قضايا

لماذا الدين .. ما هو الدِين؟

haytham alqaimحاجة الأنسان للدين هي حاجة عقلية / نفسية .. برزت كضرورة مُلحّـة عندما بدأ السلوك البشري يخرج من أطارهِ الغرائزي الى مساحة التساؤل .. حين انتقلَ الأنسان من مرحلة الأداء الغريزي للوظائف اليومية – الأكل / الجنس / النوم / الأمان / – الى مرحلة طرح الأسئلـة الوجودية والمعرفية مِن قبيل: مَن نحنُ ..؟ كيف جئنا للحياة ..؟ لماذا جئنا للحياة ..؟ ماهي السماء ..؟ ماذا وراء السماء ..؟ مَن يُعاقب المجرم ..؟ من يأخذ الحق من الظالم ..؟ كيف نرى أمواتنا أحياء في الأحلام ..؟ أين يذهب الموتى ..؟ لماذا نموت ..؟ كيف يحصل الرعد والبرق ..؟ كيف ينزل المطر ..؟ لماذا يحصل الفيضان ..؟ لماذا تحصل الزلازل ..؟ ... ألخ

 عندها اجتهد العقل البشري في أيجاد أجوبة لهذه التساؤلات كي يرتاح ويُسـكّن الـقلق والتوتّر والغموض والحيرة التي تـكـتنف حياتهُ ..!

يمكننا تصنيف هذه التساؤلات المُبرِّرة لوجود الدين في حياة الأنسان الى ثلاث حاجات أساسية:

1- الحاجة لـتفسير نشأة الكون والحياة ..!

 جال الأنسان القديم بـ نظرهِ الى الأعلى ثمّ الى نفسهِ .. أبتدأ ينظر للنجوم المتلألـئة في السماء، الشمس، القمر، الكواكب التي يمتدُّ اليها بصَرهُ .. ثم أستدار الى نفسهِ ونظر الى عائلتهِ وأشباهه من البشر، فاغراً فاه ليعرف الأجابات عن ماهية هذه المصابيح المعلّـقة في السماء .. ماهي هذه الكرة الكبيرة المُضيئة نهاراً .. وتساءلَ عن هويتهِ التكوينية .. وكيفَ وجـِدَ .. وأين سيذهب ..؟؟

2- الحاجة لـوضع منظومة قيمية للأنتصاف من الظُلم والظالم ..!

 عندما كان هذا الأنسان في حالة ضعف وقلّة حيلة في نيل حقوقه أو في دفع ظلم وقعَ عليه، وخصوصاً بعد أكتشاف الزراعة ونشوء المجتمعات المستقرة عند ضِفاف الأنهار وبدء النشاط الزراعي وتدجين الحيوانات، مما يعني بدايات تراكم – الثروات – عندهُ .. وتشابك العلاقة والمصلحة مع نظيره الأنسان الآخر .. كان يتسائل مع نفسهِ : هل من المعقول والانصاف ان يفلت المجرم أو الظالم مِن فعلتهُ دون عقاب ..؟ لابد لأحقاق الحق والعدل أن يكون هناك مَن يضمن لهُ الأنتصاف من ظالميه، وأذا لم يتحقق ذلك في الدنيا الحالية، فلابد من وجود طريقة أخرى لـتحقيقهِ فيما بعد، ولابد مِن وجود قوّة اكبر من الجميع تملك السطوة والمقدرة لتحقيق العدل ..!!

3- الحاجـة لـتفسير ما يحصل بعد الموت ..!

 هل سنذهب بعد الموت سُـدى وتتحلّل اجسادنا وينتهي كل شئ ..؟ هل يُعقل أن نرى أحبائنا اللذين دفناهم تحت التراب .. نراهم في المنام يضحكون ويتكلمون ويمشون واحياناً نمارس الجنس معهم ..؟ لم يتحمّل عقلهُ في حينها هذه المفارقـة ..! وهل سيفلت الظالمين من العِقاب، بعد أن عجزنا عن الأقتصاص منهم في الحياة الحالية ..؟ هل يستوي الأنسان الطيّب مع الأنسان الشرّير ..؟ وهل أفعالنا الخيّرة ستذهب هباءاً منثوراً بمجرّد موتنا ..؟؟

أذن أصبحت الحاجة مُلّـحة لـتبريد وتسكين هذه التساؤلات والهواجس والمخاوف .. ومن هنا نشأت بذور فكرة الأديان التي ربطت هذه الحاجات العقلية والنفسية بقوّة خارقة قادرة على كل شئ .. وقادرة على وضع الأمور في نصابها .. فكانت فكرة الآلـهة الجبارة والقادرة على فعل ما لم يستطعهُ البشر .. وبدأت بالآلهة المُتخصصة لكل نشاط أو ظاهرة أو حاجة، فاخترع العقل البشري حينها آلـهة متعددة كـآله الشمس / آلـه القمر / آله الزرع / آله الرعد والبرق / آله المطر / آله الخصب / آله الموت / آله الحياة / أله العدل / آله الماء .. ألخ ونسبوا لكل واحد منها مقدرة خارقة على التحكّم فيما يخصّها .. وبدأت معها فكرة بناء المعابد كـ مقرّات للعبادة والتقرّب للألـه الفلاني أو الفلاني .. وبدأت معها أيضاً موضوعة النذور والقرابين والأضحيات تقرّباً لكل آله كي يرضى عنهم ويُجنّبهم شرور الظواهر المؤذية لحياتهم، ويتعبّدون لهُ كي يُبعد عنهم شرور البشر ويحميهم وينتصف لهم مِن ظُلمهم ..! في هذه الصيرورة نشأت طبقة الكُهّـان والسَحَرة وممثلي الألهة، لأدارة المعابد وأستلام النذور والقرابين والأضاحي .. كوسطاء بين الأنسان والآله ..!

