قضايا

تاريخ يجب الوقوف عنده

منذ سقوط الموصل وعدد من المدن العراقية تحت هيمنة تنظيم داعش الإرهابي، انتشرت في وسائل الإعلام الغربية تحليلات شديدة التبسيط والاختزال حول ما حصل . فصعود داعش بحسب تلك التحليلات والقصص، هو نتيجة مباشرة لشعور السنّة في العراق بالتهميش بسبب سياسات الرئيس نوري المالكي، والمجتمعات السنية قررت أن تلجأ لداعش باعتباره شراً أهون من شر الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة.

انتشرت تلك القصص سريعاً وصارت من الأمور المسلم بها في الإعلام الغربي دون إدراك بواطن وخوافي الأمور .

المشكلة في تلك التحليلات والقصص ليست فقط التبسيط المفرط، بل أيضاً في أنها خدمت اتجاهاً أميركياً محدداً في صناعة "كبش فداء" لهذه النكسة، وكان نوري المالكي، وتحميله وحده مسؤولية ما حصل في العراق، روايته بوصفه نتاج تطورات الأعوام الأخيرة، ولا علاقة له بالسياسات التي سبقت ذلك، والتي لعبت الخيارات الأميركية دوراً كبيراً في صناعتها .

كما أن الافتراضات التي تنطلق منها تقود إلى استنتاجات جدية سيكون لها أثر مستقبلي كبير لو اعتُمدت كالاستنتاج الذي صار شائعاً أيضاً عن ضرورة الفصل بين السنة والشيعة بوصفه خياراً جيداً، كما عبّر عن ذلك مؤخراً المعلق الشهير في نيويورك تايمز ديفيد بروك، وهو يستعيد خطة جو بايدن لإقامة ثلاثة كيانات فيدرالية في العراق، كردية وسنية وشيعية .

نعم . . يتحمل الرئيس نوري المالكي نصيباً كبيراً من المسؤولية، فهو (كان) القائد العام للقوات المسلحة وتولّى مباشرة إدارة وهيكلة تلك القوات، وتعيين الكثير من القادة غير الأكفاء والفاسدين فيها، وفشل في قراءة التوازنات السياسية الداخلية والإقليمية بطريقة صحيحة . والأكثر من ذلك أنّه رفض الإقرار بأي مسؤولية عما جرى، دون تقديم أي تفسير بديل مقنع سوى الحديث عن "مؤامرة" لانعلم مداها وأطرافها بصورة مؤكدة وواضحة .

لكن التحليل والقصة السابقة الذكر، لا تقدم بدورها سوى تفسير انتقائي آخر، توّلت الوثائق المكتشفة حديثاً عن تنظيم داعش تفكيكها.

يصف البروفيسور غريغ وايتسايد من الكلية الحربية البحرية في مونيتوري، هذه القصة بأنها تبسيطية للغاية . ورغم إقراره بأنّ سياسات الرئيس نوري المالكي لعبت دوراً في صناعة الظروف التي ساعدت داعش على النجاح، إلا أنّه يرى أن هذا الدور كان ضئيلا ً، وأنه أيّاً كانت الظروف السياسية في العراق وسوريا، فإنّ داعش هو في الأساس النسخة الأحدث والأكثر شراسة لتنظيم جهادي دخل العراق منذ العام 2003 بقيادة الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي، ولديه مشروعه المنفصل عن مجمل العملية السياسية العراقية واتجاهاتها .

فعلى الرغم من أن نفوذ هذا التنظيم قد انحسر كثيراً بعد إنشاء الصحوات والتي نجحت في مطاردة وقتل العديد من أعضائه، إلاّ أن وايتسايد يستنتج في بحث نشر نتائجه مؤخراً بأن التنظيم الجهادي لم يمت بالعراق أبداً، بل إنّه كيّفَ استراتيجياته مع الظروف المتغيرة، وحاول أن يتعاطى معها بالطريقة التي تناسب وضعه الجديد .

يتحدث مثلا عن سلسلة عمليّات الاغتيال المنظمة التي قام بها التنظيم الإرهابي ضد قادة الصحوات، والتي طالت إحداها قائدها الأبرز عبد الستار أبو ريشة، بوصفها جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد لهزيمة الصحوات وتفكيك القوى التي تتحدى التنظيم في المناطق السنية .

فبين عامي 2009 و2013، تم اغتيال 46 عضواً بارزاً من الصحوات في منطقة جرف الصخر (النصر بعد التحرير) وحدها، جنوب بغداد . وفي العام 2012 اغتيل زعيم مهم آخر في الصحوات هو الملّا ناظم الجبوري (المنشق عن التنظيم الإرهابي) .

