قضايا

ألولايات المتحدة: هويتها وقوميتها .. إستراتيجياتها وأولوياتها وسياساتها وكوارثها

nabil ahmadalamirان النظرة الجيو سياسية التي تهيمن على فكر الإدارة الأمريكية تجاه العراق، والتي تنبع من الرغبة في بسط الهيمنة العالمية، لا تقتصر فقط على الاحتفاظ بقواعد عسكرية حول العالم في اي وقت تريده، ولكنها ايضا ترى ضرورة التحكم في مختلف مصادر الموارد الطبيعية المؤكدة والمحتملة، والتي يأتي على رأسها النفط، وخاصة نفط الخليج .

ان "الحرب ضد الارهاب" اتاحت للولايات المتحدة الأمريكية اقامة مجموعة قواعد عسكرية في اسيا الوسطى – وهي منطقة جديدة بالنسبة لها، وارسال قواتها من جديد الى الفلبين التي سحبت منها خلال سنوات 1990 . وليس الحفاظ على السيطرة العسكرية الامريكية إن الهدف الوحيد للإستراتيجية الكبيرة للإدارة الأمريكية انها تسعى لفرض النموذج الانجلو – امريكي من الرأسمالية اللبرالية على العالم برمته . وأكد الرئيس بوش في تقديمه لوثيقة الإستراتيجية القومية للامن :" بنصر حاسم لقوى الحرية ونموذج مستديم وحيد لنجاح امة الحرية والديمقراطية والسوق الحرة " انه بالفعل نمط خاص جدا من النزعة الاممية التي تترك للشعوب حرية اختيار " النموذج الوحيد المستديم "، الرأسمالية الليبرالية .

بعد احداث11 سبتمبر 2001 قررت امريكا اجتياح افغانستان لاسقاط حكم ماسمته بالارهاب . اسفرت عن قتل ما يزيد عن خمسة الاف شخص وتشريد وتجويع ملايين الافغان لينتقلوا من وضع السيئ لوضع اكثر سوءاً .

حسب بعض المؤيدين لفكرة " المؤامرة الطائفية " (بالانجليزية : Sectarian Conspiracy) فأن مايشهده العراق حالياً هو جزء من خطة واسعة يمكن ان ندعوها – صناعة أمريكية – لتقسيم وتشتيت شعب العراق خاصة والعالم العربي – الإسلامي عامة .

فبحسب فكرة المؤامرة الطائفية، فأن مئات الاف المسلمين قتلوا عندما دفعت الولايات المتحدة نحو اشعال الحرب العراقية – الايرانية، وكذلك قتل مئات الاف اخرى عندما قررت الولايات المتحدة التخلص من النظام العراقي السابق .

 

فكرة هوية القومية الامريكية ..

ان من العجب ان نجد نخبة من المفكرين الذين يروّجون لفكرة القومية او ايجاد (هوية قومية) خوفاً من الذوبان في الاخر، او اعتباره ضعف وتراخي في الدفاع عن الوطن، ومن هؤلاء الداعين الى الهوية القومية الامريكية صاحب كتاب ذاعت شهرته بعد ان اصدر وهو " صِدامْ الحضارات "، هذا في وقت نجد طائفة اخرى من المثقفين ورجال السياسة البارزين يؤكدون في اطروحاتهم على العولمة، اي اننا نعيش في قرية صغيرة ومن المفترض وان نملك هوية واحدة هي " الانسان " في زمن حقوق الانسان فان عبارة هوية الانسان هي العبارة التي يجب ان نبحث عنها جميعا ونقول :- " من نحن " اما امريكا المتنوعة في الاساس تتكون من شعوب مختلفة استوطنوا العالم الجديد الذي اكتشفه ملّاح ايطالي يدعى (كريستوفر كولمبوس) عام 1492 وبعد حرب الاستقلال الامريكية 1775- 1783 بدأت فكرة الهوية الوطنية تظهر وترسخت في القرن التاسع عشر، ومنذ عهد الستينات تحديداً فقد اخذت الهوية القومية الفرعية تضعف مكانة الهوية الوطنية الى ان جاءت احداث الحادي عشر من ايلول التي أعادت الامريكيين الى الشعور بالانتماء الى الامة .

كان العرق والاثنية الثقافية الانغلو بروتستانتية هي السائدة لدى المستوطنين المؤسسين خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبعدها ظهرت ثقافة جديدة واجهت الثقافة الانغلو بروتستانتية التي استمرت ثلاثة قرون تحديات من مواجهة المهاجرين من امريكا اللاتينية واسيا صاحبها انتشار اللغة الاسبانية كلغة للنخب العلمية وللهويات المتعددة الجنسيات في المقابل، حيث كان المهاجرين الاوائل يأتون من بريطانيا و أوربا . ولذلك فان الهوية الامريكية تتطلب دراسة عميقة وتحليل، لان المجتمعات عندما تكون مهددة فانها تستطيع من خلال الالتزام بتقاليدها وقيمها تكون مصدراً لحريتها ووحدتها، لذلك فان الشعب الامريكي التزم بتقاليده لعدة قرون اعتقادا منه ان امريكا ستبقى طويلا .

كما ان الهوية هي احساس فرد او جماعة بالذات اما التفكير بالهوية الأمريكية فقد حظي بقبول واسع لقيامه على افتراضين هما ..

- ان امريكا هي امة من المهاجرين وان الصعوبة تقوم على مبادئ الميثاق الامريكي فامريكا هي مجتمع أسسه المستوطنون في القرن السابع عشر والثامن عشر وجاء معظمهم من الجزر البريطانية .

- ويمكن القول ان القومية الأمريكية هي أثنية، عرقية ثقافية، سياسية، حيث يعترف الأمريكيون انهم امة من المهاجرين باستثناء الهنود الحمر الذين يعتبرون انفسهم هم السكان الاصليون .

في القرن العشرين بدا التراجع عن مركزية الهوية القومية وفي عام 1994 اجريت دراسة على مستوى الاندماج الامريكي قال معدّوها ان عام 1950 كان ذروة الوعي بالهوية الامريكية وبعدها ازداد الانقسام السياسي والثقافي والنزاع الناتج عن الاثنية المتعاظمة والوعي الديني هو التحدي الرئيسي الحالي لاسطورة القومية الامريكية . ففي العقود الاخيرة من القرن العشرين جاءت هذه الإسطورة نتيجة اربع عوامل :- -العقائد -التعددية -الثقافة -المصالح الخاصة التي تجاوزت الهوية العرقية الاثنية .

فبعد الحرب العالمية الثانية بلغ الشعور بالهوية القومية الامريكية أوْجَهُ وكان الامريكيون امة واحدة يشتركون بثقافة واحدة ذات نواة بروتستانتية بالدرجة الاولى، يلتزمون بالقيم الامريكية وبالليبرالية والديمقراطية .

لكن في بداية الستينات من القرن الماضي تغير جوهر هذا التصور ولم تعد امريكا مجموعة قومية لها ثقافتها وتاريخها المشترك حيث رافق ذلك ثقافات مختلفة يعرف الفرد بها وليس بالقومية المشتركة وقد ادى ذلك الى تفكيك الهوية الامريكية وتعزيز نظريات التعددية الثقافية وفكرة التنوع التي يجب ان تكون هي القيمة العليا في امريكا ولقد اعتمدت امريكا في بناء قوتها الذاتية على التوسع من الداخل والخارج .

فبعد انفصال امريكا عن بريطانيا عام 1783 شرعت في قتل ابناء الارض الاصليين من الهنود الحمر فعمل المستوطنون الامريكيون خلال الفترة (1801 – 1845) على السيطرة على جنوب المحيط الاطلسي (فلوريدا) والوسط وشمال الوسط . ثم احكمت السيطرة على معظم المناطق في الفترة (1846 – 1890) من الوسط والجنوب والشمال وصولا الى اقصى السيادة التامة على كل اراضي العالم الجديد والسيطرة لا تعني فقط الوجود البشري وانما ايضا السيطرة على ثروات وخيرات هذا العالم الكبير .

