - لم يشاركا في الجرائم التي أرتـُكبت ويعيشان في سلام واستقامة، وقد تم تحذيرهم قبل الطوفان وبنوا لأنفسهم صندوقا ً يطفو علي سطح الماء .. انحصرت المياة بعد مرور 9 أيام . وشعر الزوجان بعد ذلك بالوحده، فأخبرهم - هيرميس - ان يذهبا الي وادي به مقادير كبير من الصخور ويلقيا بيدهما الحجاره فتتحول الي بشر، وبعد رجوع الجنس البشري اصبح ديوكاليون ملكا ً على البشر وعلمهم الزراعه ..!) .

 

- قصة الطوفان السومرية:

يعتقد الكثير من المختصين في التأريخ أن طوفاناً حقيقياً حدث في أرض الرافدين في الفترة الواقعة بين (2800-3000 ق.م)، وهو تأريخ تخميني لكنه أقرب ما يكون إلى التأريخ الحقيقي . وكان مُدَمِراً لدرجة إعتقد السكان المحليين بأنها كارثة شملت كل العالم الذي لم يكونوا يعرفون عنه أو منه إلا أجزاء صغيرة مُحيطة بهم . وقد تناقلت أجيالهم قصة ذلك الطوفان شفاهياً إلى حين إختراع السومريين للكِتابة حوالي سنة (3100 ق.م) حيث قاموا بتسجيل روايتهم فوق الحجر بعد أن البسوها حُلة أسطورية جميلة وقشيبة ..!

- ((قررت آلهة السومريين تسليط طوفان عظيم على الأرض يُهلك كل كائن حي ..! ولم يكن هناك إجماع عام من قبل كل الآلِهة حول القرار، لِذا يقوم أحد الآلِهة (أنكي) بإخبار الملك الطيب (زيوسودرا) سراً بقرار الآلهة، فيقوم (زيوسودرا) ببناء سفينة يضع فيها خاصته من الناس، إضافة لبعض الحيوانات والطير (ذكر وأنثى) .. ثم يهطل المطر لمدة ستة أيام وست ليالي فيحصل الطوفان لِيُغرِق كل الأرض وما عليها من حياة.

وبعد توقف المطر يُطلق (زيوسودرا) طيوره للتأكد من ظهور اليابسة، ثم تـنحسر المياه ويظهر (أوتو) إله الشمس ليُنير الأرض، ثم ترسو السفينة على سفح جبل (نيزير) الذي يُقال أنه بين دجلة والزاب الأسفل، ويقوم (زيوسودرا) بذبح ثور وعجل (أضاحي وقرابين) لكل من الآلهة (آن وأنليل)، ثم تقوم الآلهة بتخليد (زيوسودرا) كمنقذ للبشرية، ويتم نقله إلى جنة (دلمون) ليكون أول بشر يحصل على الخلود ويعيش مع الآلهة.))

أما سبب قرار الآلِهة بتسليط الطوفان على البشر في الرواية السومرية فغير معروف، بسبب تهشم جزء كبير من اللوح الطيني لهذه الأسطورة.   وكما قالت الأسطورة: فقد وضعوا في السفينة من كل حيوان زوجين إثنين بغية إنقاذ النسل الحيواني، ومن خِلال ذلك نستشف أن السومريين كانوا يعتقدون أن الطوفان قد شَمَلَ كل العالم، وليس فقط منطقتهم في أرض الرافدين، وهو تصور مغلوط إقتبسه اليهود العبريين وأدخلوه في قصتهم التوراتية مما يدل على أنهم إقتبسوا حتى الأفكار المغلوطة للسومريين والبابليين ..!

وقد تم إكتشاف النسخة السومرية من قصة الطوفان في (نيبور- نفر) من قِبَل أول بعثة أميركية إلى العراق (1889-1900) حيث عثروا على لوح طيني يعتقد المتخصصون أنه تم تدوينه في الثلث الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد.

وكان عالِم السومريات (د. صمويل نوح كريمر) قد أكد أن تفاصيل ملحمة الطوفان كانت معروفة عند شعب المنطقة منذ الألف الثالث ق.م.

