قضايا

الأثر العمراني على السلوك الاجتماعي (2): فخامة البناء وسايكلوجيا التقديس

alaa falihaburgeefتبلورت فكرة التقديس مع ضهور الانسان العاقل في عصور ماقبل بزوغ الحضارات الاولى، لينشأ تقديس الضواهر الطبيعية أستجابة لحاجات بشرية ناتجة عن محدودية المعارف والخبرات غير القادرة على تفسيرها علمياً، فضهرت عبادة القمر والشمس والنجوم والمياه والنار وغيرها من تجليات الطبيعة كنوع من الخضوع اللاأرادي لعجز الانسان والاستسلام غير الواعي لمخاوفه.

ساهم تطور أليات التعامل الاقتصادي للحضارات القديمة من المقايضة الى البيع والشراء بتوسيط النقود في تحديد التباين الطبقي للمجتمع على أساس التخصص في العمل، فتكونت كأحدى مخرجات هذا التمايز طبقة رجال الدين (الكهنة) التي أخترعت فكرة الاَلهة ذات التخصص المنفرد في تماهي واضح مع طبقية المجتمع أنتجت اَلهة للحرب وأخرى للخصب وثالثة للنماء ...الخ وتقاسم الكهنة ميزات القدسية مع هذه الاَلهة التي أدعوا تمثيلها على الأرض.

أستمرت فكرة تقديس خدام الالهة بالتغول لأسباب متعددة أهما حاجة الانسان للواسطة بينه وبين قوى غيبية يعتقد أنها تتحكم في مصيره، هذه الحاجة التي عرف حراس المعبد كيفية أستغلالها للحصول على نفوذ وضعهم في صدارة مجتمعاتهم على مر التاريخ، عبر سلسلة من الاساطير حول قدرتهم على التواصل مع الالهة ونقل مطالب الناس وحاجاتهم اليها وفي المقابل نقل الاوامر والتوجيهات الالهية لهم ولتعزيز هذه التصورات سلكوا أتجاهين من الممارسات الاول مادي يتمثل في بناء المعابد الفخمة للدلالة على تفوق هذا الاله على نضرائه قكان التنافس في هذا المجال حافزاً لتطور فن العمارة وتقنيات البناء من جهة وسهلت أخضاع الناس لأهواء كهنة تلك المعابد وللقضاء على أي محاولة نقدية لأفعالهم نسبوا لأنفسهم أعمال خارقة تعرف في التراث اللاهوتي ب (المعجزات) وهو المعادل البارسايكولوجي للعوامل الفيزيائية (للبناء) فكانت المعادلة المربحة لعملية التقديس التي خضع لها العقل البشري تتكون من طرف مادي (البناء) وطرف معنوي (الخوارق) وتسللت هذه الميثولوجيا الى المسيحية التي يتمحور نظامها حول القداسة بشكل واسع ومازالت طقوس التقديس تمارس في الفاتكان حتى الاَن واَخر من تم تقديسه العام الماضي هي الراهبة ألام تيريزا بعد التأكد من أجتراحها لأربعة معجزات خلال حياتها حسب قرار التقديس الصادر من مجمع الكرادلة .

حارب الاسلام منذ بداية ضهوره فكرة التقديس بشكل مطلق وحصرها بالخالق مركزاً على فكرة التوحيد بشكل اساسي للتخلص من أرث الشراكة الذي وصل الى مستويات ضحلة - لاتليق بذكاء الانسان - لدى عرب الجاهلية بعبادتهم مجموعة من التماثيل المنحوتة من الصخر أو المصنوعة من الطين والتمر تقرباً لله، فالقراَن الكريم نفى بشكل قاطع قدسية النبي محمد بقوله ( وما محمد الا بشر مثلكم افأن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم) وفي نفي القداسة عن نبي الأمة لايمكن أن تكون لأي من المسلمين قدسية وجميعهم دون مستوى النبوة، مع ملاحظة وجود بعض المعجزات التي يمكن فهمها في أطار توكيد الرسالة السماوية للأنبياء،وقد حرص الخلفاء الراشدون على التمسك بصرامة بهذا المنهج الذي اقره الله ونبيه وهو القائل (لاكهانة في الاسلام) لقطع الطريق على أي أحتمال لتقديس البشر.

