تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

هل الاضطهاد الديني ظاهرة عالمية؟

في بعض دول العالم، يبدو ان اضطهاد المسيحيين في تصاعد مستمر،متأثراً كما اشار تقرير الغاردين مؤخرا"بالتطرف الاسلامي والحكومات القمعية". هذا التقرير (وتقارير اخرى غيره) يؤكد ان المتشددين يضطهدون المسيحيين وغير المسيحيين ايضا، لكنه يترك انطباعا بان هذه النزعة هي حديثة العهد وتتعلق بشكل رئيسي بالمسيحيين الذين يعيشون في العالم الاسلامي. غير ان هذا الانطباع ليس صحيحا، فالتمييز الديني هو نزعة عامة.

ان التهديد الخطير للحريات الدينية هو بلا شك يحدث في العديد من الدول ذات الغالبية المسلمة. الاقليات الدينية الاكثر عرضة للاضطهاد هي الاقلية القبطية المسيحية في مصر، والبهائية في ايران، والاحمدية في باكستان، والمسيحيين والهندوس والبوذيين والمسلمين الشيعة في المملكة العربية السعودية. في هذه الاماكن، كان الاضطهاد الديني حقيقة قائمة و لسنوات عدة. غير ان هذا الاضطهاد لا يقتصر على الحكومات الاوتوقراطية ذات الغالبية المسلمة.

(مشروع الدين والدولة) Religion and State Project يتقصى الحريات الدينية في العالم، حيث قام بوضع عدد من النماذج الواضحة للاضطهاد الديني لكل الاديان رجوعا لعام 1990 . من بين ثلاثين نوع من القيود التي رصدها المشروع، كان هناك 28 قيداً هي الاكثر شيوعا الآن قياسا بعام 1990. التحول في العقيدة،مثلا، حاليا يواجه قيوداً في 99 دولة في العالم مقارنة بـ 79 دولة عام 1990. بينما هناك 82 دولة من بينها النمسا وروسيا البيضاء والصين وروسيا تفرض على الاقليات الدينية ان تسجل لدى الدولة، مقارنة بـ 60 دولة عام 1990. كذلك، هناك 73 دولة تقيّد بناء اماكن العبادة، و 65 دولة تقيّد آداء الطقوس الدينية. في عام 1990، بلغت تلك الارقام 53 و 36 دولة على التوالي.

اما الديمقراطيات الغربية رغم انها تتبنى الديمقراطية، لكنها غير مستثناة من الاضطهاد الديني ايضا. (قانون إمام الجامع) في الدانيمارك عام 2004، يحدد عدد فيز الاقامات الدينية – نوع من الفيزا يحتاجها رجال الدين والعاملين الدينيين – حيث يتم اصدارها وفقا لحجم الجالية التي يخدمها ذلك الشخص. انها تتطلب ايضا من المتقدم للفيزا ان يكون مرتبطا بدين معترف به، وان يتحلى بخلفية ملائمة للعمل الديني ويستطيع تمويل نفسه ذاتيا. واذا كان هناك سببا للاعتقاد بان الاجنبي سيشكل تهديدا للامن العام والنظام العام او للصحة او اللياقة او لحقوق وواجبات الناس الاخرين، فان طلب الفيزا سيُرفض. هذه القيود تحول دون الحصول على الارشاد الروحي والخدمات الدينية الاخرى لدى العديد من الجاليات المعتمدة على رجال دين اجانب .

في استفتاء اجري عام 2009، وافق المواطنون السويسريون على منع بناء مآذن المساجد. هذا القانون هو فقط واحد من قيود كثيرة فُرضت على اماكن عبادة الاقليات الدينية في الغرب. في معظم الحالات، لم تكن القيود رسمية ولا هي ذات طابع وطني. بل هي محلية، حيث ترفض الحكومات المحلية منح تراخيص للاقليات او انها تستخدم عوائق بيروقراطية اخرى لمنع افتتاح اماكن جديدة للعبادة . في ايطاليا،مثلا، الاسلام غير معترف به كدين رسمي،الامر الذي يجعل بناء مسجد جديد مسألة صعبة للغاية. ايطاليا ليست وحدها الدولة التي تقرر اهلية الاديان ، في الحقيقة، في معظم الدول الغربية، الاديان يجب ان تُسجل لدى الدولة بطريقة معينة. التسجيل عادة يكون اوتوماتيكيا، مع انه ليس دائما بنفس السهولة ، في النمسا، لم يُسمح لإتحاد الكنائس الاّ مؤخرا بالاندماج القانوني بعد ان اُلغيت مكانته القانونية عام 1974. قبل تسجيله الاخير، لم يكن يُسمح له بالحصول على ملكية او افتتاح حساب مصرفي.