ومنذ العام 2009 تم اغتيال ما يقدر بــ 1345 عنصراً من الصحوات، بما يعكس خطة منظمة لتفكيك وتدمير هذه التشكيلات التي رعاها وتبنّاها الرئيس نوري المالكي .

يقول واتسايد إن "هذه الجماعة لم تعد بقوة بسبب التمرد في سوريا، ولا لأن جنود المالكي قتلوا عشرات من المحتجين في الحويجة (على بشاعة ذلك العمل)، بل لأنها جماعة تضم رجالاً ظلّوا ملتزمين بقضيتهم في السنوات الصعبة التي مر بها التنظيم" .

كما أن الوثائق التي أعلنت صحيفة شبيغل الألمانية أنّه عُثر عليها في مخبأ الحاج بكر، وهو الاسم الحركي للعقيد السابق في الجيش العراقي (سمير عبد محمد الخليفاوي)، كشفت عن مخطط دقيق لإعادة هيكلة التنظيم وتطوير أساليبه وقدرته على التجنيد، وتوسيع نشاطاته إلى سوريا . وما يمكن استنتاجه من تلك المعلومات هو أنّه على الرغم من الاتفاق على أن الرئيس المالكي لم يحسن إدارة العلاقات بين الطوائف في العراق، إلا أن تنظيم داعش الإرهابي كان يسير وفق خطة لاستعادة نفوذه وتصفية خصومه والاستثمار في فوضى إقليمية اتسعت جغرافيتها لتشمل سوريا ومناطق أخرى .

مؤخراً ... كشف مركز محاربة الإرهاب (Combatting Terrorism Center) عن مجموعة من الوثائق يعود جزء كبير منها للتنظيم، تشير إلى تورط سياسيين عراقيين بعلاقات تَخادُم مع تنظيم داعش، وتحديداً عبر تمويل نشاطات التنظيم من أموال مشاريع حكومية عراقية يشرف عليها هؤلاء المسؤولون في مدن مثل الموصل واُطلق على هؤلاء المسؤولين مقاولوا داعش . وكانت بعض التقديرات أشارت إلى أنّ "داعش" قبل استيلائه على الموصل، بنى شبكة لاستخراج (الريوع) وفرت له ثمانية ملايين دولار شهرياً، وأن جزءاً كبيراً من تلك الريوع مصدره مشاريع الدولة العراقية .

هكذا حصل "داعش" مثلاً على أربعة ملايين دولار من مشروع بناء واحد في شرق الموصل . وبناءً على تلك المعلومات، نشرت مجلة "فورين بوليسي" (في 23-06 -2015) مقالة جادل كاتبها بأن على الإدارة الأميركية أن تعيد النظر جديّا بفكرة تمويل وتسليح قوة عسكرية سنية نظراً لصعوبة الوثوق من أن تلك الأموال والأسلحة لن تصل ليد "داعش" .

وفي الحقيقة فإن النمط الزبائن السائد في السياسة العراقية، والفساد المتفشي، وغياب المحاسبة في البُنى الرسمية للدولة، أسهمت كثيراً في بناء علاقة تَخادُم مع قوى الإرهاب، وإنشاء تعاضدات مالية قائمة على تحالفات ذات طابع مافيوي معها . بل إنّ تشكيلات الصحوات التي أقيمت أصلاً على أساس غير متزن ودقيق (أساس شراء الذمم)، أخذت تتفكك وتضعف، ليس فقط بفعل حملة الاغتيالات التي قام بها ضدها تنظيم "الدولة الإسلامية" (حينذاك)، أو بسبب عدم ثقة حكومة المالكي بالكثير من عناصرها، بل أيضاً بسبب تنافس "شيوخها" على الريع والامتيازات، وهو الذي قاد إلى تبدل مواقفهم باستمرار . فنأخذ الشيخ علي حاتم السليمان مثلا ً، حين انقلب من حليف وثيق للمالكي وعضو في ائتلافه الانتخابي، إلى عدو لدود يتحدث باسم "المجالس العسكرية الثورية" التي أعلنت الحرب على المالكي وحكومته وجيشه . وبالعكس تحول أحمد أبو ريشة من ناقد قوي للمالكي إلى حليف له بعد تنامي نفوذ "داعش" . فهذه التغيّرات الغريبة كانت نتاج طبيعي لتضارب المصالح والإمتيازات بين الشخصيات السياسية والعشائرية .

ورأينا الاتهامات المتبادلة بين قادة الصحوات، كاتهام أبو ريشة لمحافظ الأنبار (السابق) قاسم الفهداوي بالضلوع في اغتيال الملا ناظم الجبوري، وبأنّه كان عضواً في مجموعة تابعة لتنظيم القاعدة، تعكس أيضا تنافسات بينية وعلاقات غامضة لا تصلح أساساً لبناء الثقة مع الحكومة التي سعت بدورها لتوظيف تلك الانقسامات من أجل تقريب الموالين واستبعاد المشكوك في ولائهم، بدلاً من السعي لأطر جديدة وأكثر فاعلية في مواجهة الإرهاب .