 

الشعور بالقومية الامريكية ..

ان الحديث عن مدى تعمق القومية الامريكية في وجدان الشعب الامريكي بشكل غير عقلاني في كثير من الاحيان مشيرا الى بعض الاحصاءات الخاصة برؤية المواطن الامريكي لبلده وعلاقتها بالعالم، تشير بعض هذه الاحصائيات الى ان غالبية الامريكيين يعتقدون ان امريكا تقدم 20 % من ميزانيتها كمساعدات لدول العالم، في حين ان المساعدات الامريكية للعالم اقل من 1 % من الميزانية الامريكية، وتشير إحصاءات أخرى إلى ان 64% من الامريكيين يشعرون بالحاجة لحماية اسلوب الحياة الامريكية من التاثيرات الاجنبية، كما يشعر 72 % من الامريكيين بالفخر ببلدهم، ويشعر 71% من الامريكيين الجمهوريين بانهم وطنيون جدا، في حين يشعر 48% من الديمقراطيين بنفس الشيء، كما يشعر نصف الشعب الامريكي تقريبا بان اداراة البيت الأبيض تراعي مصالح ورؤى حلفائها في العالم، كما يرى 60% من الامريكيين تقريبا ان الثقافة الامريكية اسمى من الثقافات الاخرى .

ان طبيعة القومية الامريكية هي التي سمحت للشعب الامريكي بالاعتقاد في الروئ السابقة عن نفسه وعن بلده، وهي التي سمحت للرئيس جورج بوش بالحصول على موافقة الشعب الامريكي والطبقة الحاكمة في شن حربه على العراق .

اذ ان القومية الامريكية تتكون بشكل دائم من نظريتين او مجموعتين كبيرتين من الافكار الرئيسية المتضادة وهي ..

١- " النظرية الامريكية "

٢- " النظرية الامريكية المضادة " .

 

حيث ان " النظرية الامريكية " و " النظرية الامريكية المضادة " تعيشان معا في وجدان غالبية الشعب الامريكي .

وهو ما يعني ان الصراع على تعريف القومية الامريكية هو صراع دائم لا ينتهي محكوم بموقف الشعب الامريكي والنخب الحاكمة تجاه هذا الصراع، فغض النظر عن هذا النزاع والاطراف المشاركة فيه قد يؤدي الى سير القومية الامريكية في طريق مسدود يضر بامريكا ومصالحها .

 

الإستراتيجية الأمريكية بالعالم ..

عند الإستراتيجية الأمريكية ثمة ملاحظتان أساسيتان تسترعيان الانتباه :- الملاحظة الاولى :

هي ان الجدل الاستراتيجي الذي صيغت في ضوئه الاستراتيجية الامريكية وبالتالي عقيدتها العسكرية ابان الحرب الباردة والمتاثر بالكم الهائل لترسانة الأسلحة النووية، وما تمتعت به من خصائص تقنية وما قادت اليه من استراتيجيات رادعة هذا النمط من الجدل الاستراتيجي العسكري الامريكي وفي ضوء الكتابات والتحليلات الامريكية يبدو اليوم انه مهتم كثيراً بفرضه حروب تستخدم فيها الاسلحة النووية بقدر مااخذ الاهتمام يتركز على انماط من الحروب تدار باسلحة تقليدية تنطوي على قدر عال من الكفاءة التكنومعلوماتية .

وهذا التحول في نمط التفكير الذي كان سائداً في فترة الحرب الباردة مرده تراجع جدلية الحرب النووية وذلك بفعل تراجع فاعلية التغير الايديولوحي بعد غياب الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى لها من القدرة ما يؤهلها لان تفرض تحديات نووية على قدر عال من الوثوق والمصداقية .

وعليه فبزوال الاتحاد السوفيتي تراجعت أهم أداة في مواجهته وهي الأداة النووية وحتى البعض من القوى الدولية التي كانت تعد وهي مرحلة تاريخية معينة خصما عقائديا للولايات المتحدة كالصين مثلاً فإنها أخذت تُكيّف مضامين عقيدتها السياسية وتوجهاتها الايديولوجية بما يتوافق مع حقائق مرحلة ما بعد الحرب الباردة .

الملاحظة الثانية: وهي ان الاستراتيجية الامريكية ورغم تغير توازنات القوى في البنية الهيكلية للنظام الدولي وبالشكل الذي يضمن للولايات المتحدة انفراداً متميزاً فان هذه الاستراتيجية كانت وما تزال تبدي ميلاً واضحا ونزوعاً قويا الى تبني اسلوب ردع فعّال يظهر قدرة الولايات المتحدة وتصميمها على استخدام قوتها العسكرية اذا ماتعرضت مصالحها الحيوية الى الخطر .

اي ان السمة المميزة لمنهج التفكير الاستراتيجي الامريكي تجمع بين التهديد باستخدام القوة العسكرية، او استخدامها فعلاً اذا ما تحوّل التهديد الى اسلوب عمل او طريقة في التعامل لانزال العقاب في حال المساس بالمصالح الحيوية، او عند تعرضها لتهديدات جدية .

 

وتكشف لنا الخبرة التاريخية كمحللين ستراتيجيين محترفين، ان هذا الاسلوب المنطوي على قدر واضح من التعنيف رافق الاستراتيجية الامريكية منذ النصف الثاني من القرن العشرين اذ تكاد لا تخلو اي ادارة من الادارات الامريكية التي تعاقبت على رئاسة الولايات المتحدة لهامش التصعيد او التهديد باستخدام القوة المسلحة على هذا الطرف أو ذاك .

فمثلاً ...

- في عهد الرئيس (تورمان) تبنت الادارة الامريكية استراتيجية الاحتواء .

- وفي عهد الرئيس (ايزنهاور) تبنت الادارة الامريكية استراتيجية الانتقام الشامل

- وفي عهد الرئيس (كندي) كانت هناك استراتيجية الاستجابة المرنة.

- وفي عهد (جونسن) تبنت الادارة الامريكية استراتيجية التدمير المؤكد .

- وفي عهد (نكسن) كانت هناك استراتيجية العامودين او الحرب بالوكالة .

- وتبنى (كارتر) بعد ذلك استراتيجية التدخل المباشر والانتشار السريع .

- وفي عهد (ريغان) تبنت الولايات المتحدة استراتيجية حرب النجوم والدرع الفضائي .

- وعندما تولى (بوش الاب) رئاسة الولايات المتحدة رفع شعار النظام الدولي الجديد واستراتيجية تكيف بقية الدول الكبرى والاقليمية مع الواقع الدولي الجديد .

- وفي عهد (كلنتون) كانت هناك استراتيجية الاحتواء المزدوج لبعض الانظمة التي ترى فيها الولايات المتحدة ما يهدد مصالحها .

- وفي عهد (بوش الابن) تبنت الادارة الامريكية استراتيجية الضربة الوقائية او الدفاع الوقائي ومحاربة الارهاب .

وربما يكون الدافع وراء تبني مثل هذه الانماط من الاستراتيجيات هو طبيعة الواقع الدولي والاقليمي سواء كان اثناء الحرب الباردة او بعد انتهائها بعد زوال الاتحاد السوفيتي وبقاء الولايات المتحدة كقوة قائدة في النظام الدولي وما رافق ذلك من اتساع الحيز الجغرافي لمفهوم الحيوية، مما يفرض على الولايات المتحدة تبني استراتيجيات مختلفة لمجابهة انماط متعددة من التحديات .

