قضايا

البنيـوية من جديد

alhusan bshodأعتقد أننا نعيش انفصاما أو لنقل تأخرا كبيرا بين إدراكنا وإنتاجاتنا الأدبية، فنحن إلى اليوم مازلنا عاجزين عن مواكبة السيرورة الطبيعية للمعرفة، سواءً أكانتْ أدبا أو نقدا أو عِلما. إننا إلى اليوم، مازلنا عاجزين عن المسايرة، فأحيانا نَتَقدمُ إنتاجاتِنا الأدبية وواقعَنا الثقافيّ والفكريَّ بأشواطٍ كثيرة (المناداة بما بعد البنيوية، والنقد الثقافي و...)، وتارة نتأخر عنه بقرون عديدة (قراءة الأدب قراءة انطباعية، وتعقب المعنى، وتكريس الموسوعية على حساب التخصص ...)، وأحيانا ننسلخ عنه كلية، (الإغراق في الترجمة والتماهي المستلَب مع النظريات الأدبية الغربية الحديثة على حساب الأدب نفسِه)، وتارة نتعصَّبُ له تعصبَ الجاهليِّ لقبيلتِه (رفض أي وافدٍ بدعوى الاستلاب والانسلاخ والتميُّع و...)، فصرنا كحاطب ليلٍ، يستوي لدينا النافع والضار، الجديد والبالي، والجيد والسقيم.

لقد ولَّتْ مرحلة النهضة بآمالِها العريضة وشعاراتِها الكبيرة، ولم تعط للحياة الثقافية والأدبية والعلمية العربية غير مزيد من التأدلج والتحزب والتشظي والفُرقة، وظلَّ العمل في هذا المضمار عملا فرديا، يضطلع به مَن توَفرتْ فيه وله الظروف الملائمة لذلك، وظلت جامعاتنا العربية محافِظة ومحتفظة بالمنطق الجاهلي أيام دار الندوة، وظلّ هدفها الأول والأخير هو التلقين ولا شيء غيرَه وإنْ أضمرتْ غيرَ ذلك.

بعد الطفرة التي عرفها الغرب على مستوى الأدب ونظرياته ومناهجه، والتي تجلّتْ إرهاصاتُه الأولى إبَّان عصرِ الأنوار، وصولا الى مرحلّة الشكلانيين الذين أرسوا الأدوات المنهجية للاشتغال بالأدب، لتكتسح البنيوية بعد ذلك كل مجالات البحث، وتُعلِنَ عن عِلم اللسانيات التي صارَ وثدَ الرَّحى الذي تدور حوله كل العلوم الأخرى، فاتحة المجال على مصرعيه للولوج الى عالَم التخصص، وإعلان الانتقال إلى ما بعد البنيوية، هذا المسار الحافل والمتسارع، لم يكن محض صدفة ولا ضربة حظ، إنه نتاج لقرون من الكر والفر والصراع الذي عرفتُه أوربا منذ القرون الوسطى (حوالي 500 للميلاد) إلى حدود القرن السابع عشر وظهور الثورة الصناعية.

لقد خلقتْ الكونوليالية في الستينات والسبعينات في الوطن العربي، خاصة لدى الشباب المتعلم والمتنور والمتحمس، خلقتْ حالة من النرفزة والنِّدّية للغرب، خصوصا مع الشعارات الاشتراكية واليسارية والقومية البعثية في العراق والشام، ما يمكن أن نسميه بالانجراف الإيديولوجي غير المنضبط، الهادف إلى حرق المراحل، واختصار الطريق واللحاق بالغرب، ولِما لا التقدم عليه أيضا، في حين أن كل المعطيات والمُقوّمات التاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعِلْمِيَّة، كانت إما منعدمة أو في طور التشكل، وبالتالي كانت كل تلك المحاولات مجرد ركض وراء السراب، ولا تزال الحال هي نفسها إلى يومنا هذا وللأسف الشديد.

هذا الركض وهذا الانبهار أورثنا معضلات حقيقية، وأزماتٍ أدبية ونقدية ونظرية ومنهجية  إجرائية، هي التي مازالت تُؤخر تقدمَنا الأدبي والنقدي والثقافي إلى اليوم، فالكل ينادي بعِلْمِيَّة الأدب.

فمثلا في الحقول المتخصصة التي نعتقد أنها في بدايات التأسيس العلمي، والتي يراها البعض عِلما قائما بذاته كالسرديات مثلا، مازال هناك من يخلط بين مهمة الناقد ووظيفة السردي وحدودَ كل واحد منهما، وإلى اليوم ما زلنا نطالع كتُبا يدعي أصحابها أنهم يؤسسون لِعلم الأدب، في حين أنهم مازالوا يستخدمون مفهوم النسق بمعنى البنية، والتيمة بمعنى النسق، والبنية بمعنى النص، ...، ومنهم مَن لا يُفرق بين الفِكر والنظرية والعِلم والدراسة.