 

الصورة الاكبر للاضطهاد

ان الجماعات المسيحية ليست مستثناة من الاضطهاد والتهديد الذي تواجهه مختلف الجماعات الاثنية . بناءاً على المعايير التي اعتمدها (مشروع الدين والدولة)، الذي قيّم 30 نوعا من التمييز ، دُمجت لاحقا ضمن صنف موحد،جاء فيها المسيحيون باعتبارهم الفئة التي تعاني أعلى مستوى من الاضطهاد.

ان المشكلة لا تعود فقط الى المتشددين الاسلاميين والحكومات الاستبدادية في الدول ذات الغالبية المسلمة. رغم ان حكومات الشرق الاوسط والمتشددين هم جزء من المشكلة، لكنهم يميلون للتعامل مع الاقليات الاخرى بشكل اكثر سوءاً. مثلا، طائفة البهائية تُعتبر جماعة منكرة لعقيدة الاسلام ، ولا يُعترف بها كدين شرعي في الاردن وتونس ، وهو ما يقيد مقدرة افرادها على تأسيس اماكن للعبادة وممارسة طقوسهم الدينية علنا. كذلك، رغم ان المتشددين الاسلاميين يستهدفون صراحةً غير المسلمين، لكنهم ايضا يستهدفون المسلمين الذين يرفضون الامتثال لأحكامهم وتفسيراتهم للاسلام.

في الحقيقة، معظم الاضطهاد الذي يواجهه المسيحيون يحدث في دول ذات غالبية مسيحية. ومن الملاحظ خصيصا، ان اشد القيود تُطبّق على الاقليات المسيحية في الدول ذات الغالبية الارثودكسية في دول الاتحاد السوفيتي السابق.

قانون الاديان لعام 1997 في روسيا،مثلا، يعترف بالبوذية، المسيحية، الاسلام، واليهودية، باعتبارها تشكل جزءاً من التراث التاريخي ويعترف "بالمساهمات الخاصة" التي توفرها الارثودكسية لروسيا. لكن العديد من الروس يرون ان تلك الاديان بما فيها الطوائف المسيحية هي ليست اصلية في البلاد، حيث انها تسعى لتغيير الوضع الثقافي والديني القائم،ولذا هي الاكثر تعرضا للاضطهاد.

والامور اكثر سوءاً بالنسبة للاقليات المسيحية عام 2010، حيث نشرت روسيا قائمة "بالطوائف السلطوية" وطلبت من المؤسسات المحلية منعها من استخدام المسارح ومراكز الترفيه وعدم تزويدها بالخدمات والتسهيلات لأي مناسبة. القائمة تضمنت العلماء المسيحين، المسيحيين الانجيليين، شهود يهوه، المورمان، وحركة البروتستانتينيين الاصوليين. هذه الجماعات تتعرض للقمع باستمرار على خلفية انها لم تُرخص او تُسجّل كما ينبغي – انها تتلقى باستمرار الغرامات ، اوامر بغلق الكنائس، والحرمان من اداء الخدمات الدينية. الاعضاء عادة يتم اعتقالهم، الى جانب المشاركين الاخرين في الفعاليات المنظمة. وعندما تتقدم تلك الجماعات بطلب الترخيص او التسجيل، فهي عادة تُواجه بالرفض.

وكذلك بالنسبة لقانون رومانيا عام 2007 في (حرية الدين والمكانة العامة للمذاهب) يعترف رسميا بـ 18 طائفة. جماعات مثل المورمون، التي ليست ضمن هذه الـ 18 ، تواجه صعوبة في بناء او استأجار اماكن للاجتماع وهي عادة تُضطهد عند المشاركة في مهام تبشيرية. كتاب الديانة الارثودكسية، الذي نُشر بالتنسيق مع الحكومة، يصف المورمون وغيرهم من الديانات غير الاصلية باعتبارها تهديدا ويدّعي بانها تستخدم غسيل الدماغ والرشاوي والابتزاز كجزء من جهودها في تغير المعتقدات.

بيلاروسيا تقيّد ايضا المنظمات الدينية غير الاصلية عبر قوانين شاقة للتسجيل. لكنها عادة تضطهد حتى الجماعات المسجلة. الشرطة باستمرار تهاجم الكاثوليك والانجيليين والبروتستانت وشهود يهوه. المشاركون بما فيهم الاطفال يتعرضون للاستجواب العنيف ويُعاقبون بتهمة تقديم الخدمات الدينية غير المرخصة. الحكومات المحلية تنكر دائما اعطاء التراخيص حتى للمنظمات المسيحية المسجلة وعادة تلغي او ترفض تمديد العقود للمباني التي تمارس بها تلك الجماعات خدماتها.