وفي الحقيقة ان مفهوم المصالح الحيوية الامريكية يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالرؤية الامريكية لمسألة الامن القومي الامريكي، وبالتالي فهو يرتبط بالعقيدة الامنية للولايات المتحدة على الرغم من الصعوبة الواضحة في تحديد ماهية المصالح الحيوية الامريكية المرتبطة بالامن القومي الامريكي، الا اذا كانت هذه المصالح الحيوية الامريكية تنطوي على امتدادات عالمية .

وفي واقع غياب الاتحاد السوفيتي ومحدودية الروادع النووية الدولية (كالصين وروسيا الاتحادية)، اصبح من الضروري بالنسبة للكثير من منظّري سياسة الامن القومي الامريكي إعادة التفكير فيما يتعرض له الامن القومي الامريكي من مخاطر .

ومن الناحية الفكرية التنظيمية يمكن ترتيب المخاطر التي يتعرض لها الامن القومي الامريكي الى ثلاثة مستويات مرتبة ترتيباً تنازلياً من اكثرها خطورة الى اقلها ..

١- اول هذه المستويات تشمل المخاطر التي تهدد وجود الولايات المتحدة والتي كانت متمثلة بالاتحاد السوفيتي والقوى المرشحة كبدائل له كالصين وروسيا الاتحادية .

٢- المستوى الثاني يشمل المخاطر التي تهدد المصالح الامريكية وهو المستوى الاكثر احتمالا وفق المنظور الاستراتيجي الامريكي وميدانها العملياتي والحالات الرئيسية التي تمثل هذه المخاطر هي الصين،روسيا الاتحادية، شبه الجزيرة الكورية، منطقة اسيا الوسطى، منطقة الشرق الاوسط وفي مقدمتها منطقة الخليج العربي .

 

٣- المستوى الثالث فيشمل مناطق لاتهدد الوجود الامريكي تهديداً مباشراً ولكن لابد من عمل حساب لها وهي (البلقان، الصومال، السودان، راوندة، هاييتي).

اما على المستوى السياسة الخارجية الامريكية فنقلا ً عن وزيرة الخارجية الامريكية السابقة (كوندليزا رايس) لبحث السياسة الخارجية الامريكية اتجاه منطقة الشرق الاوسط الموسع وهي حسب ما تقوله رايس تضم دولاً مابين دولتي المغرب وباكستان، وتقول ان السياسة الخارجية الامريكية اتجاه دول تلك المنطقة قائمة على عقيدة قديمة في السياسة الخارجية الامريكية وهي تلك القائمة على المزاوجة بين حقوق الانسان وتعزيز التطور الديمقراطي، ولكن هناك استثناء في السياسة الامريكية بالشرق الاوسط تركز اكثر على الاستقرار وتشير الى ان هناك حوار بشأن الديمقراطية بدول المنطقة ولكنه ضعيف وبعيداً عن الدوائر العامة .

وتشير ايضا الى انه خلال العقود الستة الماضية ركزت الادارات الامريكية (الديمقراطية والجمهورية) على مساومة، تقوم على الدعم الامريكي للنظام السلطوي بالمنطقة، وفي المقابل تعمل هذه الانظمة على تحقيق الاستقرار الذي تسعى اليه الولايات المتحدة لتحقيق مصالحها، ولكن بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر اتضح ان تلك المعادلة لا تساعد على تحقيق الاستقرار واذا كانت تحققه فانه استقرار لا يفيد المصالح الامريكية، حيث شهدت المنطقة زيادة نفوذ للمنظمات الاصولية لا سيما تنظيم القاعدة الذي اصبح يتبنى مفهوم العدو البعيد (Far Enemy ) في اشارة للولايات المتحدة والدول الغربية .

وفي ظل احتدام الجدل حول السياسة الخارجية الامريكية اتجاه منطقة الشرق الاوسط تقول (رايس) ان مستقبل المنطقة يؤثر على المصالح الامريكية في المنطقة والتي تتنوع بين الطاقة والامن والدفاع وتدعيم الحلفاء والاصدقاء وكذلك على الصيغ الامريكية لحل النزاعات التي تموج بها منطقة الشرق الاوسط، فضلاً عن مساعدة الدول الشرق اوسطية في الحرب الدولية ضد التطرف والارهاب، في الوقت الذي تُثار فيه معضلة الاختيار بين مصلحة الامن ام القيم الامريكية .

 

استراتيجية امريكا في العراق ..

حسب ما جاء في فكر الولايات المتحدة المُعلن للرأي العام انها جاءت للعراق لتحقيق الاهداف الاتية :-

1- مساعدة الشعب العراقي على الحاق الهزيمة بالارهابيين وبناء دولة ديمقراطية شمولية، وتحقيق معالم سياسية وتشييد مؤسسات ديمقراطية، وبناء قوات مسلحة جديدة قادرة على تأدية وظيفتها .

2- تحقيق تقدماً ستراتيجياً لأمريكا في محاربة الإرهاب و الارهابين .

 

3- تولي العراق الدور القيادي في الحاق الهزيمة بالارهابيين وفي توفير الامن بوجود حكومة دستورية قادرة على تحقيق مصالحه الاقتصادية

4- جعل العراق بلد ينعم بالسلام والوحدة والاستقرار والامن، ويصبح مندمج بشكل جيد في المجتمع الدولي وشريكا في الحرب العالمية على الارهاب .

5- مساعدة الشعب العراقي في بناء عراق جديد يتمتع بحكومة دستورية تمثيلية لكل الأعراق والطوائف، تحترم حقوق الانسان، ولها قوات امن كافية للمحافظة على الامن الداخلي والحيلولة دون ان يصبح العراق ملاذاً امناً لللارهابيين .

ولتحقيق هذه الغاية إتبعت الولايات المتحدة (وحسي إدعائاتها) استراتيجية متكاملة على ثلاثة مسارات عريضة تجسد مجتمعة جهود

١- الحكومة العراقية

٢- والتحالف والدول المتعاونة في المنطقة

٣- والمجتمع الدولي والولايات المتحدة .

وحسب هذه الرؤية الأمريكية، فإن المسار السياسي الصحيح بالعراق والمفروض السير فيه، يستلزم العمل على صياغة ميثاق يتمتع بتاثير واسع للحكم الديمقراطي من خلال مساعدة الحكومة العراقية على تحقيق ما يلي:-

1- عزل العناصر المعادية عن الاشخاص الذي يمكن استمالتهم وكسبهم الى صف العملية السياسية عن طريق التصدي للدعاية الكاذبة، وتقديم الدليل للمجتمع العراقي على ان لهم مصلحة في وجود عراق ديمقراطي .

2- التعاطي مع اشخاص من خارج العملية السياسية ودعوة المستعدين منهم لنبذ اعمال العنف بواسطة المشاركة المتزايدة وبإستمرار .

3- تشييد مؤسسات مستقرة وفعالة .

4- تطهير المناطق عن طريق مواصلة الهجوم ومنع العدو من الوصول الى الملاذ الامن .

5- تعزيز قوات الامن العراقية وقدرة المؤسسات المحلية على تقديم الخدمات وتحسين حكم القانون وتعزيز المجتمع المدني .

اما المسار الاقتصادي (ولازلنا بالرؤية الأمريكية) فيستلزم ارساء اساس اقتصادي سليم قادر على دعم نفسه بنفسه عن طريق مساعدة الحكومة العراقية على تحقيق مايلي:-

1- ترميم البنية التحتية في العراق لتلبية الطلب المتعاظم والحاجات المتزايدة للاقتصاد المتنامي .

2- تعزيز قدرة المؤسسات العراقية على المحافظة على البنية التحتية.

3- اصلاح اقتصاد العراق الذي شلته في الماضي الحروب الدكتاتورية .

وبهذا نكون قد حققنا التقدم في كافة المسارات السياسية والامنية والاقتصادية .

