قضايا

قبسات من أخلاق النبوة

ali jabaralfatlawiفي كل عصر يوجد منافقون، وفي عصر النبوة منافقون آذوا النبي (ص) والمسلمين، وقد تكلم القرآن عن المنافقين في عدد من الآيات، وأنزل الله تعالى سورة كاملة عنهم سميت سورة المنافقين، مكونه من أحدى عشرة آية، تبدأ بقوله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول الله والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون) المنافقون:1 

جاء في (التفسير الكاشف) للشيخ محمد جواد مغنية في تفسير الآية: (إنّ المنافقين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون، وهو لهم بالمرصاد وأيضا النبي يعلم حقيقتهم ولكنه مأمور أن يعاملهم بالظاهر لا بالواقع .. قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) .

هذه هي أخلاق النبوة من قال (لا إله إلا الله) كان دمه معصوما، وماله محفوظا، ونفسه محترمة، لا يعتدي عليه أحد باسم الدين، أو بأي عنوان آخر، إلا أن يكون متلبسا بجريمة أخرى،  كذلك أصحاب الديانات الأخرى محترمون إن لم يحصل منهم عدوان، (لا إكره في الدين قد تبين الرّشد من الغيّ) البقرة: 256 ،  لكن التكفيريين يفصلون الدين حسب المصلحة، ويتعاملون بعقول مغلقة وفهم متخلّف منحصر في اتجاه واحد لا غير، لا يحترمون السنة ولا صاحب السنة محمد (ص)، وأخلاق النبوة توجب إحترام الآخر المختلف، لكن المختلف في عرف التكفيريين يجب قتله، لأن المختلف في فكرهم المتخلف، هو إما كافر أو مرتد أو مشرك.

 ينقل الشيخ محمد جواد مغنية قول الإمام علي (ع) في وصف المؤمن والمنافق:

(لسان المؤمن من وراء قلبه، وقلب المنافق من وراء لسانه) أي (أنّ لسان المؤمن تابع لقلبه، فلا يقول إلا ما يعتقد، أما المنافق فقلبه تابع للسانه، ولسانه يدور مع أهوائه وأغراضه .. ونتيجة ذلك أن المنافق لا قلب له إلا الهوى والغرض) . واليوم التكفيريون هم من يمثل شريحة المنافقين يحملون أخلاقهم ورؤاهم، ويتخذون من الدين سبيلا لتحقيق مآرب دنيوية، إسلامهم إسلام القول لا الفعل، وأفعالهم بعيدة عن المبادئ الانسانية، صفاتهم التوحش والقتل والاعتداء على الاعراض والنهب والسلب للأموال، إنهم لصوص قتلة شعاراتهم إسلامية، ويصور لهم شيوخهم أن الجنة لهم فحسب، مع آلاف من الحور العين لكل متوحش مجرم من التكفيريين.

جاء في سورة المنافقين: (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنّ الأعزّ منها الأذل ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) آية: 8

سورة المنافقين نزلت في عبد الله بن أبيّ أحد شيوخ النفاق وأصحابه في المدينة المنورة، في السنة الخامسة للهجرة عندما كان الرسول (ص) في غزوة بني المصطلق، وتسمى أيضا غزوة المريسيع نسبة إلى بئر ماء بهذا الإسم، إذ حصل نزاع على البئر بين رجل من الأنصار وآخر من المهاجرين، فضرب المهاجر الأنصاري، ونُقِل الخبر إلى عبد الله بن أبيّ، ومعه رهط  من أصحابه فغضب المنافق عبد الله بن أبيّ، وقال قوله الذي طعن فيه برسول الله (ص) ومن معه من المهاجرين:(لئن رجعنا إلى المدينة  ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ) التي بسببها نزلت سورة المنافقين.

 يقول السيد محمد حسين الطباطبائي في (الميزان): (يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول (ص) ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما جعلتم بأنفسكم أحللتموه بلادكم وقاسمتموهم أموالكم)، يؤنب شيخ المنافقين عبد الله بن أبيّ  قومه لأنهم استقبلوا الرسول (ص) ومن  معه من المهاجرين في المدينة المنورة، تنقل الروايات أن (زيد بن أرقم) كان حاضرا فسمع ما قال عبد الله بن أبيّ وكان زيد  شابا صغيرا، يقول السيد الطباطبائي في (الميزان): (فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد (ص) في عزّ من الرحمن ومودة من المسلمين والله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله: أسكت فإنما كنت ألعب.) 

