قضايا

المحاكم الشعبية

fakhry mashkorيمثل الحراك الشعبي اليوم الفرصة الوحيدة للاصلاح السياسي ومكافحة الفساد في العراق بعد ان انسدت كل الطرق الاخرى في ظل فساد 99% من الطبقة السياسية.

تكمن قيمة الحراك الشعبي في قوته من ناحية ومشروعيته من ناحية اخرى.

فمن حيث قوته: فرض الحراك الشعبي نفسه كبديل وظيفي عن كل مؤسسات الدولة لجهة عملية الاصلاح بعد ان عجزت السلطات الثلاث عن الخروج من وظيفة خدمة الطبقة السياسية الفاسدة الى وظيفتها الاصلية في خدمة في خدمة الشعب.

ومن حيث مشروعيته: حظي الحراك بأكبر دعم معنوي من قبل المرجعية التي اغلقت ابوابها بوجه السياسيين لكي تدينهم، لكنها فتحت قلبها للمتظاهرين لكي تحتضنهم، وبهذا قطعت المرجعية الطريق على الطبقة السياسية الفاسدة ومنعتها من الطعن بالحراك وشلّت قدرتها على استخدام القوة للقضاء عليه، واخرست السنها التي تحاول وصفه بأعمال شغب.

لذلك لابد – من اجل انجاح الحراك- من المحافظة على ما وصفناه في مقالة سابقة بـ"ضلعي الزاوية الحادة": الحراك والمرجعية من اجل حشر الطبقة السياسية الفاسدة بين هذين الضلعين وتضييق الزاوية لتصبح اكثر حدة ولتحشر الطبقة السياسية فيها اكثر وتجبرها على التسليم لمطالب المتظاهرين.

ان قوة الحراك ومشروعيته تدفعنا الى التمسك به والحفاظ عليه ودفعه الى الامام نحو تحقيق اهدافه، لان فشله يعني ضياع فرصة التغيير وبقاء العراق بقرة حلوب يشرب السياسيون حليبها ويطعمون الشعب فضلاتها.

 

الاخطار التي تهدد الحراك

تواجه الحراك الشعبي اخطار من اربعة مصادر:

1. الطبقة السياسية التي تحاول القضاء عليه لأنه يشكل خطراً على وجودها كديدان طفيلية اعتادت على الحرام من خلال امتصاص دماء المواطنين ولم تعد تستطيع العيش الحلال من خلال العمل الشريف مثل الاسوياء من البشر. كما تخشى هذه الطبقة ايضا على حياتها من تطورات الحراك غير المحسوبة والتي قد تؤدي في لحظة انفلات -وبعد اليأس من الاستجابة لمطالبها-الى اعمال عنف انتقامية تودي بحياة السياسيين الفاسدين. لذلك تبذل هذه الطبقة قصارى جهدها لافشال هذا الحراك لكي تنقذ حياتها من المصير الاسود الذي يهددها.

2. القوى الاقليمية المعادية للعراق والتي قضت اكثر من عشر سنوات تفجر وتقتل وتمول وتسلح كل بؤر الفتنة لتمزيق العراق من الداخل، كما موّلت وسلّحت المجموعات الارهابية في دول الربيع العربي، وهي تريد بذلك تحويل العراق الى سورية ثانية او ليبيا اخرى. هذه الدول الاقليمية تريد ان تسرق الحراك من خلال نفس البرنامج الذي دمرت به سوريا (تنسيقيات تقود مظاهرات سلمية، ثم "تسليح المتظاهرين للدفاع عن انفسهم!" ثم زرع داعش والنصرة). لكن المنبر الذي تستخدمه في العراق -بدل قناة الجزيرة وقناة العربية- سيكون منبر البغدادية والشرقية.