كما ان تحقيق النصر يتوقف على بعض الظروف اضافة الى الاستراتيجيات على المسارات السياسية والامنية والاقتصادية وتتمثل هذه الظروف بما يلي :-

1- احراز تقدم في العملية السياسية العراقية واستعداد العراقيين المتزايد للتواصل الى الترضية السياسية .

2- تدعيم المكاسب التي تم احرازها في تدريب قوات الامن العراقية.

3- تعاون الدول المجاورة للعراق مع بعضها .

4- زيادة الدعم في المجتمع المدني .

5- الدعم المستمر من قبل الشعب الامريكي للشعب العراقي .

 

آيدلوجية الرأسمالية الامريكية ...

إن الرغبة الامريكية في السيطرة على النفط الخليجي لا تنبع من حجم مساهمته في الاحتياجات النفطية الامريكية، بقدر ما هو السبيل لجعل الولايات المتحدة تحتفظ بمفاتيح الطاقة العالمية في يدها، وما يعنيه ذلك من التحكم في حركة منافسيها العالميين، في بسط الهيمنة على واحد من اهم مصادر الطاقة في العالم كي تكتمل مقومات الامبراطورية الامريكية المزمع بناؤها، وليس أدل على ذلك مما ورد في ..

- استراتيجية الطاقة القومية

(National Energy Policy)، او مايعرف بــ الذي يشير الى ضرورة ان يكون هناك قواعد عسكرية على رأس جميع منافذ النفط في العالم بدءا من كازاخستان، وانتهاء بأنگولا في افريقيا

كما تشير تلك الوثيقة ايضا الى انه بحلول عام 2020 فان النفط الخليجي سيساهم بما يتراوح بين 54 و 67 % من معروض النفط العالمي الخام .... وهو ما يجعل هذا الاقليم حيوياً بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة ... (هكذا يقول التقرير حرفيا)ً، كما تشير بعض التقديرات الى ان السعودية التي تصل طاقتها الانتاجية حاليا الى نحو 12،5 ملايين برميل يومياً، والعراق بنحو 2،5 مليون برميل يومياً، سوف ترتفع طاقتاهما الانتاجيتان كي تصل الى نحو 22،1 للسعودية و 10 ملايين برميل للعراق يومياً وعلى التوالي، وذلك خلال الــ17 عاماُ القادمة .

 

السياسة الخارجية الامريكية ...

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي اصبحت الولايات المتحدة الامريكية صاحبة القرارات المصيرية لشعوب العالم، والتي كان اغلبها ذات مردودات سلبية ونتائجها مدمرة من الناحية الاقتصادية والانسانية لهذه الشعوب، ولعل مافعلته في العراق دليلا واضحا لقسوة تلك السياسة . وكذلك الحال مع السودان والصومال وافغانستان ففي بداية القرن الحادي والعشرين، وما اعقبها من تطورات ميدانية على مستوى الانظمة في المنطقة فان سياسة الولايات المتحدة الخارجية تعتبر جزء من الاستراتيجيات الأمريكية العليا وأحد اهم وسائلها لتحقيق اهدافها .

فالسياسة الخارجية بادواتها المختلفة هي آلية اي دولة لتحقيق اهدافها وحماية مصالحها في العالم، كما ان العلاقة بين الاهداف والمصالح هي علاقة ارتباط عضوي ويجعل من تحقيق الاهداف عامل مساعد على تحقيق الاهداف والمصالح، وهذا يعزز من قوة الدولة لحماية نفسها واستقرارها، وهناك فرق بين الاهداف الدائمة والمصالح الحيوية لاي دولة، فالاهداف الدائمة للولايات المتحدة ترتبط بالاهداف الاستراتيجية العليا بالامن القومي والمحافظة على توازن القوى اقليميا، ومنع قيام قوة اقليمية ذات طابع تدميري .

وترتبط الاهداف الدائمة بشكل عضوي مع المصالح الحيوية، ولهذا فانها تستخدم وسائلها السياسية والاقتصادية والعسكرية للمحافظة عليها، لانها جزء اساسي من استراتيجية الدولة، الا ان في العراق اضطرت وسوف تضطر الى تغيير سياستها مع القوى الوطنية والمقاومة المسلحة، بعد ان وجدت بان ما جاءت به من قوى لا يشكلون (بالمفهوم الوطني العراقي) الحل الذي يبحث عنه العراقيون . فوضعت جدولاً زمنياً يتناسب مع الانتخابات وموقف الاحزاب الوطنية من الاحتلال، وما جرى من تمزيق للوحدة الوطنية ومخاطر التقسيم والتي عملت الولايات المتحدة من خلال وسائلها الرسمية (كما تدّعي) على وحدة العراق ارضاً وشعباً، لذلك فانها لم تحدث أي تغيير في استراتيجيتها العامة، واهدافها في المنطقة، ولكنها تعمل على ايجاد متجهات سياسية جديدة تساعدها على التغلب على المتغيرات الاقليمية والدولية من حولها .

اي ان الولايات المتحدة الامريكية تحاول خلق اتجاهات سياسية جديدة بالعراق لتحقيق اهدافها ومصالحها، وان المتغيرات التي شهدتها المنطقة بعد الحرب الباردة وبعد احتلالها للعراق واسعة وذات اهمية كبيرة شملت الاوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية، وانعكست اثارها على العلاقات الجماعية بين دول المنطقة وكذلك مع دول العالم .

 

ان الولايات المتحدة الامريكية هي من بين اكثر الدول تأثراً بهذه المتغيرات لما لها من تأثير مباشر على مصالحها واهدافها الدائمة، ولاستراتيجيها في المنطقة .

كما ان طبيعة السياسة الامريكية في العراق لها ابعاد سياسية وآفاق مستقبلية من خلال التطورات الحادة في المواقف الامريكية اتجاه الحركات المسلحة والمقاومة، فضلا عن القضايا التي يدور حولها الموقف الامريكي اتجاه العراق في ظل الاصوات التي دعت الى الانسحاب حسب الاتفاقية الامنية .

كذلك بالنسبة الى موضوع اعادة هيكلية النظام البائد وعلاقتها بتلك الابعاد فالهدف الرئيسي الذي سعت الى تحقيقه من وراء عدوانها على العراق يتلخص في انهاء قدرة العراق على تهديد المصالح الامريكية في المنطقة وبالتالي تضمن امن الدول المحيطة بالعراق .

 

الأفكار التي تحرك السياسة الخارجية الامريكية

إن مبدا " لا صوت يعلو على صوت المعركة " والذي تستخدمه الادارة الامريكية بنجاح منذ احداث سبتمبر لتركيز الجدل السياسي الامريكي الداخلي حول قضايا الامن ولتهميش اية معارضة داخلية لسياسة الادارة الامريكية الداخلية والخارجية، لم يحول دون ظهور بعض التحليلات التي حاولت فهم الاتجاه الذي تسير به السياسة الامريكية الخارجية، والمصير الذي تقود اليه امريكا نفسها والعالم .

وقد ساعد على ظهور هذه التحليلات عدة عوامل على رأسها شهد المنطقة العديد من الاحداث المهمة التي غيرت الى حد كبير مسار وادوات السياسة الخارجية الامريكية، وان الادارة الامريكية نفسها سعت الى وصف وتحليل هذا التغيير من خلال كتابات وتصريحات مهمة صدرت عن كبار مسئولي الادارة الامريكية خلال الإدارتين السابقتين، والتي كان على راسها صدور تصوّر جديد لمبادئ الامن القومي الامريكي، والذي اصدرته الادارة الأمريكية اضافة الى ذلك قضية العراق وما فرضته من جدل واسع داخل الاوساط السياسية والشعبية الامريكية حول وجهة السياسة الخارجية الامريكية بالعراق .