يقول علي بن إبراهيم القمي في تفسيره وهو ينقل حادثة النزاع بين الانصاري والمهاجر عند البئر، وينقل كلام عبد الله بن أبيّ شيخ المنافقين:  (وكان في القوم زيد بن أرقم وكان غلاما قد راهق، وكان رسول الله (ص) في ظلّ شجرة في وقت الهاجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن أبيّ؛ فقال: (لعلك وهمت ياغلام) ؟ قال: لا والله ما وهمت، قال: (فلعلك غضبت عليه)؟ قال: لا والله ما غضبت عليه، قال: (فلعله سفه عليك)؟ فقال: لا والله! فقال رسول الله (ص) لشقران مولاه: (أحدج) – الحدج: شدّ الأحمال وتوثيقها – فأحدج راحلته وركب وتسامع الناس بذلك وقالوا: ما كان رسول الله (ص) ليرحل في مثل هذا الوقت، فرحل الناس ولحقه سعد بن عبادة فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال: (وعليك السلام)، فقال: ما كنت لترحل في مثل هذا الوقت؟ فقال: (أوَ ما سمعت قولا قال صاحبكم)؟ قال: وأي صاحب لنا غيرك يا رسول الله؟ قال: (عبد الله بن أبيّ زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ)؟ فقال: يارسول الله فإنك وأصحابك الأعزّ وهو وأصحابه الأذل.)

أخذ الأنصار يلومون عبد الله بن أبي على ما قال، لكنه نكر ذلك وكذّب زيد، فطلب الانصار من عبد الله أن يذهب لرسول الله (ص) ليعتذر منه، جاء إلى الرسول وحلف له بالله أنه لم يقل ذلك، فجاءت الخزرج عشيرة عبد الله بن أبيّ يلومون زيدا لأنه كذب على سيدهم، وأضاف القمي: (وكان زيد معه يقول: اللّهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبد الله بن أبيّ. فما سار إلا قليلا حتى أخذ رسول الله (ص) ما كان يأخذه من البرحاء – الشدّة – عند نزول الوحي، فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي فسرى عن رسول الله وهو يسكب العرق من جبهته، ثم أخذ بإذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل ثمّ قال: (ياغلام صدق قولك ووعى قلبك وأنزل الله فيما قلت قرآنا) فلما نزل جمع أصحابه وقرأ سورة (المنافقون) ففضح الله عبد الله بن أبيّ .)

 ومن أخلاق النبوة منع رسول الله (ص) بعض الصحابة من ردّة الفعل بسبب إسائته لله والرسول، إذ أراد بعض الصحابة أن يقتلوا عبد الله بن أبيّ، ومن هؤلاء إبنه (حبّاب) الذي سمّاه الرسول (عبد الله) قال السيوطي في تفسيره (الدر المنثور): (يا رسول الله، إن والدي يؤذي الله ورسوله، فذرني حتى أقتله)  فقال له رسول الله (ص): (لا تقتل أباك)، وأعاد عليه فقال (ص): (لا تقتل أباك).

 واليوم التكفيريون يقتلون آباءهم وأمهاتهم وإخوانهم، لأنهم يرفضون فكر الإرهاب والتكفير، هذه قبسات من أخلاق النبوة ، قول النبي (ص):

 (لا إله إلّا الله) من يقولها دمه وماله معصوم، أين نحن اليوم من هذا الشعار، والقبس الآخرعندما جاء زيد وأخبر النبي (ص) بما قال المنافق (عبد الله بن أبيّ)، فبادر النبي (ص) زيدا بثلاثة إسئلة ليتنا نستوحي منها الخلق النبوي الراقي لنقتدي به، عندما يصل إلينا كلام من الآخرين منقولا عن شخص ما أن نتثبّت قبل أية ردّة فعل، نرى النبي (ص) بادر زيدا بأسئلته التأكيدية التوضيحية:

(لعلك وهمت ياغلام)؟.(فلعلك غضبت عليه)؟، (فلعله سفه عليك)؟

 لم يتقبل النبي (ص) الخبر بالمباشر، ولم يبنِ عليه إلا بعد التثبت والتأكيد، وليتنا نقتدي بأخلاق النبوة في تعاملنا مع بعضنا، ومن قبسات أخلاق النبوة منع الرسول  (ص) إبن عبد الله أن يؤذي أباه.

وليتنا اليوم نقتدي بأخلاق رسول الإنسانية محمد (ص)، ونستضيء بأنوارها لحُلّت الكثير من المشاكل التي يعاني منها المسلمون اليوم.  

 

في المثقف اليوم