قضايا

انحطاط الخِطاب الإعلامي المِصري.. الأسباب والتّداعيات

alhusan bshodلا يختلفُ اثنانِ حول مُستوى الانحطاط والانحدار الذي وصل إليه الإعلام المصري الخاص والرسمي، انحطاطٌ تجاوزَ كلَّ اللَّياقة والبراغماتية؛ وتخلى عن أبسط أدبيات الإعلام المهني؛ التي تسمحُ له بِتمرير خطاباتِه ورسائِلِه دون أن يضطر إلى التمرُّغِ في وحل البذاءة والسوقية والتسوّل والانحطاط وقِلَّة الذوق والأدب.

يصعب على الـمُتَصَدِّينَ للإعلام المصري بالتحليل والقراءة؛ أن يجدوا الخيط الرابط والناظم بين توَجُّهاتِه ورسائِله وغاياتِه، إنه في المحصّلة؛ كتلةٌ من الضياع والتَّيْه الإعلامي الـمُنْجَرّ والـمُتماهي مع الضياع السياسي، كما أن افتقارَه للكفاءات وللأدوات المنهجية الضرورية للخطاب الإعلامي المهني والمحترف؛ زادَ من صعوبة التحليل والتشريح، وبالتالي؛ فإنه يمكن القوْلُ إجمالاً؛ إن هذا (الإعلام) مُـجرَّد حالةٍ طارئة؛ وَلَّدَتْه في ظروفٌ سلبية وغير صحية، وسيزول بزوالِها حتما.

طيلة الــ60 سنة الماضية؛ حرصتْ سُلطة  العسكر في مِصر على تطويع الإعلامِ الخاص؛ وضمِّه إلى نظيرِه الرَّسمي؛ وتوظيفِهِما معا للترويج للنظام وشرعَنَتِه وتلميعِ صورتِه وحجْبِ إخفاقاتِه. وكانت تَظهَرُ بين الفينة والأخرى؛ منابرُ إعلامية معارضة إلى حدٍّ ما؛ لكنها ظلتْ مَرصودةً مِن طرف النظام؛ يَشُدُّ معها ويُرخي بحسب الظروف والأحداث، فكانت في مُجملِها وسيلةَ تنفيسٍ أكثرَ مما هي منابرُ إعلاميةٍ معارِضة جادة. وفي العَقد الأخير من حُكم مُبارك، تمددتْ هذه المنابر وتكيَّفَتْ مع الوضع، ووجدتْ لنفسِها أساليبَ وطُرقاً جديدة للانفكاك والتحرُّر من خطِّ تحرير النظام، مَكَّنَهَا منه الطفرة الكبيرة في تكنولوجيا الإعلام؛ وبخاصةٍ الوسائط الرقمية التفاعلية. عند هذه النقطة بالذَّات؛ حدثَ التَّحول الكبير في بنية الإعلام المصري وخَطِّ تحريرِه.

بدأ التَّمايُزُ يحدثُ بوثيرةٍ سريعة جداً بين الإعلام الرسمي؛ الذي كان متجسِّدا في الوسائط الجماهيرية  (الإذاعة – التلفزة-  السينما – الجريدة)، الذي ورثَهُ النّظام السياسي عن أول انقلاب في مصر؛ وظلَّ محافظا عليه وموظِّفا له. وإعلامٌ آخر حديثٌ جدا، بدأ يفرِضُ نَفْسَه بقوة منذ مطلع الألفية الجديدة (سنة 2000م) هو الإعلام الرقمي أو ما يُصطلح عليه بــــــ "إعلام الوسائط التفاعلية/ إعلام التواصل الاجتماعي". وله جمهورُه وخطُّ تحريرِه وأهدافُه التي تختلف كليةً عن أهداف وجمهور وخط تحرير الإعلام الرسمي (القديم).