وقد قدمت هذه التحليلات محاولات مختلفة لفهم مسار السياسة الخارجية والافكار الكبرى التي تسيطر على صانعيها والمهتمين بها خلال الفترة الحالية، ونهتم باحد هذه المحاولات وهي محاولة النظر الى السياسة الخارجية الامريكية في الفترة الحالية كصراع لم يحسم بعد بين ازواج ثلاثة من الافكار والمبادئ الكبرى المتناقضة، وهم ...

- فكرة العزلة في مقابل التدخل .

- فكرة العمل الفردي في مقابل العمل الجماعي .

- فكرة الاخلاقية في مقابل الواقعية .

 

وبالنسبة لاول هذه الازواج الفكرية المتناقضة وهما فكرتا التدخل والعزلة، فالمعروف هنا ان الامريكيين تاريخيا كانوا اكثر ميلا للعزلة على المستوى الدولي، ولكن القرن العشرين وخاصة في الفترة التالية للحرب العالمية الثانية شهد تدخلاً واندماجاً امريكياً متزايداً على عقلية وتفكير صانع القرار السياسي الامريكي .

أما في الفترة الحالية، اذ ينعكس في صور اساسية منها شعور الامريكيين المستمر بعدم الثقة في مواقف حلفائهم وشركائهم الدوليين بما في ذلك حلفاء امريكا الاوربيون انفسهم، ومنها ايضا عدم رغبة الامريكيين في تحمل تكاليف عالية لاتباع سياسة خارجية وخاصة اذا كانت هذه التكاليف هي تكاليف بشرية في ارواح الجنود الامريكيين . ويقول البعض ان احداث الحادي عشر من سبتمبر حسمت هذا الجدل في صالح انصار التدخل، لان هجمات 11 سبتمبر اثبتت للامريكيين انهم ليسوا بعزلة عن العالم وما يحمله من اخطار، كما انها فرضت على امريكا حربا طويلة ضد الارهاب، ولعب دور عالمي نشط لكي تستطيع تحقيق النصر فيه .

ولكن هذا التحليل لا يحول دون ان يشكك البعض على مدى رغبة امريكا في كسر عزلتها وتحمل تكاليف لعب دور اكثر نشاطاً وفاعلية على الساحة الدولية، ويستشهد اصحاب هذا الاتجاه بمثال التدخل الامريكي في افغانستان، ويقولون ان اهتمام امريكا بافغانستان قل بشكل ملحوظ بعد اسقاط حكومة طالبان ولم يمتد الى ماهو اهم من ذلك وهو عملية اعادة بناء افغانستان، والتي تعتبر في حد ذاتها ضمانة اساسية لحماية افغانستان من تجارب مماثلة لتجربة الطالبان، ويرون ان ذلك يعد دليلا على عدم رغبة امريكا واستعدادها بعد لتحمل تكاليف لعب دور عالمي اكثر مشاركة وتدخلاً .

الزوج الفكري الثاني داخل هذا المنظور الخاص بتحليل السياسة الخارجية الامريكية هما فكرتا الانفراد والعمل الجماعي، ويرى المحللون هذه النقطة ان الولايات المتحدة وخاصة في حكومة الرئيس جورج دبليو بوش تميل بوضوح نحو التحرك الخارجي الفردي وعدم انتظار المجتمع الدولي ومؤسساته، ويفسرون التحرك الامريكي في هذا الاتجاه بمبدأ العزلة وما يفرضه من شعور بعدم الثقة في الاخرين او بجدوى الاعتماد عليهم، ويفسرونه ايضا بطبيعة القوة العسكرية الامريكية في هذه الفترة، اذ تعتبر بلا منازع القوة العسكرية رقم واحد على الساحة الدولية، الامر الذي يُمكّن امريكا من التحرك العسكري والسياسي على الساحة الدولية دون استشارة احد .

مناصرو العمل الجماعي (وهي إدارة الرئيس أوباما)، يرون ان الولايات المتحدة لن تستطيع تحمل تكاليف تهميش دور المنظمات الدولية الموجودة في عالم اليوم وعلى راسها الامم المتحدة، والدور الذي تلعبه وتمثله هذه المنظمات على الساحة الدولية، خاصة وان تهميش دور هذه المنظمات والمجتمع الدولي سوف يعطي الجماعات والدول المعادية للولايات المتحدة فرصة اكبر للعمل ضدّها، وسوف يحد من قدرة امريكا على الوصول الى هذه الاطراف والاحاطة بها، بالاضافة الى ذلك يرى اصحاب هذا الاتجاه ان الولايات المتحدة قد تعتبر القوة رقم واحد على الساحة العسكرية ولكن على الوضع الاقتصادي الامر مختلف اذ تحتاج امريكا العالم في تحمل تكاليف عملياتها العسكرية وفي اعادة تعمير الدول والمناطق التي تريد الولايات المتحدة تغييرها .

ويشير المحللون الى إن الرئيس أوباما كان راعي اتجاه العمل الجماعي داخل الادارة الامريكية، ويعتبر موقفه من حرب امريكا ضد العراق نمودجاً لانتصار اصحاب اتجاه العمل الجماعي، ولكن لازال من يعتبر العمل الفردي داخل الادارة الامريكية ضروري في بعض المواقف .

الزوج الفكري المتناقض الثالث هما فكرتا الاخلاقية والواقعية، وتعني الفكرة الاولى ان الولايات المتحدة في سياستها الخارجية سوف تولي اهتماما متزايدا بالقضايا الاخلاقية مثل حقوق الانسان ونشر الديمقراطية والحرية في العالم، وان حرب امريكا الراهنة ضد الارهاب لايجب ان تغفل ابدا هذه المبادئ، وترتبط هذه المبادئ بقوة بافكار وتوجهات المحافظين الجدد، ومن هذا المنطلق مثلاً ماصرحت به مستشارة الامن القومي الامريكي السابقة السيدة كنودليزا رايس، بان امريكا تهدف الى احلال الديمقراطية في العالم الاسلامي .

في المقابل يهتم الواقعيون بتحقيق مصالح الولايات المتحدة بشكل اساسي من خلال النظر الى العالم والى الساحة الدولية من خلال منظور صراع القوى لا صراع المبادئ، ويرفض هؤلاء الافراط في الحديث عن الاهداف الفكرية والمثالية لسياسة الولايات المتحدة الخارجية، وينتمي الى هذا المعسكر عدد كبير من صناع السياسة الخارجية القدامي والحاليين، وعلى راسهم شخصيات مثل هنري كيسنجر وزير الخارجية الامريكي السابق، وديك تشيني نائب الرئيس الامريكي السابق، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع الامريكي السابق .

والواضح هنا ان الاتجاه الاخلاقي على الرغم من ارتباطه بمن يسمون أنفسهم بالمحافظين الجدد والذي يمثلون تكتلا قويا داخل الحكومة الامريكية السابقة والراهنة، الا انه يعتبر في موضع اكثر ضعفا من التيار الواقعي، وذلك لان التيار الواقعي اكثر تاثيرا على السياسة الخارجية الامريكية تاريخياً، كما ان سياسة الولايات المتحدة الخارجية تعاني من تناقضات اخلاقية كبيرة وعديدة وعلى راسها موقف امريكا المنحاز من قضية الشرق الاوسط (القضية الفلسطينية)، والتي يصعب تصور حلها في الفترة الراهنة، لكي تتمكن السياسة الخارجية الامريكية ان تكون سياسة اخلاقية بمعنى حقيقي .

