قضايا

الخطيئتان المقيدتان للموازنة العامة

على الرغم من إن السياسة المالية تعكس وجهة نظر الفاعلين اللذين أسسوا السلطة التنفيذية وفي حالة العراق (الناخبون)، لكن قرارات وأجراءات السلطة التنفيذية بعد توليها الأدارة الاقتصادية، تنعكس في السياسة المالية وذراعها الموازنة العامة، ومن ثم حياة الناس (الناخبين) ومستقبلهم في اقتصاد يقود مرافقه كافة القطاع العام كما هو الحال في العراق.

ويُلاحظ إن معظم الكتابات انصبت في نقد بناء وإجراءات ونتائج الموازنة العامة، عدها ممثلة للإتجاهات الأقتصادية للسلطة التنفيذية دون أن يرافقها تسليط ضوء واضح على الاخطاء الاقتصادية التي جعلت إدارة وتنفيذ السياسة المالية مقيده عبر الموازنة العامة.

لذلك سنحاول تحديد الاخطاء الاقتصادية الأعمق التي تحولت الى قيود في موازنة 2015 والأن 2016 بحيث يتعذر تجاوزها أو استأصالها .

ترتكب جميع الأدارات الاقتصادية أخطاء ناجمة عن عنصر عدم التأكد والتغييرات السريعة، لاسيما في الدول الريعية التي تحكم السوق النفطية ولاعبيها في عوائد هذه الدول، ولكن نتائج الاخطاء قابلة للتعديل وتقليل الوطأة وحتى القبول قصير الامد، لكن الخطأ الاقتصادي يتحول الى خطيئة عندما يمس عمق قدرات الاقتصاد الوطني ويقيد حاضره ومستقبله .

من هذا المنطلق ارتكبت السلطة التنفيذية في العراق وخلال عقد مضى اخطاء اقتصادية عديدة أرتقى خطئان منها(باجتهاد متواضع) الى مصاف الخطيئة،التي قيدت السياسات الاقتصادية المختلفة وخاصة السياسة المالية، وتمخض عنهما قيد يصعب الفكاك منه لبناة ومشرعوا الموازنة العامة .

 

الخطيئة الأولى: التوسع في قوة العمل العامة

مارست الحكومات المتعاقبة خلال السنوات السابقة سياسة التوظيف الواسع غير المرتبط بالحاجة الفعلية أو بالامكانات الاقتصادية القائمة أو المحتملة، في اقتصاد يعاني اختلالات بنيوية عميقة بسبب أحادية مصدر القيمة المضافة .

وتقدر الاحصاءات (غير دقيقة) إن عدد العاملين في الحكومة تجاوز (5) مليون، فضلاً عن وصول عدد المتقاعدين الى (2) مليون تقريبا.

تم ذلك بدعاوى سياسية واجتماعية لاتجد تبريراً اقتصاديا مقنعاً إذ أن رغبة البعض في الحصول على اصوات انتخابية، أو حتى التعامل مع الاقتصاد عدّه مؤسسة رعاية اجتماعية، فضلاً عن الرغبة في توسع دور الحكومة وربط هذه الاعداد (وعوائلها) بالسلطة من خلال الأجر الحكومي.

ولم تتوقف أثار الخطيئة بمجرد التوسع في التشغيل وحسب بل رافقها الآتي:-

• إن التوظيف الجديد قطعاً من الشباب وبالتالي سيستمرون بتقاضي رواتبهم لمدة قادمة طويلة.

• أضيفت سنوات خدمة لشرائح واسعة، مما زاد من حجم التخصيصات في الموازنة .

• أنيط بالحكومة توظيف واسع لصالح مؤسسات دينية وأجتماعية وسياسية لاتدخل وظائفها ضمن الأداء الحكومي .

• اتخاذ تشريعات وقرارات خاصة وعامة بزيادات في الرواتب والمخصصات دون ارتباطها الوثيق بالأمكانات.

• تحميل الموازنة العامة جزء من عبىء رواتب المتقاعدين الذين توسع عددهم بشكل ملفت أيضاً، في وقت يُفترض أن تسد الاستقطاعات هذه الرواتب.

وبتراكم الاضافات في الرواتب والمخصصات بلغ حجم الرواتب والمخصصات أكثر من (40) مليار دولار تمثل حالة القسط الثابت تقريباً في الشق التشغيلي من الموازنة العامة .

مما يعني إن الموازنة التشغيلية في جانبها الانفاقي أصبحت مقيدة (بقسط الرواتب الثابت علما انه يتزايد سنوياً) وحددت بذلك المرونة الانفاقية الحالية والمستقبلية، وحملّت السياسة المالية أعباء لا فكاك منها، لاسيما وأن كل الدراسات تشير إلى تدني انتاجية العاملين في القطاع العام.