تجلى هذا التمايُز بشكل واضح وجليّ في جمهورِ كِلا الإعلاميْن؛ فالإعلام الجديد (وسائط التواصل الاجتماعي) استأثر واستحوذَ على فئة الشباب الذين وجدوا فيه بديلا مناسبا ومتوافِقا مع أحلامِهم وطموحاتِهم وأفكارِهم وتوجّهاتِهم، بل وسمح لهم بممارسة الإعلام بحرية أكبر؛ بعيداً عن النظام الأساسي المعمول به في الإعلام الكلاسيكي، فانفتحوا من خلالِه على العالَم، وتحرروا من سلطة الكلمة، ووفر لهم مُتنفسا للتعبير عن همومِهم ومشاكِلِهم وتطلعاتِهم وأحلامِهم. مما جعَلهم مُنفتحين بشكلٍ دائم على العالَم؛ يرونَ ويسمعون ويتابعون ما يحدث فيه ساعة بساعة، ويتفاعلون مع الأحداث، فانقطعتْ صِلتهم بشكل شبه كاملٍ بالإعلام الرسمي العتيق والشائخ، الذي تُصنع أخبارُه وبرامِجه ومادَّتُه الإعلامية على أعيُنِ النّظام وبتوجيهٍ منها.

ظل الإعلام الرسمي العجوز الـهَرِم؛ يُوَّظِّف الوسائل والأدواتِ ذاتِها التي ورثَها عن عبد الناصر، ولأن هذا الاعلام لم يتطور؛ فقد ظلَّ محافظا على جمهورِه القديم المكوَّن أغلبُه من الفئة الشائخة وجمهورِ الكنبة مما تبقى من جيليْ عبد الناصر والسادات ومبارك، الذين لم يَسْتَهْوِهِم الخطاب الإعلامي الجديد للشباب، إذ كان من الصَّعب جدا إقناع جيليْن كامليْن ظلاَّ ومازالا مَخموريْن بخطابات عبد الناطر حول الثورة الصناعية والثقافية والعلمية وغزو الفضاء وتحرير فلسطين وحُكم العالَم، وخطابات السادات بقرب دُنوِّ سنوات الوفرة والثراءِ والبذخ؛ وتَحَوُّلِ الطبقة الفقيرة إلى طبقة ميسورة؛ وتحوُّلِ الطبقة المتوسطة إلى برجوازية وأرستوقراطية، جيليْنِ عاشا في زمنِ الخيبات والهزائم المتتالية ونظام الطوارئ، وصرخا وتظاهرا ضد الجوع؛ ووقفا في طوابير الخبز؛ وأكلا بِبِطاقات التموين وبحصص محدودة، وسكنَ قِطاعٌ كبير منهم في المقابر وعلى هوامش المدن في فَقر وحرمانٍ وجَهل وتهميش، فيما حُرِم السواد الأعظم من التعليم والتغطية الصحة وفُرص الشغل، جيليْن مازالا يعتقدان أن مصر أمُّ الدنيا؛ وأنه إذا عَطَسَتْ مِصر سيُصاب العالَم بالرَّشح والبرد، فيما المدن المصرية الكبيرة تغرق في القمامة؛ وهوامِشُها تبتلعُها العشوائيات ودُورُ الصفيح ومَكَبَّاتُ النُّفايات ...، كل هذا الإرث الثقيل والزائف المدموغ في وَعْيِ ومُخيلة قطاعٍ واسع من المصريين؛ كان نتيجةً طبيعية بل وحتمية للخطابات العاطفية وللمادة الإعلامية الرسمية للنظام العسكري (منذ عبد الناصر إلى مبارك)، وجَعَلَ من الصَّعب بمكان على هذيْن الجيليْن أنْ يَعِيَّا مطالبَ الشباب بالحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، بل وصعُبَ عليهم حتى إدراك حَجْمِ الأذى والتَّخَلُّف والفقر الذي أوصلَهُم إليه انقلاب العسكري على الملكية.