بدأت ضاهرة القداسة تنتقل الى المجتمع الاسلامي مع أتساع رقعة الدولة وأحتكاكها مع المدنيات القائمة، وأهمها الفارسية التي حمل أبنائها معهم الكثير من مخلفات دياناتهم القديمة وهم يدخلون الاسلام بحد السيف، فكانت أول صور تقديس البشر في الاسلام على يد المقاتلين الفرس اللذين أنضموا لجيش المختار الثقفي في حربه ضد الدولة الاموية في الشام واَلزبيرية في مكة نهاية القرن الاول للهجرة تحت شعار الثأر من قتلة الحسين، فقد نسج هؤلاء المقاتلون الكثير من القصص حول الكرامات التي يتمتع بها زعيمهم، وكان المختار سعيداً بتحويله الى أسطورة فهذه (البروبغاندا) سهلت له الهدف الحقيقي للتمرد وهو السيطرة على الكوفة بأقل الخسائر، بعد أن تكفلت الدعايات التي أبدع في صنعها الفرس بالقاء الرعب في قلوب أعدائه من جهة وضمان ولاء أتباعه من جهة اخرى، ولم تكن حملة تقديس المختار عفوية بل مقصودة فذكاء الفرس الذي يدل عليه أختراعهم للعبة الشطرنج وصبرهم اللذي جعل منهم أمهر من يصنع السجاد في العالم يدلل على أنهم أستخدموا دخولهم للأسلام وسيلة لأسترجاع أمبراطوريتهم أو جزء منها على الاقل وفي أضعف الاحوال تحطيم الدين الذي كان سبباً في زوال سلطانهم بطريقة الهدم من الداخل كما يرى الكاتب الايراني الدكتور علي شريعتي، ولكي لاندخل في مطب التعميم الذي لايتوافق ومنهج البحث العلمي فنحن نتحدث عن نخبة الشعب الفارسي في هذه الحالة، وليس عن بسطاء الناس اللذين خضعوا لعملية تضليل ضخمة حالهم حال الشيعة العرب.

لم ينتهي دور الفرس في تعقيد المفاهيم الاسلامية البسيطة والواضحة عبر سلسلة من الخرافات بالقضاء على ثورة المختار ومقتل قائد جيشه أبو عمرة الفارسي، لكنه تحول -ومازال- من أسلوب الدعاية المباشرة المرافقة للصراع المسلح الى أسلوب القوة الناعمة معتمدين على مخزون ثقافي يمتد لألاف السنين وخبرات حياتية أجبرت الفاتحين العرب بالاعتماد عليهم في كثير من الاعمال المكتبية أو الحرفية التي جعلتهم على تماس مباشر مع معظم افراد المجتمع ،ألا أن ذروة التحول الجذري من مبدأ التوحيد وأنتفاء الحاجة الى أي واسطة بين المسلم وخالقه تم على أيدي الصفويين عندما أعلنوا في تحول دراماتيكي أعتناقهم المذهب الشيعي لأسباب سياسية تتعلق بصراعهم الدامي مع الدولة العثمانية، فأصبح تقديس الاشخاص ونسج الاساطير والخرافات حولهم أساس عقيدة الدولة الصفوية مسخرة كل طاقاتها لهذا المشروع،   كتأسيس طقوس اللطم على الصدور والضرب على الضهور بالسلاسل الحديدية أيام عاشوراء أستذكاراً لفاجعة كربلاء التي أستغلها الصفيون بدهاء للتلاعب بعواطف المسلمين، وتجنيد كتاب الدولة لتأليف الكتب التي تضفي قداسة غير مبررة لأهل البيت وصلت لدرجة أن المجلسي - صاحب بحار الانوار وهو من أهم مصادر الشيعة - تفنن في أختراع مئات الروايات التي تنسب معجزات خيالية لأهل بيت النبي من قبيل قدرة الامام الحسين على أحياء الموتى أو أمتثال الشمس لأمر الامام علي بالعودة من المغرب الى المشرق لأن وقت صلاة الضهر قد فاته ؟!! والكثير من القصص التي يتداولها عموم الشيعة دون التدقيق في مصدرها والهدف منها .