3. المتظاهرون انفسهم قد يشكلون الخطر الاكبر على الحراك وذلك من خلال الحماس المنفلت وردود الفعل غير المنضبطة على استفزازات القوى الامنية التي تمثل ادوات الطبقة السياسية لقمع التظاهرات. عندما يؤدي الحماس المنفلت الى اعمال شغب (أي اضرار بالممتلكات العامة او الخاصة، او تعريض حياة المسؤولين للخطر) فسيكون بيد الطبقة السياسية المبرر القانوني والاخلاقي الكافي لسحق المتظاهرين دون ان يستطيع احد – بما في ذلك المرجعية الدينية- ان يدافع عنهم، فمن يستطيع الدفاع عن مشاغبين يعتدون على الاملاك والارواح؟

4. والمصدر الرابع للخطر على الحراك هو النفـَس القصير. فالطبيعة البشرية تميل الى اليأس بعد فترة من المحاولات في اي عمل، وقد يراهن السياسيون على عنصر الزمن طمعاً في تعب المتظاهرين وقـِصَر نـَفـَسهم. وقد يصبر السياسيون على مضض ويضبطون اعصابهم ويتحملون الهتافات المهينة والاتهامات المذلة والمضايقات المؤلمة لهم املاً في انجلاء الغبرة وهدوء الاحوال بعودة المتظاهرين الى بيوتهم بسلام وكفى الله السياسيين شر القتال.

 

الحراك الشعبي اذن بين ضرورة تقتضيه، وبين اخطار تهدده.

لابد من المحافظة عليه من الاخطار. هذا يعني انه:

• لابد ان يستمر الحراك بنفس طويل وبدون يأس، لكي لا يتعب الناس ويعودوا الى بيوتهم.

• ولابد ان يحافظوا على سلمية الحراك فلا يجرهم عملاء السعودية وقطر الى اعمال عنف تحوّل الحراك السلمي الى فوضى تعطي السلطة المبرر لسحقهم وتتوقف المرجعية عن دعمهم

• وعليهم ايضاً ان يزيدوا في الضغط على الطبقة السياسية بصورة تصاعدية لكسب عنصر الزمن وتفويت الفرصة على مشاريع التدجين البرّاقة ووعود التغيير اللماعة.

 

ماذا ستفعل السلطة؟

سوف لن تفعل السلطة شيئا الا الوعود. سوف تتصرف بالطريقة التالية:

تدرس هذه الاصلاحات فترى ان اكثرها يحتاج الى تشريعات وقوانين جديدة، فتدخل في دوامة البرلمان، واذا خرجت من دوامة البرلمان ونقاشاته دخلت في متاهة الحكومة وبرامجها، ثم تواجه مشكلة التمويل وخواء الميزانية، وينتهي الامر هنا والكل اراد الاصلاح لكنه لم يتمكن منه لاسباب موضوعية!.

اما مكافحة الفساد فهو من مهام القضاء، وهو فاسد اساساً، واذا اراد ان يكون قضاءا صالحا فسوف تأخذ اجراءاته شهورا ان لم نقل سنوات.. وتكون النتيجة عودة المتظاهرين الى اعمالهم وتركه الشارع وانتهاء الحراك بدون ثمرة.

هذا ما ستفعله السلطة. نقول هذا لسبب واضح هو: ان الفاسدين يمسكون بمفاصل الدولة في السلطات الثلاث، وان قرارات الاصلاح يجب ان يتخذها الفاسدون انفسهم (لأن الدولة بيدهم)، ثم تمر القرارات من خلال نفس الفاسدين لتنفيذها. أي ان الفاسدين عليهم ان يقضوا على فسادهم بانفسهم استجابة لطلب المتظاهرين! وهو امر واضح البطلان

 