قبل سنواتٍ قليلة من سقوط صنم مبارك؛ كان المجتمع المصري حقيقةً قد تمايَزَ إعلاميا، وصار عندنا إعلامٌ عصريٌّ مُرقمَنٌ؛ وإعلاميون (مدوِّنون) مدرَّبون ذاتيا، بل وخبراء وماهرون في توظيف واستثمار هذه الوسائط الاجتماعية التفاعلية للحدود القصوى، ولا يتبعون (في معظمهِم) لأية جهة سياسية أو إيديولوجية، (وإن كان هذا قد حصل فيما بعد). فكانت وتيرة تأثيرِ هذه الوسائط تسير بمتوالية هندسية، خصوصا في خَلقِ مجاميع تواصلية كبيرة جدا عبر المواقع والشبكات؛ مع سرعة تداول المعلومات بين هذه المدن الإلكترونية. في المقابل ظلَّ النظام الرسمي الشَّائِخ؛ مُؤمِنا بجدوى قنواتِه الرسمية والخاصة المأجورة والمملوكة لرجال أعمال هم في نهاية المطاف امتدادٌ لِلُوبي السلطة (تزاوج المال وسلطة). فبدأ الخطابان يتباعدان ويتنافران ويتمايزان شيئا فشيئا؛ ويتَّسِع الشرَّخُ والرتق بينهُما، ليُنتِجا لنا جمهوران، جمهورٌ قديم هرِمٌ وشائخٌ يعيش في العصر الناصري والساداتي، وجمهورٌ يافعٌ وشابٌّ يعيش اللحظة ويرى العالَم وما يحدث فيه من تطورات وتقلُّبات ويُقارِن ويُحلّل.

لم يَسْتفق الإعلام الرسمي إلاَّ بعد فواتِ الأوان؛ فكانت الثورة، وسقطَ رأس النظام، وتنفس الشباب المصري الحرية لأول مرة منذ 60 سنة، وعاش المصريون ديمقراطية ناشئة عمَّرت زُهاءَ سنة واحدةٍ فقط؛ عرفتْ حريةً في كلّ شيء تقريبا؛ خاصة في الإعلام وحرية التعبير، بعدها مباشرة؛ تنبّه النظام القديم (العسكر)، واستغلَّ مَغمورية الشباب في إنجاح ثورة أنجزُوها ولم يستطيعوا إكمالَها ولا حِمايتِها؛ لأسباب عديدة أبرزها؛ التكالب الخارجي وشيطنة الثوار في الداخل.

انتبه النظام إلى خطورة الإعلام التفاعلي الرقمي، فحاول النّزول بكل قوَّتِه واستئجار وشِراء الذِّمم لسد الخصاص الذي خلَّفَه طيلة سنوات غيابِه عن هذا الحقل الهام. لكنه لم ينجح في تحقيق الحجم المطلوب من التوازن بين خطابِه والخطاب المعارض له؛ لأسباب عديدة أهمُّها؛ سقوط قداسة العسكر في وعي طبقة الشباب؛ وانكشافُ تواطُئِه الـمُبيَّت بعد أن روَّج لنفسِه كحَكَمٍ بين الفرقاء السياسيين في البلاد، وتسبُّبِه في ارتدادِ مصر ديمقراطيا، وانسداد الأفق أمام الشباب المحبط؛ الذي وجد نفسَه مجددا في سجن كبير اسمُه مصر، مُكبلا بسلسلة لا تنتهي من القوانين والقرارات التي تلت الانقلاب، ليتمخض عن هذا الوضع المظلم  هروبُ من تيسر لهم ذلك، وإرسال قطاع كبير جدا من المثقفين والطلبة والإعلاميين المعارضين للانقلاب إلى السجون، وتغليظ العقوبة للرافضين؛ وإخراس الأصوات والمنابر المعارضة للنظام (العسكر)، وتوسيع قاعدة جمهور الكنبة، وأمام الفشل المتواصل والمستمر لكل المشاريع الاقتصادية والتنموية؛ وانهيار الاقتصاد المصري ومعه العُملة الوطنية، واتساع قاعدة الفقراء، والإجهاز على الطبقة المتوسطة، وتنامي العنف، وانحصار السياحة، والتورط في سيناء، وتوسيع مفهوم الإرهاب ليشمل كلّ من خالف أو عارض حُكم العسكر، وجَعْلِ محاربة الإرهاب أولوية على حساب الاقتصاد والتنمية والعدالة الاجتماعية والحريات، وإطلاق يد الأمن، وتطبيق العقوبات خارج القانون، والتدخل في شؤون الداخلية للدول القريبة والبعيدة (ليبيا / اليمن/ السودان/ إثيوبيا/ سوريا/ المغرب)، وتوسل واستجداء المساعدات والقروض من الداخل والخارج، وندرة المواد الأساسية في البلاد، وغلاء الأسعار، واتساع قاعدة الفقراء والمهمشين وتنامي العشوائيات ...، مع هذا الكم الهائل مِن المشاكل والاخفاقات المتتالية تسبَّب فيها الجيش طيلة سنوات حُكمِه؛ لم يجد هذا النظام بُدًّا من توظيف الإعلام الرسمي والخاص الموالي له في تبرير هذه الاخفاقات المتوالية. فكانت نقطة السقوط الكاشفة والفاضحة لهذا الإعلام البذيء. الذي اختار النظام أن يكون ناطقا باسمِه وموَّصِّلا لرسائِله خاصة للخارج، تفاديا للإحراج والـمساءَلة الديبلوماسية، فجاء هذا الخطاب ركيكا ومُنحطًّا ووضيعا جدا. خِطابٌ سُوقِيٌّ فاحش للغاية، لا يمكن للمتابع أو المحلل الأشد حيادا إلا أن يصفه بهذا الوصف، وأن يصف إعلامِيِّيه بالمرتزقة / الصبايا (العِيَّال).