وفي النهاية واذا حاولنا جمع وتلخيص الافكار المطروحة في المنظور السابق وما تفرضه من معاني وانعكاسات على توجه صانع القرار السياسي الامريكي، فيمكن القول ان المنظور السابق حول تقديم صورة معقدة ديناميكية للسياسة الخارجية الامريكية، لم يرد حسمها لصالح توجه بعينه او فكره بعينها من الافكار والمبادئ المؤثرة على توجه صانع القرار السياسي الامريكي في الوقت الراهن، ولكننا ايضا وبهدف التلخيص والوصول الى النتائج محددة، يمكن القول انه وفقاً للمنظور السابق يمكننا الوقوف على الخلاصات المهمة التالية:

1- تركيز الولايات المتحدة المتزايدة بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 على قوتها العسكرية كوسيلة لتحقيق اهدافها الخارجية دفعها الى توجه اكثر فردية وتدخلاً، وربما واقعية على الساحة الدولية، ولكن حربها ضد الارهاب يفرض عليها الاعتماد المتزايد على دول العالم في مراحل مختلفة من هذه الحرب، وخاصة في تتبع الجماعات المطلوبة من قبل الولايات المتحدة، وفي جهود إعادة تعمير الدول واحلال السلام بعد فترات الحروب .

2- آخر شئ قد تحتاجه الولايات المتحدة في الفترة الحالية هو المبالغة في التدخل والفردية والواقعية وفرض ارادتها على الدول الى الحد الذي قد يدفع دول وشعوب العالم الى الدخول في حالة اشبه بحالة " عدم تعاون عام لكنه غير عنيف " وهو مبدا معروف في علوم حل المنازعات بالطرق السلمية، واعني بذلك ان دول العالم تحت الضغط والتدخل الامريكي المتزايد قد لاتقوم باعلان معارضتها صراحة للولايات المتحدة، بل تكتفي باعلان تعاونها من ناحية وتتخذ في الواقع موقفا سلبيا لا هو مؤيد ولا معارض وتترك للولايات المتحدة مهمة التدخل في كل مكان بالعالم لملاحقة الجماعات التي تعتبرها معادية لها وهي المهمة التي يستحيل على اية دولة من دول العالم تحقيقها بمفردها مهما بلغت قوتها .

 

امريكا والحرب الكارثية على العراق ...

بعد النجاح الذي حققته الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية عام 1991، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، وما تبع ذلك من فقدان التوازن الدولي، وتحوله نحو سيادة القطب الواحد الامريكي، بدأت تتكشف الاستراتيجية الامريكية الهادفة للهيمنة المطلقة على العالم بأجلى مظاهرها، وتميزت هذه الاستراتيجية بتقديس السيطرة التكنولوجية التي تتمتع بها كوسيلة فعالة لتحقيق اهدافها .

وجاءت تحركات الولايات المتحدة الامريكية في الاعداد لحرب الخليج الثالثة ضد العراق كمرحلة اولى ضمن هذا السياق، وكلحظة تجسيد لذلك الانحراف الامريكي الهادف لتحقيق السيطرة الكلية على مصير العالم، ومصير البشرية، متذرعة بضرورة العمل باقصى سرعة ضد المجمع الصناعي العسكري العراقي، الذي سعت لتضخيمه، وحذرت من برامجه المتقدمة في مجال صناعة اسلحة الدمار الشامل، النووي والكيمياوي والبيولوجي، وسعت لاقناع حلفائها الغربيين بان العمل العسكري المباشر هو السبيل الوحيد للتخلص من هذا الخطر الماثل، علما ان الولايات المتحدة وحلفائها الغربيون هم من ساعدوا نظام الدكتاتور العراقي في هذا المجال، ومدوه بكل الخبرات والوسائل إبّان حرب الخليج الاولى التي خاضها نظام صدام ضد ايران وبالنيابة عن الولايات المتحدة، والتي امتدت لثمانية اعوام دون اي مبرر، ودفع الشعب العراقي خلالها ثمناً باهضاً من ارواح ابنائه، ناهيك عن الخراب الاقتصادي والاجتماعي الذي حل بالبلاد .

ان احد اهم مفاصل هذا التحليل المعمق لميكانيزم صنع القرار السياسي والاستراتيجي للولايات المتحدة يتمثل في توضيح العلاقة المتشابكة مابين (السلطة التشريعية) متمثلة بالكونغرس، و (السلطة التنفيذية) متمثلة بمؤسسات الرئاسة، ووزارة الخارجية والبنتاغون، حيث ان سحب الثقة عن اية ميزانية مقدمة من احدى المؤسسات التنفيذية، انما هو سلاح فعّال لمواجهة سياسات لا يتفق الكونغرس على خطوطها الرئيسية .

لكن هذه السلطة لدى الكونغرس ليست سوى سلطة منقوصة في حالات الحرب، وبخصوص قضايا الامن القومي، التي ينظر اليها الدستور الامريكي على انها حكر على السلطة التنفيذية بامتياز .

ولغرض اقناع الرئيس الامريكي بوش للكونغرس للموافقة على مشروع الحرب المخطط لتنفيذها ازاء العراق، كخطوة اولى في المخططات الامريكية للهيمنة على العالم كان سلاح المناورة والتحايل وتضخيم الاخطار ازاء الولايات المتحدة والشعب الامريكي سلاحاً فعالاً بيد الادارة الامريكية لخلق قبول عام لفكرة الحرب على العراق .

ان تشكيل اي رأي عام مؤيد للحرب من شأنه ممارسة اشكال من الترهيب والتخويف للمجتمع الامريكي من مخاطر الارهاب الدولي، مستغلاً احداث الحادي عشر من ايلول الارهابية، وكذلك للضغط على السلطة التشريعية لاقناعها بضرورة الحرب المطلوبة، او لاجبارها مكرهة على الالتحاق بهذا الركب .

وفي ظل هذا الواقع يجد المتتبعون للسياسة الامريكية ان الديمقراطية الامريكية قد فقدت الكثير من مصداقيتها والمتمثلة التلاعب بالراي العام الامريكي بشكل خاص، والراي العام العالمي بشكل عام، والذي يطلب منه تبني فكرة اللجوء الى الحرب الهجومية كضرورة لا مفر منها، وهذا التلاعب قد امتد الى فترة زمنية طويلة، وكان شعارها الاقتصادي والعسكري كسلاح وحيد وفعال لإجبار النظام العراقي على الانسحاب من الكويت عام 1991، وعلى تدمير اسلحته ذات الدمار الشامل، وفي ظل هذا الشعار المخادع جرت الاستعدادات للحرب الهجومية عليه، وهذه الاستعدادات لم تكن سرا من الاسرار، فلا مجال في الولايات المتحدة لكتمان الاسرار طويلاً، وهكذا باتت الحرب ضد العراق مؤكدة بنظر أهل الاختصاص من ذوي العلاقة بالدوائر الحاكمة حيث تعمل المؤسسة العسكرية جاهدة على تجهيز خطة متكاملة للحرب لكي تكون جاهزة في لحظه القرار السياسي .

ان التفكير الامريكي الذي يقدّس الامكانيات والوسائل التكنولوجية لدرجة سيادة نوع من دكتاتورية الادوات والوسائل تتقدم لتُملي على السياسة مبادئ عملها واهدافها قد غدا العامل المحرك لسياستها الهادفة للهيمنة على العالم، وهذا من الجانب المأساوي من الفكر الاستراتيجي الامريكي، الذي ينظر سيادة التكنولوجيا على السياسة، وهذا الانسحاب للمجتمع المدني ولتعبيراته البرلمانية والجماهيرية امام تقدم طبقة او شريحة من التكنوقراط المرتبطة بجملة مصالح المجمع الصناعي العسكري الامريكي، هو مادفع اوربا خصوصا والعالم الى اطلاق صيحة تحذير من الاهداف الامريكية، ذلك ان الانصياع والخضوع للسياسات الامريكية انما يحمل خطراً جسيماً على مستقبل البشرية جمعاء في نظر الكثير من دول العالم وحلفاء أمريكا .

