قضايا

حلول سهلة أم بناء دولة

يمر العراق حالياً بأزمة اقتصادية عميقة، يتفق الجميع بأنها نتاج سياسات اقتصادية سابقة غير مناسبة البتة، فضلاً عن المؤثر القريب المتمثل بانخفاض اسعار النفط.

وفي الوقت الذي يبذل فيه الخيرون من المتتخصصين بالشؤون الاقتصادية محاولات لتقديم مقترحات للخروج من الازمة، فانهم جميعاً يتفقون على المسبب لما يحدث،لان التاريخ الاقتصادي اصبح معروفاً (لا مؤكد الا الماضي) لكنهم يختلفون في مقترحاتهم وهو امر طبيعي، ولكن التأخر او الخطأ في القاء طوق النجاة له تأثيرات كارثية .لذا فالازمة كي نفهم حقيقتها فهي اختلالات متراكمة ولدت فقاعة جاءت اسعار النفط لتفقأ الفقاعة Bubble Burst.

ومما يتفق عليه ايضا بأن تحفيز واعادة الحياة للقطاع الحقيقي، وتنويع البنية هي الحل للاختلالات وتقليل احتمالات الازمات .

ولكن ماذا عن الحلول السريعة والممكنة؟، هل السرعة تدعو لمقترحات سهلة التنفيذ سرعان ما تخبو (Ofseting)، ام السرعة تعني قيام كل كيان في الاقتصاد العراقي بواجباته، وهذا هو الوقت الحاسم لاختبار الكفاءة والنزاهة،إذ لافائدة من احدهما لوحده.

اولاً: إن من اهم المستهدفات في هذه الازمة هو ايقاف استنزاف العملة الاجنبية الممثلة لاحتياطي العراق لاطالة امد مواجهة تداعيات اسعار النفط .

ان السبب وراء الاستنزاف يقيناً يكمن في فهم نتائج ميزان المدفوعات العراقي والذي تعكسه نافذة بيع العملة للبنك المركزي بشكل كبير.

فزيادة الفقرات الدائنة (قيمة الصادرات النفطية وما شابهها ) على الفقرات المدينة ( قيمة الاستيرادات وما شابهها ) يجعل الميزان الكليOverall لميزان المدفوعات موجباً، وتزداد الاحتياطيات كما كان يحدث في العراق قبل الربع الاخير من 2014 . والعكس يتحقق اذ تفوقت الفقرات المدينة في ميزان المدفوعات العراقي على الفقرات الدائنة محققة ميزاناً كلياً سالباً فتنخفض الاحتياطيات كما يحدث بعد الربع الاخير من 2014 ولغاية الان .

فاذا لم يكن بمقدورنا السيطرة على الفقرات الدائنة كونها تابعة بشكل كبير لأسعار النفط، فأن التركيز على الفقرات المدينة هي محل العلاج الواقعي التي تقلل من استنزاف الاحتياطي، فضلاً عن كونه حلاً أقل تأثيراً على اصحاب الدخول الواطئة ويستهدف ذوي الدخول العالية نسبياً .

لذلك المطلوب التحرك كالاتي:

- دفع ودعم الجهاز الكمركي لتطبيق التعرفة المقرة من عام 2010 والتي ازاء كل احتجاج غير مبرر يلغى العمل بها ؟!

ان تطبيق التعرفة لايؤخذ على انه جباية مالية فقط (والعراق محتاج لتعظيمها ) بل الأهم تأثيرها في اسعار الاستيرادات، خاصة المواد الغذائية سريعة العطب والتي تلعب كلفة الخزن والنقل من دول الجوار تاثيراً في سعرها مقارنة بالموجود والممكن في داخل العراق، إذ ان عدم فرض التعرفة جعل (الألبان، اللحوم، الخضروات، الفواكه ومواد غذائية عديدة ذات منشا محلي) لاتقوى على المنافسة، وبالتالي فأن فرض هذه الضريبة غير المباشرة (كما يفعل شركائنا في دول الجوار ايضاً ) يرفع حتماً من تنافسية هذه الانواع، مع التأكيد ان استيرادات العراق من هذه المواد كبير ومع الاسف تدعمها سياسة اغراق واضحة .

ولكن نقرأ ونسمع من البعض عدم تفضيلهم مثل هذا التوجه، متذرعين بالفساد تارة او عدم القدرة على مسك الحدود تارة اخرى، اليس فرض الضرائب ومسك الحدود واجبات بدائية لأي دولة، فماذا اذا تعرضت لأزمة، آليس درء المفاسد يتقدم؟

اما من يتذرع بأن منفذ كردستان هو بديل لدخول السلع يصعب السيطرة عليه، فهذا الامر ايضاً يمكن حله، كما بدأت الكمارك تفعل بوضع مفارز بعد دخول الشاحنات من كردستان .