من خلال المقاطع التي يتم تداولُها بشكل شبه يومي لهذا الإعلام، وبخاصة السمعي البصري، والمكتوب بدرجة أقل، يصعب تصنيف وتحليل هذا الخطاب، لسبب بسيط؛ كونَه لا يخضع لمنطق معين، ولكنه في المقابل خطاب كاشف فاضح إلى درجة كبيرة لمستوى التخبط الذي يعيشُه ويعانيه النظام، بل إن الحالة الدونية التي يعيشُها الإعلام المصري؛ هي صورةٌ طبقَ الأصل وتجلٍّ واضح لما يعيشه النظام سَواءٌ بِسواء. ويمكننا أن نقوم بمجهود بسيط ونجرد ونُصَنِّف المواضيع التي يتداولها هذا الإعلام ويركز عليها؛ ونحلل كلاًّ منها من زاوية الخطاب الموظف، وقد صنّفناها إلى ثلاث وهي:

الخطاب الإعلامي المصري في موضوع الاقتصاد

كانت ورقة الاقتصاد؛ أهمَّ وأبرزَ ورقة وظَّفَها العسكر لإسقاط الشرعية الديمقراطية التي تمخضتْ عنها ثورة الـ25 يناير. فبحكم استحواذ العسكر في مصر على أزيد من 40% من اقتصاد البلاد، فقد تمتْ المراهنة على هذا السلاح منذ الشهور الأولى لتولي الرئيس المنتخب وبتواطؤ خارجي، لإشعار المصريين بالجوع وإيهامِهم بفشل خيارِهم الديمقراطي، فتم خَلْقُ أزمة في المواد الغذائية ومواد التموين والطاقة (الغاز + الكهرباء)، وقد نجح العسكر إلى حدٍّ ما في تحويل مطالبِ وبوصلة قطاع عريض من الشعب المصري من التأسيس وحماية الشرعية والديمقراطية؛ إلى المطالبة بالرغيف والسكر والبنزين والكهرباء. فكانت ماكينة الإعلام الرسمي والخاص الموالية للعسكر، الأداة التي تم توظيفها لإقناع المصريين بفشل خيارِهم الديمقراطي؛ وتشويهِه والتنفير منه، وأن الحل والخلاص لا يمكن أن يأتي من صناديق الديمقراطية؛ وإنما من ثكنة الجيش. فبلع المصريون الطُّمع للمرة الألف؛ وأعادوا دفَّة الديمقراطية إلى وضعية السكون من جديد، فغنموا الرغيف وقنينة الغاز ليومين أو ثلاثة؛ ثم عادتْ الأوضاع أكثر سوءً مما كانت عليه، فيما غَنِمَ الجيش الجَمَل بما حَمَل؛ وعاد ليحكم البلاد من جديد.