اخذت الولايات المتحدة تعمل في تلك الايام بنشاط مكثف من اجل الحشد الميداني الذي يفوق بالفعل حاجات الانخراط في ميادين المعركة الحقيقية وذلك لتحقيق هدف استراتيجي يتجاوز البعد العسكري للمواجهة مع العراق في محاولة لردع النظام العراقي دون ان يضطر الطرف الامريكي للتورط في معركة فعلية ذات ابعاد كارثية اذا ماامكن ذلك، ومهددة النظام بمواجهة خطر التدمير الساحق الذي يتجسّد علناً بتلك الحشود الهائلة في الميدان، وهي مصرة على شن الحرب لاسقاط النظام العراقي اذا ما أصر على تجاهل تلك الحشود والتهديدات .

وكما اصر راس النظام العراقي (صدام) من قبل على تجاهل الدعوات له للخروج من الكويت، رغم كل النصائح المقدمة له من خطورة الحرب التي كانت الولايات المتحدة تُهيئ لها، مستقدمة قوات هائلة ومسلحة باحداث ما أنتجته المصانع الحربية الامريكية، فان المقبور صدّام استمر على موافقه الخاطئة، ولم يتعلم الدرس من حروبه السابقة، رغم كل النصائح التي قُدمت له بعد احتلاله الكويت، بضرورة الانسحاب حفاظاً على مصير العراق وشعبه وعلى جيشه من التدمير الذي ينتظره، اذا لم ينفذ قرار مجلس الامن القاضي بالانسحاب من الكويت دون قيد او شرط .

وفي حرب اذار عام 2003، التي لم يستطيع صدام وجيشه الصمود فيها سوى عشرين يوما، حيث انهار النظام بكل مؤسساته واجهزته العسكرية والامنية، وإحتلت القوات الامريكية العراق، وإستحصلت بعدها قرارا من مجلس الامن يشرعن إحتلالها، ونصبت الجنرال المتقاعد (كاردنر) حاكما على العراق، ثم ما لبثت ان استبدلته بالدبلوماسي الامريكي (بول برايمر) الذي حكم العراق عاماً كاملاً، اقترف فيه الكثير من الاخطاء الكارثية التي اوقعت الشعب العراقي في جحيم أقسى وأمر من جحيم نظام صدام، باقامته نظام حكم طائفي مُتخلف، أدى الى الإستقطاب الطائفي الشيعي والسني، وأشعل نيران الحرب الاهلية الطائفية التي باتت تطحن الابرياء كل يوم على ايدي الإرهاب والمليشيات، وبات التهجير والعزل السكاني يجري في البلاد على قدم وساق، وأخذت موجات الهجرة الداخلية والخارجية تتصاعد حتى تجاوزت الملايين، هرباً من الموت الزؤام .

لقد حولت الولايات المتحدة العراق الى ساحة لتصفية الحسابات مع قوى الارهاب المدعومة من دول الجوار المحيطة بالعراق، بالاضافة الى عناصر القاعدة وداعش التي مهدت لها دول الجوار السبيل للعبور نحو العراق برعاية العناصر البعثية، لتُنفّذ جرائمها الوحشية التي تستهدف قتل كل العراقيين .

كما فسحت المجال امام العناصر البعثية التي اُسقطت من السلطة لتستعيد انفاسها وتعيد تنظيم صفوفها وتلتحق بالتنظيمات الإرهابية لتشن حرباً إجرامية لاهوادة فيها ضد الشعب العراقي، وهي المدربة على السلاح، ولديها ملايين قطع السلاح التي نشرها النظام الصدامي في البلاد، بالاضافة الى الاموال الهائلة التي سرقها النظام آخر أيام حكمه من البنك المركزي العراقي والمقدرة بحوالي 90 مليار دولار لاستخدامها في استعادة السلطة .

لقد اشعل اعوان صدام حرباً اجرامية شرسة قوامها السيارات المفخخة والعبوات الناسفة التي تقتل المواطنين بالجملة كل يوم مما حول حياة المواطنين الى جحيم لا يُطاق، وبات الشعب العراقي اليوم بين طاحونة الإرهابيين الدواعش والبعثيين الطامحين باستعادة السلطة من جهة، وطاحونة الأحزاب السياسية الطائفية الغير كفوءة والمتشبثة بالسلطة تحت شعار الديقراطية، وبالتالي قيادة العراق نحو مزيد من التخلف والهمجية والمذابح الوحشية، وطاحونة الاحتلال البغيض .

وهنا من حق المواطن العراقي ان يسأل:

هل ان امريكا باتت حقا عاجزة بكل ما لديها من قوات واسلحة فتاكة عن اعادة الامن والسلام للبلاد ؟، ام انها هي التي خططت لايصال العراق الى هذه الحالة المأساوية من اجل ادامة احتلالها له ؟ ولماذا اقامت أمريكا هذا النظام الطائفي في البلاد ؟، وفسحت المجال واسعاً امام تشكيل الميلشيات المسلحة ؟، ولماذا فسحت المجال امام انصار النظام المُسقط ليستعيد انفاسه، وتنظيم صفوفه من جديد وحمل السلاح من اجل استعادة السلطة على جماجم المواطنين ؟ لماذا جرى حل الجيش ؟ واين اختفت الاسلحة الثقيلة من دبابات ومدفعية وطائرات وصواريخ وقنابل ؟ ولماذا أسست أمريكا جيشاً جديداً ملغماً بالعناصر الطائفية والإرهابية التي لاتُدين بالولاء للعراق، بل لاحزابها الطائفية وتنظيماتها المرتبطة بوشائج مع دول الجوار .

لماذا سلحت هذا الجيش بالاسلحة الخفيفة وماتزال تصر على عدم تسليحه بالاسلحة الثقيلة لكي تصبح له القدرة على فرض الامن والنظام في البلاد ؟ كيف تستطيع حكومة الطوائف التي يتنازع اطرافها فيما بينهم من تحقيق الامن والسلام في البلاد وهي التي تعتمد اليوم على الحشد الشعبي والذي بدونه لضاع العراق .

ان العراق اليوم يمر بكارثة كبرى لاخروج منها الا بالخلاص من الطائفية المقيتة والتعصب القومي الاعمى، والايمان بالعراق والعراقية الصادقة وقيام نظام حكم ديمقراطي علماني ليبرالي يحترم الدين والتديّن، ويحترم ويكفل حريات وحقوق الانسان المنصوص عليها في نصوص شرائع كل الأديان وحقوق الانسان الدولية، ويفصل الدين عن الدولة، ويستأصل كافة الميليشيات التي تحمل السلاح خارج الدولة، مهما كانت، والعمل على تنظيف الجيش والاجهزة الامنية من العناصر الإرهابية والطائفية لكي تكون هذه الاجهزة (الخطيرة والمهمة) بعيدة عن القوى والاحزاب السياسية، وتتسم بالولاء المطلق للعراق وحده، والضغط على الادارة الامريكية لتسليح الجيش بالسلاح الثقيل كي تستطيع حماية أمن العراق داخلياً وخارجياً، وهذا يتطلب وحدة كل القوى المؤمنة بعراقيتها وبالديمقراطية وحقوق الانسان، في جبهة وطنية واسعة تستطيع تشكيل قوة ضاغطة على الادارة الامريكية لتحقيق هذه الاهداف، واستعادة العراق لسيادته واستقلاله الحقيقيين، فلا معنى اليوم لاستقلال العراق في ظل الاحتلال الداعشي الجاثم والمعلن على صدر المواطنين، والإحتلالات الغير المعلنة لأجندات الدول الإقليمية والدولية .

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد كل ماذُكر ..

هل العراقيون قادرون على تجاوز هذه الأزمة، وبناء بلدهم من جديد بما يخدم طموحات شعبهم ؟ أم سيبقون يدورون في ساقية المالانهاية بدون نتيجة ويبقى الدم العراقي مُستباح من هذا وذاك .

 

الفتن الامريكية في العراق ..