ماذا يجب ان يفعل الحراك؟

لكي ينجح الحراك عليه ان يكون اقوى من الفاسدين، فاذا شعر الفاسدون ان الحراك يملك قوة اكبر من قوتهم فإنهم سيضطرون للتنازل عن مصالحهم ومواقعهم اذا أحسّوا بخطر حقيقي على وجودهم، وهذا لن يكون الا اذا كان المتظاهرون اقوى من الدولة، فهل يمكن هذا؟ هل يمكن ان يكون المتظاهرون اقوى من الدولة مع استمرار محافظتهم على سلمية الحراك؟

الجواب : نعم، وعن طريق المحاكم الشعبية

 

ما هي المحاكم الشعبية؟

المحاكم الشعبية هي محاكم غير تابعة للدولة تؤسسها منظمات المجتمع المدني لاجراء محاكمات معنوية لمتهمين اجرموا بحق شعوب او مجموعات بشرية ولم تتمكن الشعوب او المجموعات البشرية من مقاضاتهم امام القضاء الحكومي.

تقتصر مهمة المحاكم الشعبية على الادانة واصدار الحكم دون التنفيذ، وهو حكم معنوي له قيمة اعلامية فقط لكنه يصلح للضغط على المدانين امام الراي العام و يسهّل ملاحقتهم عن طريق المحاكم الوطنية او الدولية، او لانصاف المظلومين معنويا. و لا توقع المحاكم الشعبية عقوبات مادية على المحكومين، او بالاصح لا تنفذ عقوبةً حقيقة مع انها قد تصدر حكما بالاعدام احيانا، لكنه حكم معنوي واعلامي يُسقط سمعة المدانين ويغلق عليهم ابواب الحياة الطبيعية فضلاً عن ابواب التصدي للشأن العام.

تكتسب المحاكم الشعبية مشروعيتها من الراي العام في الجرائم الكبرى بحق شرائح واسعة من المجتمع، ويكون جو الثورات والهياج الشعبي عاملاً مهماً في نجاحها، وبالخصوص:

1- اذا كانت القضية عادلة في نظر الراي العام

2- اذا كانت المحاكم الرسمية عاجزة عن انصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم

ان كلا الشرطين متوفران في العراق في موضوعة الفساد، فالفساد قضى على شعب بأكمله وأكل كل مؤسسات الدولة وحرم اغنى شعب في المنطقة من ابسط ما تتمتع به افقر شعوبها، فالشرط الاول متحقق.

اما الشرط الثاني فهو الاخر متحقق لان القضاء الفاسد في العراق عجز عن احقاق الحق في قضايا الفساد وتـَركَ الفاسدين – الا في حالات نادرة جدا- يسرحون ويمرحون دون ان يلاقوا جزاءهم العادل.

امام هذا القضاء لا يمكن ملاحقة الفاسدين او مقاضاتهم عن طريق سلطة القضاء، لكن المحاكم الشعبية تشكل البديل المناسب الذي تتجلى فيه قوة الجماهير الشعبية والتي يحق لها ان تشكل محاكم تطالب فيها بحقها من الفاسدين الذين سرقوا ثرواتها.

عن طريق المحاكم الشعبية يكتسب الحراك الشعبي قوة تفوق قوة الدولة بكثير فيُسقط السياسيين الذين تثبت ادانتهم فلا يجدون لهم مكانا بين المجتمع ولا في الدولة ويضطر القضاء الرسمي ان يجاري الحراك الشعبي في ملاحقتهم والا سقط القضاء ايضا من اعين الناس.

عن طريق المحاكم الشعبية لا يحتاج الحراك الى عنف، ولا يبقى يدور في حلقة مفرغة من تظاهرات تخلي لها السلطة الشوارع كل جمعة او كل يوم اذا ارادوا ولكن دون نتيجة.

 

آلية تشكيل المحاكم الشعبية

لكي تنجح المحاكم الشعبية في محاصرة الفاسدين ولكي تضغط على القضاء حتى يضطر لملاحقتهم ولا يستسهل تبرئتهم -كما كان يفعل سابقاً- يجب ان تراعى النقاط التالية:

1- تقوم الجماهير بتكليف محامين متطوعين – كلٌّ في مدينته- لكي يكونوا هيئة محكمة فيها قضاة ونيابة عامة .