وبسبب هشاشة الاقتصاد المصري، واعتمادِه على الدعم الأمريكي والخليجي بشكل كبير، وهشاشة قطاع السياحة، وتراجع جبايات قناة السويس، وغياب الرافد الصناعي، واعتماد مصر على الاستيراد لتوفير حاجياتِها الأساسية، وقِدَم الفساد وتغلغلِه في المنظومة الاقتصادية لمصر، كلُّ هذا عجَّل بانكشاف ضعف مصر اقتصاديا، مما أثر على العملة؛ وتسبب في سقوطِها، أعقبه مباشرة غلاءٌ مطردٌ في الأسعار؛ وإثقالِ كاهل الطبقة المتوسطة المتقلِّصة أصلا بالرسوم والضرائب، مما وسَّعَ من حجم الطبقة الفقيرة بشكل مقلق جدا، فكان على الإعلام الموالي بشقيه الخاص والرسمي؛ أن يتولى هذا المشكل نيابة عن النظام، بعد أن عجز عن تدبير الملفات الكبرى وفشلِه في تحقيق أي إنجاز اقتصاديّ ولو بسيط، في هذه النقطة بالذات؛ برز انحطاطُ هذا الإعلام؛ عندما بدأ يستخف بجمهورِه وتزيين الجوع له، وحثِّه على الصيام والتقشف والزُّهد، وتناول الوضيع والرخيص من الطعام، ويُحذّرهُ من السُّمنة والتُّخمة والبذخ والإسراف والتبذير، ويحضِّرُه للتأقلم مع الوضع والصبر عليه؛ ويَعدِهُ بسنواتٍ عجافٍ أخرى قادمة. بهذه السماجة وبهذه الوضاعة والوقاحة؛ يستهزئ الإعلام من جمهورِه ويستخف به.

تُظهر هذه المقاطع المستفزَّة، حالة من الفوضى التي يعيشُها هذا القطاع، وانعدام المهنية والتخصُّص والخبرة العلمية لدى هؤلاء الإعلاميين الأميّين؛ الدخلاء على الإعلام من بوابة الأمن.

الخطاب الإعلامي المصري فيما يُسمى بــ (الإرهاب).

ولعل هذا الموضوع هو الأخطر بين كل المواضيع التي يتناولُها هذا الإعلام أللا مهني ، نظرا للطريقة التي يقدمُه بها (الإرهاب)، حيت أصبحتْ شماعة الإرهاب؛ هي التهمة التي يمكن أن ترسل بها أيَّ شخص في مصر وراءَ الشمس. لقد تحولت هذه الشاشات البئيسة والمأجورة إلى منابرَ نحسٍ وشؤمٍ وخرابٍ وشرٍّ؛ وتهديدٍ للسِّلم والأمن الاجتماعي في مصر، ومخافرَ للتبليغ عن الخصوم والمعارضين وتخوينِهم واتهامِهم بالعمالة والتخابر، وتحريض الفصائل والطوائف والقوميات بعضَها ضد بعض. وتأجيج الفتن الطائفية والمذهبية والدينية. في حالة من عدَمِ الوعي أو اللا مبالاة بخطورة هذا الفعل، فهل هناك إرهابٌ أكبرُ من هذا!، ولصالح من كلُّ هذا التحريض والتهديد والوعيد والابتزاز!.

الخطاب الإعلامي المصري في العلاقات الخارجية.