ثانياً: كما ذكرنا في مقالة سابقة بأن فقدان السيطرة الكاملة على زيادة الايرادات العامة بسبب تاثير اسعار النفط، لا يعدم امكانية زيادتها كما سيلاحظ، كذلك يستدعي الضغط على النفقات العامة الى اقصى ما يمكن وكما سنرى .

لاسيما ان تجربة الموازنة العامة 2015 عكست لنا انحرافاً كبيراً في تقديرات الموازنة المعلنة عن المتحقق حتى 2015/12/31 .

اذ كان العجز المخطط (25 ترليون) بينما العجز المتحقق (14 ترليون).

وقد صرح السيد وزير المالية بأن وزارته بذلت جهوداً في ضغط 25% من النفقات ؟ ولكن لانعرف لماذا جاءت موازنة 2016 على وتيرة الانفاق منحرف التقديرات نفسه؟

وقد يقول البعض انها تقديرية ؟ كلا انها مصدر الاختلالات الاقتصادية، وتحدث ارباكاً في تسيير شؤون القطاع العام الذي يعد قاطرة سحب الاقتصاد العراقي مع الأسف .

فسوء التقديرات ومنها العجز المقدر 2015 (ثم 2016) يخلق توجهاً حكومياً في البحث عن مصادر تغطية مقبولة وغير مقبولة من ناحية التكاليف، ويولد ارباكاً.

وللتبسيط لا الدقة جرى تقدير الايرادات العامة على اساس 3.6 مليون برميل يومياً بسعر 45 دولار للبرميل، ولكن الواقع ابقى على الكمية قريبة بسبب جهود للقطاع النفطي، لكن انخفض سعر البرميل الى النصف في السوق، وهذا يعني اننا سنتمكن من تغطية سته اشهر من موازنة 2016، لكننا نسمع ان التغطية مفقودة من بداية العام كما صرح بعض المسؤلين .

مرة اخرى نحن ازاء واجبات بدائية للدولة تعبر ادراتها المختلفة عن كفاءتها .

من جملة ما يطرح من حلول مهمة ان جباية رسوم الكهرباء على الرغم من تواضعها، يمكن ان يجلب (5-4) ترليون دينار عراقي، ولكن يعود اصحاب الحلول السهلة ويقولون الفساد وصعوبة الجباية؟ اراض زراعية تحول الى سكنية دون ضرائب؟ املاك دولة ينتفع بها سكناً واستخداماً دون ايرادات مؤثرة، بيوت واراضي تقسم وتتجاوز على الارصفة دون اي رخص وبصورة مخيفة .

آليس كل هذه وغيرها جالبة للايراد وهي من صلب الواجبات للادارات التي تعكس (الكفاءة + النزاهة)، آليست حلول مُمكنة حتى في الآمد القصير جداً ؟ واذ لم تطبق اليوم وفي هذه الازمنة فمتى تُطبق ؟ واعتقد ان المواطنيين لن يرفضوا ذلك لانها لاتؤثر كثيراً بالشرائح ذات الدخل المحدود، بعكس الحلول السهلة .

استنتاج :خفض الاستيراد يقلل عجز ميزان المدفوعات ويقلل الطلب على العملة الاجنبية نسبياً تحت تاثير فرض التعرفة الكمركية، زائداً ضغط النفقات وتحقيق ايرادات اضافية ممكنة، يقلل من عجز الموازنة، وبالتالي مع الاحتياطيات الاجنبية التي يمتلكها العراق وامكانات تغطية العجز داخلياً (سندات، حوالات ) يمكن تقليل الضغط على القطع الاجنبي .

 

ثالثاً : ماهي الحلول السهلة؟ لماذا نقف بمواجهتها

انها الاجراءات والتعليمات والتعديلات التي لا تستنهض نشاطاً او قطاعاً، بل ينحصر أثرها في الجانب المالي، الذي لايلبث ان يتبدد مع استمرار الهشاشة الاقتصادية وطول زمن الازمة ، والحل السهل يخلف معه تداعيات تستدعي مزيداً من الاجراءات المالية غير المؤثرة .

ولتوضيح ذلك، فان الحلول المقترحة كانت :

- فرض ضرائب مقطوعة (3%) (6%) وغيرها على الرواتب جميعاً .

- تعديل سلم الرواتب .