في أوج المد البنيوي، وبينما نحن نُجرب ونُرَكّب ونتعلم ونصيب ونخطئ، ثُمَّ هكذا فجأةً وفي لمح البصر، تَنْبَري ثلة من المتحمسين للبنيوية المتأثرين بها والمتعلمين لها، وغير الماهرين بها، ليُعلنوا موت البنيوية، وليكنسوا كل ما كان، لا لشيء سوى لأن الغرب أعلنَ تجاوزه للبنيوية الى (ما بعد البنيوية)، ليمزق هؤلاء المغمورون في البنيوية خُطاطاتهم وترسيماتهم وجذاذاتهم التي كانوا يتمرنون فيها على البنيوية، ويعلنوا انتقالهم وتجاوزهم البنيوية إلى ما بعد البنيوية، وهم لا يعرفون من البنيوية إلا اسمها. وها هم اليوم ينادون بالنقد الثقافي وتجاوز الأدب.

وهنا تكمُنُ المعضلة الأساسية والمشكل الرئيسي، فلو أننا أنفقنا نصف ما أنفقه الغرب من الوقت في سبيل بناء منظومتنا الأدبية والنقدية والمعرفية والعلمية، مع الاستفادة من التطور الهائل الذي يعرفه الغرب على مستوى النظريات، لكان وضعنا الآن أحسنَ بكثير مما نحن عليه الآن، إن ما وصلتْ اليه أوربا هو حصيلة اثنا عشر قرنا أو يزيد، ونريد نحن أن نختصره في أربعين سنة وهذا هذيان سخيف.

لو أننا استثمرنا الأفكار التي أسس لها الشكلانيون الروس، وتَمَكَّنَّا منها وصبَرْنا على البنيوية صبْرَ المُضيفِ على الضّيف الثقيل. لكان بمقدورنا الآن أن نبدأ مشروعا حقيقيا لعِلْمِيَّة الأدب، ولأسسنا لنقدٍ أدبيٍّ حقيقي يستجيب للتطور الطبيعي الذي كان أجدادنا القدامى قد أرسوا دعائمه وركائزه الأولى على أرض متينة، وعلى أساسٍ صلب، أما ما نقوم به اليوم فلا يعدوا أن يكون تهافُتا لتشيِيد جِسمٍ حين يكتمل سيكون مشوهَ الشكل، هزيل الهيئة سقيما ومعلولا.

من قال إن الأدب القديم قد استُنفذ واستهلك وتم تجاوزه ؟!، إن الإنتاجات الأدبية العربية القديمة، أجود وأثمن وأصعب من أن تتجاوزها السنين، إن الإرث الثقافي والأدبي العربي القديم لم يَنلْ منا ما يستحق من الاهتمام والدراسة، بل وظل سدا منيعا أمام أفقنا الضيق ومخيلتنا المحدودة (حتى قال القائل إن شخصا كالجرجاني لم يجد بعدُ تلميذا نجيبا يفهم ويَعِي قيمة ما كتب)، أعتقد أن صيحات وشعارات التجاوز التي روج لها كثير من النقاد العرب لهذا الموروث الدسم والغني والقيّم، كان لسبب واحد ووحيد هو، أن هذا الأدب يكلفهم الكثير من الجهد والعمل، ويحتاج منهم الكثير من الصبر والتحمل، وهذا ما لا طاقة لهم به.

إن التجاوز والتخطي و...، كل هذه الشعارات ليست الحل، ولن تكون حلا أبدا، لأن الأدب سيرورة حتمية وتطور طبيعي مُطّرد، واللاحقُ يُؤسَّسُ ويُبنى ويُشيَّد على السابق، والعودةُ الى الأصلِ أصلٌ، والقطيعة تعني البدء من الصفر، وهذا البدء مستحيلٌ في الأدب، ويحدث مرة واحدة فقط، وكل ما يليه يندرج ضمن خانة التطور وحسب. وهذا التطور رهين بمدى استثمار الموروث الثقافي والأدبي ورهين كذلك باستدعاء البنيوية من جديد. وإلى أن نعِي هذا سيكون علينا هدر سنوات أخرى من التيهان والضياع والتخبط.

 

الحسيـــن بشـــوظ / كاتب من المغرب

 

في المثقف اليوم