في عام 1996 م نُشر كتاب " صراع الحضارات " فأثار جدلاً حاداً بين المثقفين والسياسيين وأظهر استغراب الناس الشديد من هذا الطرح الغريب، وقد وصف البعض ناشره بانه واسع الخيال وغريب التصور . بينما راح بعض المحللين السياسيين الى ابعد من ذلك، حيث وصفوا طرحه بانه جزء من مخطط سياسي امريكي وسلسلة تحضيرات منظمة لصراعات مرسومة تقوم بها الادارة الامريكية في مناطق الشرق الاوسط . وبمرور الايام والزمن تتكشف بعض الحقائق التي تدعم والى حد ما رأي هؤلاء المحللين السياسيين .

عندما اجتاحت القوات الامريكية كل من افغانستان والعراق بحجج ملاحقة ومكافحة الإرهاب ، كان في كتب سجل أمريكا السياسي مشروعا استراتيجيا كبيرا لوحت الادارة الامريكية في بعض عناوينه، فسمعنا مثلا " مشروع الشرق الاوسط الكبير " و " دول محور الشرق " و " الديمقراطية في الشرق الاوسط " وغيرها من المصطلحات البراقة التي تعني نوايا امريكية مُبيّته باجراء تغييرات جذرية واسعة في خارطة الشرق الاوسط .

الا ان بنود هذه المشاريع الامريكية توقفت عن التنفيذ بسبب المازق الكبير الذي تعرضت له امريكا في العراق، حيث لم تَفلح الادارة الامريكية من تحقيق اهدافها المرسومة في جدول زمني كانت قد حصرته من قبل . الا ان الفشل الامريكي في بداية المطاف لا يعني رجوعها مع مشروعها من حيث اتت ، وبهذه السهولة، بل يعني تفاعلات وردود فعل حثيثة وخبيثة مختلفة تتباين بتباين الاوضاع والظروف المستجدة، حيث لا يستطيع احد ان يتنبأ بتفاصيلها وخصائصها حتى اليوم .

ان المتابع لمسيرة الاحداث وخضم التطورات الميدانية في العراق يستنتج بان فتن كبرى قد حصلت وستحصل وباستمرار في هذا البلد، منذ يوم اجتياح العراق والى حد هذه الساعة، ونترك للقارئ الكريم فرصة التمحص والاستنتاج بكل هذه الفتن وطبيعتها، وفيما لو كانت قد جاءت مرسومة أصلا من قبل الادارة الامريكية، ام انها تحصيل حاصل او نتائج عرضية غير مقصودة .

 

1- جاء الامريكيون بديمقراطيتهم وادخلوها الى العراق ضمن سياقات وبرامج مرسومة قامت على مبادئ مثيرة للجدل في نتائجها ومردوداتها .

فقد كانت المحاصصة الطائفية والعرقية مثلاً من بين الاجراءات والمبادئ التي اُقيمت على اساسها اوتاد هذه الديمقراطية . وهذا ماأدى الى تقوقع او انكماش سياسي واضح تسبب في اعاقة الحركة السياسية واصابتها بالفشل، بل مهد السبيل لخلق حواجز طائفية وعرقية في المجتمع العراقي الموحد .

كما صاحب هذا المبدأ اجراءات أمريكية تحفّزية اخرى لشق وحدة العراقيين وخلق حالة من الكره والعداء فيما بينهم .

لقد كان ذلك من خلال حل انظمة الشرطة والجيش وبعض الوزارات والمؤسسات الرسمية الاخرى، واصدار قانون اجتثاث البعث بعيداً عن القضاء وحياديته ومساومة هذا البعثي أو ذاك .

كذلك مداهمة وقصف الاحياء السكنية الامنة ونشر صور اساليب تعذيب السجناء العراقيين في السجون الأمريكية بالعراق، وفتح حدود العراق امام الشارد والوارد، وتهميش القوى الوطنية غير الطائفية وابعادهم عن المسار السياسي القائم، واهانة الكفاءة والقدرة العراقية الحقيقية، وعدم الاكتراث بها، كل هذه الامور قد ساهمت وبشكل اكيد في اشعال الفتنة الطائفية وغير الطائفية، وفي خلق حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والامني والاقتصادي والخدمي والسياسي في هذا البلد .

2- الفتنة الطائفية لم تقتصر حدودها على صراع طائفي بين الشيعة والسنة فحسب، انما يتعدى صراع شيعي - شيعي وصراع سني- سني ! فمن يتحمص ملياً في تفاصيل الامور يرى اليوم بان الامريكيين ومنذ البدء قد قرّبوا فصائل من الشيعة دون اخرى وفصائل من السنة دون غيرها . هذا التهميش او الاقصاء المتعمد الذي وصل الى حد المحاربة والتسقيط لبعض الفصائل ذات المد الكبير داخل الطائفة الواحدة، مما نتج صراع عنيف داخلي بين ابناء الطائفة نفسها . وهذا ما نلاحظه اليوم على ارض الواقع، فالصراع الداخلي الكامن داخل الطائفة الواحدة يظهر للعيان بين الفينة والاخرى وعلى الساحة العراقية السياسية والإجتماعية، وهذا ما يشير الى ان الاوضاع داخل الطائفة الواحدة تنتظر ساعة الصفر، كي يحصل الانفجار الكبير .

3- محنة العراقيين لم تقتصر على ضياعهم في متاهات الداخل العراقي فحسب، انما سيدفع العراقيين ايضا ثمن نتائج الصراعات القائمة حاليا او التي ستقوم في المستقبل القريب بين امريكا واي دولة بالعالم، واوضاع سوريا ولبنان واليمن والبحرين وتداعياتها .

إن الذي يتمحص في الوضع العراقي الحالي ملياً يجد بان الفتن الواقعة في العراق هذا اليوم هي اقل واخف من الفتن السابحة في فضاء الديمقراطية المستوردة والمغشوشة التي حوت في طياتها اعقد المشاكل واصعب المحن .

ولايسعنا أن نقول إلاّ (اللّه يستر من الجايات) .

 

الخاتمة ...

لم يكن احداً يحمل ذرة من الوطنية الصادقة يتمنى ان يرى وطنه العراق الحبيب محتلاً من قبل الجيوش الامريكية والبريطانية، ولا اية جيوش اخرى، ونحن الذين حاربنا الاستعمار عقوداً عديدة وخضنا معارك الحرية في صفوف ابناء شعبنا من اجل تخليص الوطن من الهيمنة البريطانية، وتحملنا صنوفاً من القهر والسجون والتعذيب والتشرد في المنافي، والغربة عن الوطن، والابناء والاحفاد لينتهي بنا المطاف الى الاحتلال الامريكي المُعلن والمخفي .

ان اطالة امد الاحتلال (المُعلن والمخفي) تحت اي عذر او ذريعة، كان ولازال لايخدم الشعب العراقي، ولا مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وهو بكل تاكيد سيعمّق من الازمة الراهنة، ويطيل من معانات شعبنا، والحل الوحيد هو في الاسراع في تكوين الاجهزة الامنية وجيش حقيقي الولاء، وتسلّق السلطة بطريقة أو بأخرى شخصيات كفوءة ووجوه جديدة بعيدة عن الوجوه الكالحة التي تحكم وتتحكّم اليوم (إلاّ من رحم ربي منهم، لأنها لو خُليت قُلبت مثلما يقولون)، والعمل على معالجة الاوضاع الاقتصادية المتردية ومعالجة البطالة، وتهيئة المناخ المناسب والامن للاستثمارات الاجنبية من اجل اعادة بناء البنية التحتية للاقتصاد العراقي المنهار، وتامين الحياة الكريمة لشعبنا وأجيالنا القادمة ..

والله من وراء القصد .

 

بحث لــ / د. نبيل أحمد الأمير

في المثقف اليوم