إذن خطيئة التشغيل أنعكست في الموازنة بشقها الانفاقي ليس في موازنتي 2015، 2016 بل ولآجل طويل قادم، مع الاشارة الى أن سياسة التشغيل المنفلت ولدت تأثيراً أجتماعياً وسياسياً، يلاحظه المتتبع الاقتصادي من خلال مطالبات التوظيف العام وتحويل العقود الوقتية الى دائمية باحتجاجات مستمرة.

 

الخطيئة الثانية: عقود الخدمة النفطية

تتعلق هذه الخطيئة بالجانب الايرادي للموازنة العامة وبأهم مورد وهو العوائد النفطية .

إذ إن جولات التراخيص المفترضة (الاربعة) التي بدأ طرحها 2008 ووقعت بواكيرها 2009 تمخض عنها وليداً تعاقدياً مشوهاً (عقود الخدمة) لايطابق في تسميته (الخدمة) ولاتقارن تفاصيله السلبية مع العقود السابقة وبنفس التسمية أو غيرها، إذ انها وضعت في مدتها (25) سنة ومددت (30) سنة،أو في التعامل مع التكاليف أو في افتراضات انتاج الحقول الأساسي، وصولاً إلى تعرفة البرميل(2) دولار للشركات الأجنبية، بحيث أننا حصدنا نتائجها واضحة مع أول انخفاض في سعر البرميل النفطي.

إن ما ترتب على هذه العقود ارتفاع واضح في التكاليف لأسباب لامجال لذكرها هنا، ودفع الايرادات الممولة للشق الايرادي من الموازنة العامة للانخفاض وقيده بشدة.

لقد نُشرت بحوث علمية ومقالات ولقاءات عن مخاطر هذه العقود من قبل متخصصين هندسيين واقتصاديين، ولكن المشكلة تمثلت في تأييد بعض المتخصصين للأسف لهذه العقود، الذين أهملوا تفاصيل هذه العقود والجولات وتوجهوا الى صب انتقاداتهم الى عقود المقاسمة في كوردستان (وهي سيئة أيضاً) (والتي تترجم للأسف مشاركة لمصطلح sharing بينما واقعها مقاسمة لنفط الربح profit oil)، وهاهي وزارة النفط تطالب بترك نموذج عقود الخدمة باتجاه عقود المقاسمة.

ومازاد الأمر سوءً هو إن استراتيجية الطاقة المتكاملة (2010) قدمت تصورات لاواقعية لنتائج الجولات ووليدها (عقود الخدمة)، بحيث نتج عن ذلك انفصال شبه تام بين الانتاج والتصدير وهو الطامة الكبرى والحقيقة المؤلمة .

أن اقتصاداً مارس قطاعه النفطي الوطني الاستثمار المباشر لما يقارب أربعة عقود تخللتها حروب كان قادراً على العودة الى مستوى انتاج 3500 مليون برميل يومياً كما حدث عام 1989، بينما جولات التراخيص بكل الامكانات والتكاليف الباهضة للبرميل (تجاوز (20) دولار للبرميل في بعض الحقول) لم تصل الى مستوى 3،5 م ب/ي ولا هي قادرة على تخفيض التكلفة الى مستوى أقل من (10) دولار كما في السابق .

إن التفصيل بنتائج الخطيئة الايرادية موجوداً في الدراسات العلمية، بل إن مسؤولي القطاع النفطي شخصوا ذلك.

ولايحق لأي متخصص القول إن هذه أنتقادات تولدت بسبب انخفاض سعر البرميل، لأن من تبنى عقوداً نفطية، عليه أن يدرك إن أسعار النفط تتقلب كما هو تاريخياً ويستمر ذلك بالمستقبل.

بل إن من أولويات التمويل إن الرافعة المالية Leverage تحقق ايراداً موجباً في السوق التصاعديBullish كما في السوق النفطية قبل الربع الاخير من 2014، وتنعكس سلبية بشدة في السوق التنازلي Bearishكما في 2015 ولغاية الان، لاسيما وإن عائد الشركات Remuneration ثابتاً لايرتبط بتغيرات الأسعار (تكلفة ثابتة) .

من كل ذلك تعد خطيئتي التوظيف الواسع وعقود الخدمة بمثابة القيود على جانبي الانفاق(زيادةً) والايرادات (انخفاضاً) وهذان القيدان القيا بأثرهما على قدرة صانعوا الموازنة ومشرعوها 2015 و 2016،فضلا عن اثارهما الاجتماعية والسياسية وسيستمر ذلك الى تاريخ مقبل طويل، والمشكلة أنه يصعب الفكاك منهما.

 

ا. د. محمود محمد داغر

أستاذ علم الاقتصاد في جامعة بغداد

في المثقف اليوم