بعد ذلك تطوّر الأمر ليصبح هناك كبير الآلهة مع عدد من أتباعهِ الآلهة الصغار، مثل (مردوخ) عند البابليين و أيل) عند الكنعانيين و(آمون رع ) عند الفراعنة، و(زيوس) عند الأغريق .. ومن ثم تمَ توحيدها وجمعها بـ آلـه واحد على يد اليهود ألذين حوّلوا الآله (أيل) الكنعاني، الى أنهُ هو الآله الأكبر والوحيد .. وأسموه (أيل وهيم) .. وهي صيغة الجمع المُتاحة بالعبرية ..!

 من هنا أنطلقت فكرة التوحيد .. أي توحيد كل الآلهة الصغيرة والكبيرة بآله واحد يقوم بكل الفعاليات والحلول ويمتلك القدرة الكليّة على التحكّم بشؤون الحياة والكون .. وفي هذه اللحظة الفارقـة في تاريخ العقل البشري أتّـكأ الأنسان على هذا الأله الواحد، وأوكل لهُ الأجابة والأستجابة على كل التساؤلات والحاجات ..!

ما هو الدين..؟

الدين أيّ دين .. هو أعتقاد غيبي مُحدّد أو أعتقاد وجداني حصري ..!

 - أعتقاد غيبي:  بمعنى أنتَ (تؤمن) بدين دون أن تلمس مكوناتهِ أو عناصرهُ لمس اليد ..! لا يوجد شئ مادّي يمكّـنكَ أن تتحقق به من أن الدين حقيقة مرئية وملموسـة .. بل هو قناعـة مبنية على الغيب ..!

في سورة البقرة تقول الآيات من 1-5 : (الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5 ) ) .

 أذن هو أعتقاد مبني على الغيب .. وعليكَ أن تقتنع وتؤمن أن هذا الغيب صحيح ..!

 - الدين مُحدّد أو حصري: بمعنى أنّ المؤمن يرى أن دينهُ هو الحق وباقي الأديان ليست كذلك .. وهذا ينطبق على جميع الأديان في الكرة الأرضية .. جميعها ترى أن دينها هو الحق ..! (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أل عمران /64 ..! بالمناسبة لم ترد أطلاقاً في القرآن مفردة (الأديان) أي بصيغة الجمع ..! 

وينبني على  هذه الرؤية عدم الأعتراف بالأديان الأخرى أو في أحسن الأحوال التقليل من شأنها ..! وقد يتطوّر الأمر الى صراعات وحروب كما حصل تاريخياً فيما يُسمّى (حروب الرب) مع اليهود والآموريين وحروب الملك داوود .. ومع المسيحيين والمسلمين في (الحروب الصليبية)، ومع غزوات وحروب المسلمين مع غير المسلمين أيام نشر الدعوة الأسلامية وما تلاها ..!

انسحبَ هذا المبدأ، أي مبدأ (ديني أنا الحق) حتى على الطوائف والفرق ضمن الدين الواحد .. فالكاثوليك مثلاً يعتبرون أن البروتستانت منحرفين عن الدين المسيحي الأصلي .. والعكس أيضاً البروتستانت يعتبرون الكاثوليك محرّفين .. وحصلت حروب طاحنة بينهم فيما سُميّ بـ (حرب الثلاثين) في القرن السابع عشر ميلادي .. كذلك شيعة المسلمين يعتقدون أن عقيدتهم هي الدين الصحيح وأن عقيدة السُنـة منحرفة عن الدين .. والعكس ايضاً حين يعتقد السُـنّة أن عقيدة الشيعة مُنحرفة عن الدين الصحيح .. وحصلت بينهم أيضاً حروب وصراعات .. زُرعت بذورها تحت سقيفة بني ساعدة .. وتأجّجَت بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان .. وتجلّت البداية بـ (حرب الجمل) .. ولا تزال مُستمرّة ومُشتعلة منذ ذلك الزمن ولحد الآن .. تارة بشكل حروب وتارةً بشكل أنقسامات وضغينة وكراهية .. وتارةً بشكل مصالح ونفوذ ..! والجميع من السُـنة والشيعة لم يفوقوا بعد مِن هذا المُخـدّر القاتل .. ولم ينتبهوا الى أنهم يتصارعون على الماضي .. فيما شعوب العالم الآن تـتـصارع على المستقبل ..!!

 

هيثم القيّم

 

في المثقف اليوم