قضايا

الواقع العراقي والاصرار على تجربة الحكم الديني

ahmad radiتحت ظل تراكم التجارب الدينية في حكم المجتمعات المسلمة، وعدم انبثاق اي نموذج يشار اليه بالبنان باعتباره نموذجا يحاكي عظمة الاسلام وروح القرآن، ستظل (الحركات) الاحزاب الدينية الاسلامية تدور في دوامة الشعارات واحلام الماضي، وتتحرك بعيدا عن القيم والمبادي القرآنية والاسلامية الحقيقية. ان هذه الاحزاب والحركات الاسلامية تعتقد انها غيورة جدا على دين الله، وهي تسعى جاهدة لتطبيق شريعة الله بشتى الطرق، حتى لو كلفها ذلك احراق الشعوب في أتون الحروب. وشدة غيرتها هذه تجعلها فاقدة للرؤية والبوصلة في آن واحد، اذ انها تعتقد قطعا وجزما ان تطبيق شريعة الله هي في تطبيق حدوده وعقوباته؛ قبل ان تسعى الى خلق الحواضن والممهدات والاسس التي تعمل عمل التربة والبيئة عند زرع اي نبات جديد.

فهي تنسى ان اساس الرسالات واهدافها السامية هو تحقيق العدل، وهي تنسى كذلك ان العدل هو من اصول الدين، وتنسى ايضا ان الله عدل لا يحيف ولايظلم. ومن هنا فانها تقع في الخطأ والظلم في آن واحد؛ فهذه الاحزاب تخطأ في فهم المغزى الحقيقي للاسلام والرسالات التي تسعى الى تطبيق العدل، على ما في تطبيق العدل من تعقيد. وتظلم حين تسعى الى تطبيق الحدود والعقوبات والفرائض الاخرى، دون الالتفات الى خلق البيئة الحاضنة وسد حاجات المكلف المادية والمعنوية الاساسية.

ان العدل الالهي هو عدل بكل ما تعنيه كلمة عدل، اذ انه لا يطلب من المكلف شيئا ولا واجبا دون ان يقابله حق على الطرف الاخر. فقطع يد السارق يقابله ضمان كرامة المكلف وتوفير حاجاته وحاجات عياله المادية (الاكل والملجأ والملبس والدواء) والمعنوية (الامن والامان والسلامة والاستقرار الاجتماعي). وهكذا في كل الحدود والعقوبات والواجبات والفرائض.

وهذا يحصل فقط في مشروع الدولة المدنية؛ فقد توفر هذه الدولة احتياجات مواطنيها ماديا ومعنويا ثم تلزمتهم بقانونها وعقوباتها التي ارتئت انه الانسب في بيئتها وعصرها. ومن ثم تتفق على تطبيقه بعد ان يكون امرها شورى بين الاعضاء الممثلين للشعب بصورة مقبولة، وان لم تكن مثالية.

طموحات الاحزاب الاسلامية الى اعادة المجد المحمدي هي طموحات غير مشروعة لأسباب عديدة منها:

• عدم وجود الشخصية القيادية والربانية التي تتمتع بالمهارات القيادية الاساسية كالرؤية البعيدة والصحيحة والقدرة على التنبؤ والشجاعة الكافية والمرونة والتفاوض الخ، حتى على مستوى السيد الخميني وامثاله. وبالتالي فان ولاءات المجتمع ستتشتت هنا وهناك ولا يمكن توجيه طاقاته وارادته باتجاه رؤية القائد واهداف حركته.

• انعدام التحضير النفسي للقائد، ان وجد، واخذه الوقت الكافي للتأمل والانعكاس الذاتي بعيدا عن ضوضاء الحياة وصخبها، الذي من شأنه ان يشوش الرؤية ويسلب القدرة على ملاحظة ومراقبة تفاصيل المجتمع صغيرها وكبيرها. وهو ما كان يفعله النبي (ص) من خلال مراقبة الحركة حول الكعبة من غار حراء. اذ ان هذه الفترة، كما اظن انا ظنا،ساعدت النبي (ص) على توفير صورة واضحة صادقة مكتظة بالتفاصيل مفعمة بالاحداث مليئة بالوقائع. هذه الصورة الغنية ساهمت في توضيح حقيقة المجتمع القرشي بعد ان درسه النبي ص بكل امعان ودقة.

ولا اعتقد ان ايا من قادة اليوم قد تحصل ولو على شيءيسير من هذه الصورة الدقيقة لأسباب عديدة منها شحة الدراسات الاجتماعية والنفسية ذات البعد التحليلي للمجتمع العراقي وانشغال معظم القيادات الحالية طيلة ايام المعارضة بأمور جانبية وربما عدم اهتمام هذه القيادات بهذه الدراسات اصلا حتى ان وجدت.

• اختلاف الزمان والمكان مما يوجب اختلاف الاليات، ولكن الخطاب الديني المتخشب لا يعطي اهمية تذكر الى الابداع في الوسائل وابتكار الاليات الجديدة التي تتلاءم وثقافات وقيم المجتمع المعاصرة. اذ ان النبي (ص) جاء الى قريش وهو عالم بمجموعة القيم الاجتماعية التي يريد التخلص منها وكذلك بالقيم التي يريد الابقاء عليها خدمة لمشروعه التغيري. وبهذا فان قراءته الزمكانية آنذاك كانت قراءة ملائمة لعصره وواقعه.