2- تعقد المحكمة جلساتها في قاعات عامة كقاعات البلدية او ملاعب شعبية او قاعات الجامعات او ما شابه

3- تكون الجلسات علنية وتغطيها وسائل الاعلام المختلفة من فضائيات وصحف واذاعات (ولا تقتصر على الشرقية والبغدادية)، ويحق لكل راغب ان يحضر جلساتها، ويدعى لحضور جلساتها علماء ومفكرون واساتذة جامعات.

4- على اساس معلومات مهنية معروفة تقوم هيئة المحكمة باعداد ملفات الاتهام ضد اكبر مسؤول في المدينة او المحافظة وذلك على اساس التناقض بين المبالغ المصروفة على المشاريع من جهة وبين كلفتها الحقيقة في السوق المحلية او الدولية من جهة اخرى، وبين الانجاز الحقيقي للمشاريع من جهة ثالثة. وتكون الشكوى على المسؤول الاكبر لا بصفته الشخصية بل اضافةً لوظيفه.

5- يبلّغ المسؤول بالمحاكمة وبالتهمة ويطلب منه الحضور او توكيل محامي عنه. واذا لم يحضر ولم يوكل عنه محاميا يحاكـَم غيابيا (لكن خبر امتناعه عن الحضور ينتشر بواسطة الاعلام وبواسطة الحاضرين، وهذه اولى مراحل تسقطيه)

6- اذا حضر ودافع عن نفسه وادعى ان الهدر الواضح في الاموال يعود الى مسؤولين اقل منه في السلم الوظيفي، فان دفاعه هذا يتحول الى اتهام الى الاسماء التي اتهمها والتي سوف تستدعى الى المحكمة كمتهمين قبل ان تُبرّا ساحة المسؤول الاعلى....وهكذا يتم استدعاء المسؤولين واحدا بعد الاخر حتى تثبت التهمة على المسؤول الحقيقي فردا متفردا، او جماعة مشتركين.

7- يقوم الشرفاء من الموظفين والعديد من الخبراء الفنيين – كل في اختصاصه- بالحضور كشهود او بتزويد المحكمة بالمعلومات والاستشارات الفنية حول طبيعة المشروع وكلفته لتساعد في اثبات او نفي التهم

8- بانتشار المحاكم وادانة الفاسدين يتشكل راي عام ضاغط اقل ما يحققه هو اسقاط الفاسدين وسحبهم من التداول السياسي، واجبار المحاكم الرسمية على ملاحقتهم، وخلق حالة من الرعب تجعل الفاسد يفكر مرتين قبل ان يسرق اموال الشعب، لان المحاكم الشعبية لا يمكن شراؤها بسهولة.

ان المحاكم الشعبية عمل حضاري سلمي واعلامي مؤثر، ولا يشكل خروجا على القانون لانه لا يوقع عقوبة مادية على احد، ولا يجبر احداً على الحضور، ولا يعتبر تشهيرا في هذا الجو من الحراك الشعبي المائج والذي يعتبر فيه الراي العام صاحب الحق في مساءلة المسؤولين عن مصير اموال الشعب.

ولا يعني تشكيل المحاكم الشعبية التوقف عن التظاهر السلمي، بل بالعكس ستوفر المحاكم الشعبية للمتظاهرين مادة للهتافات والشعارات وتوجيه الاتهامات لأشخاص يستطيعون الدفاع عن انفسهم امام قضاة في القاعات لا امام شباب يتظاهرون في الشارع.

هذه افكار قابلة للنقاش والتصحيح والتغيير صادرة من انسان يخطئ ويصيب، اضعها تحت تصرف الحراك الشعبي سائلاً المولى ان لا يحشرنا مع الطبقة السياسية يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم.

 

فخري مشكور

 

في المثقف اليوم