-   اطلاق يد المحافظات وبعض الاجهزة في فرض رسوم حتى دون قانون .

-   المطالبة بخفض قيمة الدينار العراقي .

نتفق انه لايوجد شئ مقدس غير قابل للتعديل، ولكن المقدس حقاً هي حياة الاغلبية محدودة الدخل والتي لاقيمة للوطن دونها، والتي سيمسها الضر اذا كانت البداية او الخطوة الاولى بهذه الحلول دون استنزاف الجهد قبلها بحلول اقتصادية ايضاً سريعة لكنها مؤثرة في مواجهة الازمة، كما بينا سابقاً .

وحتى فرض هذه الحلول السهلة او طرحها بشدة وباستمرار ومحاولة تهويل نتائجها سيجابه برفض اجتماعي جزء منه ظهر وما خفي كان اكبر .

فقرارات مس الرواتب لاصحاب الدخول المنخفضة او حتى تأخير صرفها لقيت مقاومة كبيرة، على الرغم من نسبها التي مازالت منخفضة . لذلك فإن الاستمرار بالاستقطاعات غير مدروسة العواقب للرواتب، وقبل الذهاب الى حلول مؤثرة تبني الدولة وتدعم سياستها تؤشر خللاً في اولويات التصدي للازمة .

كما ان تمادي بعض الاجهزة والمحافظات في فرض الرسوم جزافاً، في وقت يتعذر بهِ جباية رسوم الكهرباء والماء واجازات البناء يعد مثاراً للإستياء غير المُحبذ .

او الاطلاع على احصاءات منشورة تؤكد وجود ودائع زمنيةٍSaving Deposits للقطاع العام لدى المصارف العامة في مثل هذا الوقت ؟

اما المطالبة بخفض سعر صرف الدينار ازاء الدولار تحت ذرائع اسناد الايراد العام او الحفاظ على الاحتياطي فهو ايضاً يعكس طريقة المواجهة المستسلمة، متمثلة بالذهاب الى الحل الاخير صعب التأثير سهل التطبيق،قبل انجاز الحلول ذات الاولوية المطلقة التي تم ذكرها .

وعلى الرغم من ادراكنا ان لتغيير سعر الصرف تاثيرا يتوقف على مرونة طلب العملة الاجنبية الا انه يمكن مناقشة مدخل خفض سعر الصرف كالاتي :

• ان مايعكسهُ عجز الموازنة 2016 يقارب 25ترليون دينار، وبالتالي لايحقق تخفيض قيمة الدينار حتى بنسب كبيرة مساعدة تذكر ( ويمكن التحقق من ذلك بمراجعة مقال السيد حسين عطوان المنشور في شبكة الاقتصاديين يوم 31.1.2016 ) .

• نَتج عن ضغط الرواتب ردود افعال مستمرة وهي بنسب منخفضة واستهدفت الرواتب العالية بالتخفيض اساسا، والدنيا بالضرائب المقطوعة، فماذا يحدث اذا تم فرض ضريبة وهي مقطوعة ضمناً عبر سعر الصرف، لاسيما وان هذا الاجراء لايمكن تجنُب اثاره من قبل ذوي الدخول المنخفضة، وسنجد ان اسعار السلع التي يحصلون عليها وكلها مستوردة ترتفع فعلاً، بل تولد معها توقعات بامكانية الخفض اللاحق وهو امر حتمي لطروحات تبحث عن حلول سهلة وهي لم تستنفذ جهدها، فضلاً عن ان التاريخ النقدي القريب (قبل 2003) مازال في الذاكرة .

اما في الجانب الاجتماعي فان خفض الصرف للعملة الوطنية مشابه للعلاج الكيماوي يتم اللجوء اليه في اخر الخيارات لا في مقدمتها كونه سهل التنفيذ .

ان من لايستطيع الجباية وحماية الرصيف وتقسيم الاراضي الزراعية وغيرها، فكيف سيواجه ردود الفعل الناتجة عن المضمون الضريبي المؤذي للقوة الشرائية المرافق لخفض الصرف .

بتواضع شديد ان ترصين اسس الدولة عبر اجهزة حكومية تمارس دورها في مثل هذه الازمة هو الحل المُمهد لخروج آمن للاقتصاد العراقي، اما التعذر بالفساد او عدم الكفاءة لاجراءات مهمة والدفع بحلول لم يحن وقتها فهو كالمستجيرمن الرمضاء بالنار.

 

ا. د. محمود محمد داغر

أستاذ علم الاقتصاد في جامعة بغداد

في المثقف اليوم