مازال المسلمون يعانون من اَثار النهج الصفوي الذي حول التقديس من معتقد ديني خاطئ يمكن تلافيه بالتصحيح الفكري والمعالجة العقلانية الى أطار سياسي تتمحور حوله كل مصالح الدولة و كل من يحاول أنتقاد هذه الممارسات حتى في أطار الجدل الفقهي يواجه عقوبات شديدة تصل في الغالب الى الاعدام، وأذا كان البعض يبرر تقديس (عصمة) الأئمة الاثني عشر بعمليات ربط قسري وتفسير باطني بين وقائع تاريخية واَيات قراَنية وأحاديث نبوية فكيف يمكن تبرير تقديس أشخاص كقائد الثورة الايرانية الخميني وهو رجل دين سياسي معاصر قاد ثورة بمساعدة أجهزة أستخبارات غربية للأطاحة بالشاه؟ ويكفي ذكر الألقاب الرسمية له لمعرفة مدى أنخراط الفرس في حمى التقديس البشري فهو (اَية الله روح الله الامام الخميني رضوان الله عليه)!!

لم يكن أستخدام فن العمارة والبناء لأغراض الأيحاء النفسي أمراً جديداً في الاسلام ولعل أول من أنتبه للخصائص السياسية للعمران هو معاوية بن أبي سفيان عندما كان والياً على الشام فتنقل المصادر التاريخية أن الخليفة عمر بن الخطاب عاتبه على أقامة القصور وتزيينها فرد عليه أن من شأن هذه الاجراءات حفظ هيبة الدولة أمام أعدائها لمنعهم من التطاول على أرض المسلمين، وأذا كان معاوية قد أستثمر الجانب السياسي لعملية الردع النفسي وهو أمر مشروع في أعراف العلاقات بين الامم المتنافسة فأن من غير المشروع أستخدام هذا الاسلوب لأغراض دينية كما فعل الشاه عباس الصفوي عندما أمر ببناء مراقد (بناء ضخم بمساحة الاف الامتار المربعة تحيط بقبور الاولياء) الأئمة من عترة النبي ليس حباً بهم أو أحتراماً لنسبهم بل لترسيخ مذهب التشيع الصفوي بدليل عدم أقتصار هذه المراقد على الأئمة الاثني عشر وأولادهم وأحفادهم بل تجاوزه لعلماء دين ومشايخ تنسب لهم أعمال خارقة (كرامات) ليصل الامر حالياً الى زعماء الاسلام السياسي وتكفي زيارة مرقد الخميني لرؤية صرح عظيم يتفوق في فخامة بناءه على كثير من مراقد أهل البيت ونقل أتباع التشيع الصفوي في العراق منهج توضيف الدلالات العمرانية لاغراض (ديسياسية) كما يتجسد بوضوح في مثوى السيد محمد باقر الحكيم زعيم المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق حيث أنشأ له أتباعه بتمويل أيراني مرقد فخم في مدينة النجف رغم أنه شخص مثير للجدل فيما يخص سلوكه البعيد عن صفات رجل الدين منها تعذيب وأهانة الاسرى العراقين خلال الحرب العراقية الايرانية، وهذان مثالان من بين العشرات وربما المئات من الامثلة المشابهة.