 

-   قـصة الطوفان البابلـي:

تقول الرقم الطينية باختصار: ((إن الآلِهة قرروا التخلص من البشر لأنهم تكاثروا جداً وبدأ ضجيجهم يزعج الإله (أنكي) وبقية الآلِهة، لِذا عقدوا إجتماعاً مهماً لكل الآلِهة الكبار، وقرروا التخلص من البشر عن طريق إغراقهم بطوفان لا يُبقي منهم أحداً، وهنا يقوم الإله (أنليل) بتسريب معلومة الطوفان لملك دولة سبار الورع الطيب (أوتنابشتم)، الذي يقوم بدوره ببناء فلك كبير للنجاة من كارثة طوفان الأيام السبعة الرهيبة .. ويضع فيه أهله وبعض الحِرَفيين والحيوانات البرية والحيوانات آكلة العشب وكذلك الطيور .. ثم يحدث الطوفان ويُدمر كل ما على وجه الأرض، وبعد أن ينقطع المطر يقوم بإطلاق الطيور للتأكد من ظهور اليابسة، بعدها ترسو السفينة على قمة جبل ما، ويقوم أوتونابشتم بحرق بعض حيوانات السفينة كأضاحي للآلِهة.

وبعد الطوفان يتمتع (أوتنابشتم) بالحياة الأبدية مع الآلِهة في جنة (دلمون) الخالدة مكافأة لهُ على إنقاذهِ للجنس البشري)) .

كان المُنقبون في آثار العراق قد عثروا على نسخة من الرواية البابلية للطوفان سنة (1853). ويقول أصحاب الإختصاص بأن هناك أكثر من نص بابلي لقصة الطوفان، أوضَحَها وأطوَلها ما جاء في ملحمة كلكامش .

 

- قـصة الـطوفان الـتوراتيـّة:

وهي مدونة في التوراة (سِفر التكوين من 6 إلى 9) وتجري على الشكل التالي وبإختصار شديد لأنها طويلة جدا: ((رأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، فحزن على صنعه للإنسان، وتأسف في قلبه، وعزم على أن يمحو الإنسان والبهائم والدواب والطيور عن وجه الأرض، وأن يستثني من كل ذلك (نوح) الرجل البار الطيب ... فيأمر الرب نوحاً بأن يصنع فـُلكاً ضخماً، وأن يحمل في السفينة إثنين من كل ذي جسد حي (ذكراً وأنثى)، وأن يصطحب معه زوجته وأولاده الثلاثة (سام وحام ويافث) ومعهم زوجاتهم، وطعام يكفي لكل مَن في داخل الفلك .

ثم أسقـَط الرب مطراً لأربعين يوماً وأربعين ليلة حتى مات كل من على وجه الأرض من بشر وحيوان وطيور ومزروعات . وبعد توقف المطر إستقرت السفينة فوق جبل أرارات .. وبعد خروج نوح من الفلك أو التابوت كما تُسميه التوراة، يجمع أحجاراً ويبني مذبحاً يحرق فوقه بضعة حيوانات، فتتصاعد رائحة القرابين المشوية ليتنشقها الإله .. الذي سيُبارك نوحاً ونسله ممن سيُعمرون الأرض)).

أما الزمن الذي بقي فيه نوح ومن معه داخل السفينة وبحسب ما جاء في التوراة: فبعد حسابه نستنتج أنه كان لعدة أشهر وربما سنة .. وهذا غير معقول أبداً لأسباب كثيرة لا يتسع المجال هنا لذِكرها ... بينما كان الوقت الكلي في النص السومري هو ستة أيام بلياليها، وفي النص البابلي سبعة ايام بلياليها.

كذلك نجد أن الرواية التوراتية لم تقل لنا في أية مدينة كان يعيش (نوح) ..؟ ربما لمعرفة الكاتب التوراتي بأن بلاد العبرانيين (فلسطين أو إسرائيل) لم يحدث فيها أي طوفان تأريخي. لكننا نجد أنه يقول لنا مثلاً بأن الحمامة التي أطلقها نوح للمرة الثانية عادت وفي منقارها غصن زيتون ..! وهذه لفتة ذكية من قبل المُستَنسِخ التوراتي، لأنه أعطى لروايتهِ التوراتية صبغة الجغرافية العبرية، كون شجرة الزيتون معروفة في الشام وفلسطين، ولم تكن معروفة في العراق القديم .. وفي عالم اليوم ترمز الحمامة وغصن الزيتون في منقارها للخير والسلام .

 

هيـثم الـقـيّم

مستشار ثقافي / منظمة بلاد السلام لحقوق الأنسان

مستشار أعلامـي / مؤسسة التضامن للصحافة والنشر

(منقول – بتصرّف)

في المثقف اليوم