في امريكا، نجد المادة 162 من قانون الجرائم تمنع المنظمات الدينية من الحاق الضرر بصحة الافراد، او التأثير على حقوق الاخرين او تشجيع الامتناع عن اداء الواجبات المدنية. قانون حرية الضمير والمنظمات الدينية لعام 1991 يكرس القيود على الحرية الدينية لصالح الامن العام والصحة والاخلاق وحماية حرية وحقوق الاخرين. وبالتالي، فان الحكومة لم تقرر فقط ان الطوائف المسيحية الغير اصلية هي "تدميرية"، وانما خلقت لجنة متعددة الوكالات في عام 2011 لمراقبة تلك الطوائف والتصدي لها. ومنذ ذلك الوقت، تواترت عدة تقارير تشير الى تهديد مسؤولي خدمات الامن القومي لرجال الدين واعضاء البابست والمنظمات الانجليكانية.

وفي اماكن اخرى من العالم، في دول ليس فيها غالبية مسلمة او مسيحية – خاصة الانظمة السلطوية – لا يزال القمع مستمرا ضد الاقليات الدينية. الصين تدعم "المؤسسات الوطنية" الرسمية للبوذيين، والكاثوليك والمسلمين والبروتستانت والطاويين وتقمع بقسوة اي تعبير ديني خارج اشراف هذه المؤسسات. وحتى وقت متأخر، كان القمع مرتكزاً على حركات غير مرتبطة بالمؤسسات الوطنية مثل حركة بيت الكنيسة، لكنه حاليا امتد ليشمل حتى التجمعات التي يُنظر اليها باعتبارها كبيرة الحجم. رغم ان هناك القليل من المعلومات الدقيقة عن شمال كوريا- البلد الذي دينه الرئيسي يمكن تصنيفه اما لا دين او كشكل متميز من عبادة الزعيم - يُحتمل ان يكون لديها على الاقل عشرات الالاف من سجناء الضمير المسيحيين.

وعلى الرغم من ان العديد من الحكومات في الدول ذات الاغلبية المسيحية لديها سجلات من الحرية الدينية تتفوق بها على معظم الحكومات القمعية في الدول ذات الغالبية المسلمة، لكن العنف الذي يمارسه المتشددون الاسلاميون مثل بوكو حرام وداعش والقاعدة ضد غير المسلمين هو في تصاعد واكثر حدة مقارنا بما يمارسه المسيحيون ضد الجماعات الدينية.

لكن من الخطأ توجيه اللوم فقط للمتشددين الاسلاميين في اضطهاد الحريات الدينية. هم بالتأكيد الاكثر تجسيداً في ممارسة العنف، لكن الخطر الاكبر هو من الحكومات في العالم ومن التقاليد الدينية. فقط 9 حكومات من بين 177 حكومة جرى استقصائها من جانب مشروع الدين والدولة أظهرت حرية دينية كاملة منذ عام 1990 وهي : بينين و بوركانا فاسو و الكاميرون و غينيا بيساو و ناميبيا ونيوزيلاند و غانا الجديدة وجزر سليمان و سيرانيم. هناك القليل من الحكومات لديها ايادي نظيفة لكن الحماية متوفرة فيها لمختلف الجماعات الدينية. من بين الدول ذات الغالبية المسيحية، وُجد ان الدول الاكثر تسامحا هي ضمن العالم النامي، خاصة دول الصحراء الافريقية . وتُعتبر دول امريكا اللاتينية هي الاكثر تسامحا قياسا بالديمقراطيات الغربية. ومن بين الدول الافريقية ذات الغالبية المسلمة والتي معظمها في افريقيا الغربية – بوركانا فاسو وغامبيا و النيجر و السنيغال و سيراليون – توفر اماكن آمنة للعبادة، كونها لا تفرض قيودا على الجماعات الدينية الصغيرة.

ومع ان كل دولة هي ذات خصوصية متميزة، لكن احد الاسباب التي تجعل الحكومات في العالم النامي اكثر تسامحا مع الجماعات الدينية هو قلة ما تمتلكه من موارد . كما يشير انتوني غل البروفيسور في جامعة واشنطن ، الى ان القمع الديني يتطلب مواردا. الدول الاقل تطورا هي ببساطة اقل قدرة على توفير الوسائل الحديثة للقمع. هذا التوضيح ليس شاملا حيث نجد هناك دول غير متسامحة مثل افغانستان وجزر القمر واريتيريا ولاوس و مينيمار و باكستان و ازبكستان – هي ايضا اقل ثراءاً. الديمقراطية ربما تلعب دورا، طالما معظم هذه الدول النامية غير المتسامحة هي اوتوقراطية، مع ان هذا لا ينطبق على جزر القمر و باكستان اللذان فيهما ديمقراطية ناقصة ولكن لا يمكن تصنيفهما كدولتين اوتوقراطيتين. ان وجود هذا العدد من الدول المتعدة الالوان والتي لا تزال تمارس بعض اشكال القمع الديني يثبت ان المشكلة تتجاوز الطبقة واللون والعقيدة.

 

حاتم حميد محسن

.............................

الشؤون الخارجية (Foreign Affairs)،عدد اغسطس/آب 31- 2015

في المثقف اليوم