قضايا

علماء أمّيون لكنهم سياسيون بارعون

fakhry mashkorمنذ اربعة عشر قرناً كشف القرآن النازل من فوق سبع سماوات عن قانونٍ من ثمان كلمات: "ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه" .

الآية الشريفة تكشف سراً من اسرار صعود الحضارات وهبوطها، كما تكشف سرّ نجاح العباقرة وفشل غيرهم. الآية تلقي الضوء على اهمية التخصص الذي هو التفرّغ لحقل من حقول المعرفة تسمح للعقل والنفس ان تتعمق فيه وتتشرب به، فينتج من ذلك التعمّق والتعلّق احاطة شاملة هي الاساس الواقعي لكل نجاح على الصعيد الشخصي والحضاري.

ان الذين يفتخرون بأشخاص " برعوا في عشر فنون، او اتقنوا عشر لغات، او الّفوا مائة كتاب" يسيئون الى اولئك الاشخاص بالكشف عن فشلهم في جميع او اغلب تلك الفنون، فاذا اردنا ان نصدّقهم فعلينا ان نكذّب الآية: " ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه " فالتخصّص يعني التفرّد في حقل واحد يستقر في القلب، فاذا اراد ان يختص في حقلين (كأن يكون سياسياً وعالماً دينياً) فيجب ان يكون له قلبان - حسب الاية الشريفة- لأن التخصص محلّه القلب لا الوجه، ومستحيل ان يكون للرجل قلبان، بينما يمكن ان يكون له وجهان.

اما اذا كان الشخص نفسه يدّعي (أو يُدّعى له وهو ساكتٌ تواضعاً!) أنّه متضلع في اكثر من حقل، ومتبحر في اكثر من علم، فهذا يعني انه يريد تجميع الاميين من حوله مستغلاً جهلهم بحقيقة " ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه " ومستفيداً من جهلهم بالسبب الذي حيّر الكثيرين في صعود الغرب وانحطاط المسلمين..... فالصعود منحة الهية يهبها الله للذين يوقفون حياتهم على البحث والتنقيب أو الدرس والتحصيل حتى يصلوا الى درجة الاختصاص (مؤمنين كانوا او كافرين) . وكل شعبٍ او قومٍ يصلون الى درجة الاختصاص في حقول المعرفة البشرية يحققون الشرط الذي يقرره القانون الالهي " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " فمن تطبيقات هذه الاية : ان الذين يجهدون أنفسهم في اكتشاف قوانين الطبيعة والانسان يدلّهم الله على القوانين الالهية التي تحكم الطبيعة والانسان ( مؤمنين كانوا او كافرين)، فاذا عرفوا تلك القوانين سخّروا الطبيعة والانسان، اي تقدّموا في السيطرة العلمية والسياسية والاقتصادية... وهذا هو التفسير القرآني لتقدم الغرب وتأخر المسلمين، فما العَجَبُ في تقدّم اصحاب مراكز البحوث و الجامعات على اصحاب المقاهي والاحتفالات؟

***

السياسة والدين حقلان مختلفان، وعالمان متغايران، لا يجمعهما ويجني جميع مكاسبهما أحد. ولنا في امير المؤمنين علي ( ع) خير دليل، فقد دخل ميدان السياسة وهو يحمل الدين في قلبه والسياسة في يده، وفي مرحلة حرجة نازله معاوية وعمرو بن العاص فغلبه معاوية الذي انتزع السلطة من يد علي، كما غلبه عمرو بن العاص الذي انتزع حياته من سيف علي.

***

في العراق اليوم سياسيون يعلمون جيداً انهم لا يستطيعون ان يجمعوا بين الدين والسياسة دون ان يخسروا احدهما (كّلاً أو بعضاً)، لكنهم - وقد ادركوا هذه الحقيقة - حسموا امرهم فقرروا التضحية بالدين كلما تعارض مع المكاسب السياسية، فحسب قانون القرآن " ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه" لا يمكن ان يحتل قلبَهم الا اتجاهٌ واحد: الدين، او السياسة... المبادئ، او المصالح.... السيادة الشخصية او السيادة الوطنية.... مصلحة الفقراء او مصالح الزعماء.

الاختصاص تبحّر وتعمّق ينفذ الى القلب كما تشير الآية، ولا يجتمع الدين والسياسة في القلب، ولابد من التضحية بأحدهما في مرحلة حاسمة، فالدين حب الله، والسياسة حب الدنيا، وقد أبى الله ان يجمع في قلب أحدٍ حبه سبحانه وحبَّ الدنيا.

***

عليٌّ- الذي نحتفل بعد ايام بذكرى تضحيته بالدنيا من اجل الدين- حين وصل الى مفترق الطريق بين الدين والسياسة اختارَ حفظَ الدين لا حفظ مصالحه، وحمايةَ الدين لا حماية نفسه.... لقد احاط عليّ دينه بحواجز كونكريتية تحمي الدين ليبقى مع المتدينين، ولم يُحط بيته ومكتبه بحواجز كونكريتية تحجبه عن الفقراء المعدمين والعقلاء الناصحين.

لذلك فشل عليٌّ سياسياً ونجح معاوية، وهو الدرس الذي تعلمه سياسيونا فلم يقعوا في "غلطة علي" الذي فقد السلطة ثم فقد حياته.

ان سياسيينا (عليهم السلام) اشطر من علي ( عليه السلام).

***

هل يمكن ان يكون القائد السياسي عالماً دينياً؟

الجواب: يمكن ان يكون كذلك بشرطين:

الاول: أن ينفق زهرة شبابه في طلب العلم متفرّغاً له

الثاني:أن يتقي الله، فيكون مصداق الآية: انما يخشى الله من عباده العلماء، أي انه يجب ان يكون مستعداً للتضحية بالسياسة اذا تعارضت مع العلم، اما اذا كانت السياسة - ومكاسبها في الثروة والسلطة- هدفه الاسمى ( كما يتضح جليّاً من رحلاته الى عواصم النفاق واعداء العراق)، فلا يمكنه ان يجمع بينهما فيصبح عالماً دينياً وقائداً سياسيا وهو يضع السياسة في قلبه، والدين على لسانه.

لذلك ترى الذين يتصدون للقيادة السياسية وهم "علماء" ! لا يملكون من العلم الا تراث العائلة، وسمعة الاسرة، ووراثة الاباء والاجداد التي وصلت - في غفلةً من الزمن- الى الابناء والاحفاد.

ومن يشك في فراغهم العلمي ليسأل نفسه -أو يسألهم اذا كان شجاعاً-: من منهم تفرّغَ للعلم؟ وكم درس؟ واين درس؟ ومن اساتذته؟ ومن تلاميذه؟ وما هي مؤلفاته؟ وهل يمكن ان يتفضل على عشّاق العلم بمحاضرةٍ في العلم الذي درسه أو درّسه؟ وهل تفرّغ لطلب العلم في خضم صراعاته السياسية في السنوات العشر او العشرين الماضية التي دخل فيها عالم السياسة وهو فتى لم يبلغ الحلم؟ ام انه يضع على رأسه عمامة ابيه، ويجلس امام مكتبة ابيه ليذكرّنا بقول الشاعر:

وعند الشيخ كتْبٌ من ابيهِ

مسطّرةٌ، ولكن ما قراها؟

 

فخري مشكور

 

في المثقف اليوم