في هذا الباب بالذات؛ أبان الإعلام المصري عن مستوىً كبيرٍ جدا مِن التفاهة والفجاجة والبؤس والدونية والانحطاط، إذ لم تَسْلَم كثيرٌ من الدول والشعوب والحكومات العربية والمسلمة، والرموز الحاكِمة والشخصيات الاعتبارية والسيادية العربية وغير العربية؛ التي يَفْرِضُ التَّعامُل مَعَها حدوداً مِن اللياقة واللباقة والوقار والديبلوماسية، وتمَّ التهجم عليها بشكل عنيف وكيِلِ التهم والشتائم لها، وانتهاك الحدود والأعراف التي تنظم العلاقة بين الإعلام والشخصيات الاعتبارية والرموز الحاكِمة والسيادية، بشكل أقلُّ ما يمكن أن يقال عنه أنه ((صبيانيّ))، وكثيرة هي المقاطع التي يُكالَ  فيها السب والشتم والقذف والتخوين لشعوب عربية بِعَيْنِها وإلى حُكامِها، وإلى رُموزِها السياسية بصورة فجَّة للغاية، وما ذلك مِن السياسة ولا الإعلامِ ولا المهنية في شيء. والذي يُراجع أرشيف إعلام الدول العربية التي كان بينها مشاكل وخصومات وخلافات حقيقية حادة، سيجد أن إعلام هذه الدول؛ كان دائما محافظا على حدودٍ من اللياقة والديبلوماسية والمرونة، بل وكان منضبطا أشَدَّ الانضباط، بل وماهرا في تمرير الرسائل والخطابات بأسلوب مهني رفيع وراقٍ جدا دون القذف أو القدح. ولنا أمثلة معروفة وكثيرة جدا (يطول المقام لسردِها)، أما ما وصل إليه الإعلام المصري من انحطاط ودونية وبذاءة، فإنه يعدد علاقات مصر الخارجية، ولا تترك هامشا للعودة ولا حيزّا للاعتذار والتراجع، وتقطع شعرة معاوية بينه (النظام المصري) وبين أشقائه العرب وغير العرب، مما يجعلُ ثمنَ هذا التصرّف باهضا سياسيا واقتصاديا وديبلوماسيا. أما الدول والشعوب والشخصيات السيادية التي نال منها هذا الإعلام الصبياني، فقد ضربتْ عنهُ صَفْحًا ولِسانُ حالِها يقول:

وإذا بُلِيتَ بشخصٍ لا خَلَاقَ له *** فَكُنْ كأنْ لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ يَقُلِ

بقي أن نؤكد على مسألة مهمة؛ وهي أن هذا الخطاب الإعلامي السوقي المنحط؛ ما هو في النهاية إلا انعكاس للسلطة، فهي التي تُلقن هؤلاءِ الأفواه المأجورة ما يجب عليهم قولَه. ولكن للأسف هذا الخطاب لا تَسْنُدُهُ أيُّ قوة لا اقتصادية ولا سياسية ولا عسكرية ولا ديبلوماسية، فمصر دولة غارقة في الديون؛ وتعيش على اقتصاد التسوُّل متمثِّلا في منح خارجية؛ ومساعداتِ وودائع دول الخليج، وانحصار الدبلوماسية المصرية بعد أن لم تعد القضية الفلسطينية هي قضية الساعة، وتقلص دور مصر في القضايا العربية والاقليمية الكبرى، وأزمة الشرعية التي يعاني منها الانقلاب، ومَيْل الكَفَّة السياسية والاقتصادية والعسكرية والديبلوماسية للمملكة العربية السعودية وتركيا.

لقد مشى هؤلاء الأميُّون المتطفلون على الإعلام، بأحذيتهم الـمُتَّسخة على كل ما أنجزَه الرُّواد الأوائل لمصر؛ ولصورة مصر؛ ولسمعة مصر؛ في الأدب والفكر والفن والإعلام والمسرح والسينما و... وصارت مصر اليوم محطَّ سُخرية؛ ومطيةً لكل من أن أرادَ أن يتندّر أو يتشفى أو يشمِت أو يستهزئ. بسبب هذا الإعلام الفاسد والفاشل والمأجـور...

 

الحسين بشوظ - كاتب من المغرب

في المثقف اليوم