• لم تأت الاحزاب الاسلامية الى المسرح السياسي العراقي برغبة الجماهير وانما اتت اليه بفرصة ساقتها الاحداث فركبت هذه الاحزاب تلك الموجة. ولهذا فان التفويض الاساسي لتطبيق احكام الشريعة غير موجود اصلا ولم تمنحه الجماهير لهذه الاحزاب. وربما يعترض  معترض عليّ بالقول ان هذه الاحزاب وصلت للحكم عن طريق الانتخابات. وهذا الاعتراض  وان صح الا ان الجماهير لم توصل هذه الاحزاب الى السلطة قناعة منها بمشروعها الديني الاسلامي التغييري كما اعطت جماهير المدينة محمدا ذلك التفويض. فقد كانت جماهير المدينة مطلعة وعن كثب بالمشروع النبوي وبتفاصيله وان لم تكن بالدقة المطلوبة. وبهذا فان تطبيق النبي لشريعته الاسلامية كان مدفوعا بالتفويض الشعبي شبه المطلق بعد ان وصل الى دفة الحكم.

كما ان الجماهير العراقية لم تكن متصلة ومتعايشة مع هذه الاحزاب وغير مطلعة على مشاريعها السياسية والمدنية. 

اعتقد جازما بان الجماهير العراقية  اعطت اصواتها للأحزابالدينية الاسلامية رغبة منها في ارجاع الحقوق المسلوبة وايقاف الاضطهاد المذهبي وتحقيق العدالة الاجتماعية وانشاء المشاريع التنموية الخ. ولذلك فان عمل هذه الاحزاب على تطبيق احكام الشريعة الاسلامية عمل غير مشروع بلحاظ الواقع العراقي.

• اخفاق معظم التجارب الدينية في الحكم اعطى انطباعا شبه حقيقي للمجتمعات والجماهير المسلمة بصعوبة تطبيق المشروع الاسلامي لأسباب عديدة منها: القراءات الناقصة للقرآن لمعظم الحركات الاسلامي، الاضطراب او عدم الاستقرار الذي يصاحب هذه الحكومات واقلها مثلا إيران، انتشار الفساد الاداري والمالي الاخلاقي في هذه الحكومات مما يسلبها انتمائها الحقيقي للمشروع الاسلامي.

• الانفتاح المعرفي والتواصلي والعولمة وثورة المعلومات جعلت من العالم قرية واحدة تعيش ثقافة متقاربة نوعا ما في المظاهر العامة. وهذا بدوره يجعل من الصعب تطبيق الافكار السياسية والدينية في مجتمع ما إذا كانت هذه الافكار تتعارض وجوهر الافكار العالمية السائدة، والتي اثبتت صالحيتها وفاعليتها وتوائمها مع المجتمعات الانسانية. وأعني بذلك حقوق الانسان وحرية التعبير وحرية المعتقد والفكر والحريات الاخرى. وهناك اسباب اخرى لا يتسع لها الحديث ربما نتعرض لها لاحقا.

وفي خضم هذا الارتباك الحركي المتواصل للحركات الاسلامية وضعف قدرتها على انتشال نفسها من وحل التيه الفكري يبقى اصرارها على رفع شعار الاسلام هو الحل او تطبيق احكام الشريعة الجريء تبقى هذه الاشياء كما يقول المثل الانكليزي: طعنات في ظلام الليل: إذا انها طعنات عمياء عشوائية في الهواء بلا هدف كـ (تشريع منع الخمر سيئ الصيت). ولا حل الا بمحاكاة الواقع والعمل على تطبيق الاسلام العملي من خلال سد حاجات المواطن في الارض لا من خلال فرض النظريات التي مازالت حبرا على ورق حتى يؤذن لها برؤية النور ذلك النور الذي لا يرى له شعاعا في الامد القريب.

إخفاقات الحركات الاسلامية في تحقيق أدنى مستويات الرفاهية لشعوبها دليل بارز على وجود خلل واضح وفجوة كبيرة في فهم هذه الحركات للتوجيهات القرآنية في حركة التغيير والاصلاح. وهو مؤشر على الضحالة المعرفية لهذه الحركات بمهماتها القرآنية المناطة بها والتي يجب عليها ان تتخذها بابا الى الوصول الى أهدافها. وكيف تصل الى هذه الاهداف دون دخول هذا الباب، باب الطاعة والاحتكام الى العقل والقبول بحكمه.

وتبقى هذه الاشكالات مستمرة متواصلة تلاحق النخبة الحاكمة التي اعتلت منصة الحكم بدون استحقاق مهاراتي وتفوق علمي يميزها كنخبة عن باقي المجتمع؛ اذ كيف تستحق الطبقة الحاكمة ان تحكم وهي ورعيتها سواء من ناحية الفكر والمعرفة والعلم والثقافة والرؤية.

واعتقد ان المرحلة القادمة هي مرحلة ممازجة الافكار الاسلامية مع الافكار الليبرالية التي تهتم بمنح الحرية الشخصية للفرد اذ ان بين هذين الفكرين مشتركات واضحة. ومن ثم السعي لمحاولة فك الاشتباك بين الدين والعلمانية من خلال ابراز الجانب المدني في الاحكام الاسلامية وتوضيح المنهج القرآني في الاعتراف بحق الانسان في اختيار معتقداته وافكاره ورفض مالا يحلو له من الامور الشخصية.

 

احمد راضي   

 

 

في المثقف اليوم