لابد من الاعتراف أن الصفيون أبدعوا في أستخدام العوامل النفسية في جذب الاتباع لمذهبهم مراهنين على سذاجة الناس وميلهم الفطري لتوقير النبي وأهل بيته - فمن حيث المبدأ فأن كل مسلم شيعي بالضرورة حسب هذا الفهم المتعلق بالمحبة للنبي وذريته- فبالاضافة الى حشد الناس بأعداد كبيرة لممارسة طقوس الحزن بطريقة عاطفية تجبر الفرد على الانخراط في سلوك جمعي غير واعي منذ الطفولة ليصبح جزءاً من التكوين المعنوي لشخصيته يصعب الفكاك من سطوته، أستخدموا خبرتهم الواسعة في فن العمارة لتركيز هذه المفاهيم ببناء المراقد بطريقة تخطف الابصار عندما مزجوا بين سعة حجم البناء ودقة تفاصيله وتسخير كل فنون الزخرفة الاسلامية لتزيينها، والمزج بين الذهب والفضة والزجاج والمرايا بشكل محكم لامجال للتخلص من رهبة جمعها معاً وهي تسحب من يشاهدها بطريقة العرض البصري نحو الايمان المطلق بالفهم الصفوي للأسلام في ضل غياب شبه تام للعقل، لايقتصر البذخ في بناء المراقد على الوضيفة الجمالية بل أنه مصمم ليعطي أحساساً بالتمكن والقدرة المادية لهذا الضريح حتى قبل أن يدخله الزائرفأنعكاس أشعة الشمس نهاراً والاضاءة متعددة المهام مساءاً على القباب والمنائر الذهبية تجذب الزائر من على بعد مئات الامتار وتهيئه بلا وعي لما ينتضره في الداخل، لتبدأ المرحلة الاولى من الابهار - احد اهم اهداف بناء المراقد- تتبعها المرحلة الثانية عند دخول الصحن (الفضاء المحيط بالمرقد) فالايات والاشعار والزخارف المحفورة بدقة عالية على واجهة الأواويين (جمع أيوان) وهي الغرف المطلة على الصحن والتي تشكل بمجموعها السياج المحيط بالمرقد، والروائح العطرة من بخور وطيب ومسك، تهيئ الزائر ذهنياً لتقديس المكان والشخص الدال عليه، على العكس من الجوامع التي توجه المزاج الروحي نحو الخالق، ثم تنتهي مراسم الزيارة في المرحلة الثالثة وهي ذروتها وفيها تحدث عملية التأثير المباشر لسحر الذهب والمرايا (الزجاج) على قدرة الانسان في مقاومة أجواء روحانية تمت صناعتها بحرفية عالية فقد تعمد البنائون الفرس في تضييق المساحة المحيطة بالمرقد لتبقى مزدحمة حتى عند قلة الزائرين في غير مواسم الزيارة للأفادة من خاصية السلوك الجمعي الذي يجد المرئ نفسه مندمجاً فيه بلا أي أسئلة حول صحة مايقوم به مهما كان حظه من العلم والذكاء فالفرد الذي يفقد وقاره ويتحمس مع الجماهير المحيطة به في ملعب كرة القدم تحت تأثير السلوك الجمعي هو ذاته الذي يفقد عقله لنفس الاسباب داخل هذه الاضرحة فيدخل بلا أدراك في خطيئة الشرك عندما يتوسل لطلب حاجته من الشخص المدفون في هذا الضريح ممارساً أعظم الذنوب وهو يعتقد أنه يؤدي نوع من العبادة التي تقربه من الله !! وفي قمة الاستلاب الروحي تأتي خطب المشايخ لتشكل وعياً مشوهاً للدين والتاريخ وحتى للمنطق عندما يعلنون أن زيارة بعض هذه المراقد تعادل 70 الف حجة لبيت الله الحرام، ومثل هذه الطروحات توضح أن الهدف النهائي للتشيع الصفوي هو أنشاء ديانة موازية تمثل فيها الاضرحة والمقامات وطقوس عاشوراء بديلاً عن بيت الله وشعائر الحج والعمرة.

والسؤال الجوهري الناتج عن تجربة شخصية واللذي أذا ما أجاب عنه الشيعي بصدق سيدرك بلا شك حجم الخداع الممارس عليه من قبل الصفيون قديماً وحديثاً، وهو موجه لكل من أستطاع أداء فريضة الحج أو العمرة وزار قبور اَل البيت في البقيع :

لماذا تكون نسبة المشاعر الجياشة عند زيارة مقابر البقيع (الدوارس) أقل منها بكثير عند زيارة مقامات أخرى في العراق وأيران، ففي البقيع لايشعر الزائر بالحاجة الى البكاء ولاتستولي عليه مشاعر الرهبة والخوف فينخرط في عملية دعاء وتوسل لطلب حاجة أو الخلاص من مشكلة؟ مثلما يحدث له عند زيارة أضرحة أخرى ذات بناء شامخ كمقام سعيد بن جبير في مدينة الحي (220كم- جنوب بغداد) رغم أنها تضم رفات أشخاص أقل منزلة (دينياً) من اَل بيت النبي الراقدين في البقيع ومنهم السيدة فاطمة الزهراء والامام الحسن ؟

الجواب هو: أن الفرق في حجم الشعور بالرهبة والخوف والامل والرجاء بين الموقفين مرتبط بالفرق بين قبور عادية في البقيع وصروح شامخة في النجف وكربلاء وقم ومشهد وأماكن أخرى، فأحساس الزائر في حقيقته مرتبط بهيبة المكان وجلاله أكثر من أرتباطه بالشخص المدفون تحت ثراه !!

 

علاء أبو رغيف

في المثقف اليوم