وهنا بعد أكثر من عام على احتلال "داعش" للموصل، ما زالت الكثير من ملابسات ذلك الحدث غير واضحة . الشيء الذي يبدو جلياً اليوم هو أن الأسباب التي تعيق تحرير الموصل لعبت دوراً كبيراً في سقوطها . وأهم هذه الأسباب هو التنافس على النفوذ والسلطة والموارد، سواء بين اللاعبين المحليين، أو بين اللاعبين المحليين والخارجيين او الخارجيين والخارجيين .

في نهاية العام 2012 تواترت أنباء عن أن الرئيس المالكي أبلغ المسؤولين الأميركيين أنه قد يضطر لاستخدام القوة ضد محافظ الموصل (أثيل النجيفي)، الذي كان يسعى إلى توقيع عقود مع شركات نفط دولية للاستثمار في حقول النفط، خصوصاً أنّ الأخير كان يشير إلى اكتشافات نفطية جديدة ستوفر الكثير من الموارد للموصل بمعزل عن الحكومة الاتحادية . ويبدو أن النجيفي كان ينسق مع حكومة إقليم كردستان وتركيا، التي تمثل الدّاعم الإقليمي الرئيسي له، لغرض السير باتجاه الاستقلال النفطي (المالي) عن بغداد، بينما كان الأتراك يهدفون إلى دمج الموصل في مجال نفوذهم ليشمل كل شمال العراق، خصوصاً بعد تحسن علاقاتهم مع كردستان بل وإسهامهم الكبير في بناء أنبوب نفطي للإقليم مستقل عن بغداد .

ففي المنظور التركي فإنّ كردستان والموصل ستتحولان مستقبلاً إلى منطقة نفوذ تركية خالصة ومصدر الطّاقة الرئيسي للاقتصاد التركي.

وفي خطوة غايتها إفشال هذا السيناريو، قام الرئيس المالكي باستصدار قرار عبر مجلس الوزراء بتقسيم نينوى إلى ثلاث محافظات، بإقامة محافظتين جديدتين في "تلعفر" و "سهل نينوى". وقد اعترض النجيفي وكتلته على هذه الخطوة والتي سبقتها الأحداث وترسخت، حين احتل "داعش" الموصل وكل محافظة نينوى .

إن المعلومات عن محاولات النجيفي لإعلان إقليم نينوى من جانب واحد ظلت تتواتر وبسرعة، وقابلها شك من الرئيس المالكي في أن النجيفي ينفذ سيناريو تركي لتقويض سلطة بغداد الإتحادية دستوريا (المركزية مالكياً) .

وقد أدّى استمرار الصراع بين الجانبين إلى تخريب أيّ خطوات جدية للتعاون في حفظ أمن الموصل والتصدي لمحاولات "داعش" لإختراقه، لينتهي الأمر إلى خلق فراغ كبير بسبب عدم الثقة بالقوات الأمنية التي أرسلتها بغداد للمحافظة، وعدم ثقة بغداد بتوجهات حكومة المحافظة، ومن هذا الفراغ نفذ "داعش" ببضع مئات من المقاتلين في ما كان يعتبره غزوة بسيطة للثأر لأحد قادته، ليجد أن ثاني أكبر مدينة في العراق قد أصبحت فريسة سهلة بسبب فراغ السلطة وصراع (النجيفي - المالكي) .

لقد نَفَذ "داعش" من مسامات نظام سياسي هش، تتنازعه الصراعات الداخلية والطموحات الإقليمية، وهو ما زال هناك باقي بالموصل للأسباب نفسها التي سمحت له بأن يحقق تقدمه العسكري المفاجئ، لكنه يختلف عن الآخرين في أن لديه خطة واضحة ومشروعاً للاعتياش طويلاً على انقسامات خصومه .

فهل سيقف الرئيس العبادي عند هذه الجزئيات والأحداث لدراستها مع خبراء حقيقيين ليس لهم في هذه الصراعات ناقة ولا جمل، ليستفيد من دروس النكسة، ليخرج بعبر ونتائج يمكنه بها إنقاذ العراق وإسترجاع أراضيه وطرد الدواعش من أرض العراق ومفاصله السياسية المسؤولة عن صنع قرار الدولة ؟؟؟؟ ننتظر الإجابة بفعل قوي وهو قلب الطاولة على كل الذين ساهموا في خراب وضياع هذا الوطن .

والله من وراء القصد .

 

د. نبيل أحمد الأمير

في المثقف اليوم