قضايا

قصة الديانة الفرعونية (3)

إيزيس: هذه الآلهة كانت - بحسب الأساطير المصرية - اخت وزوجة الاله اوزيريس في الوقت عينه، وهذا ما يفسّر ظاهرة زواج المحارم داخل العائلة المالكة الفرعونية، والتي كانت معتادة للحفاظ على نقاء الدم الملكي . كذلك تمتعت هذه الآلهة بقدرات سحرية خاصة وكبيرة، كانت مهمة في احياء روح زوجها اوزيريس، ومن ثمّ حملها منه بابنهما الاله حورس، الذي قاد معركة العرش ضد عمه ست، وانتصر عليه بمساعدة أمه إيزيس .

كما يبدو انّ أصل اسمها في اللغة المصرية القديمة (سيّدة العرش)، وهذا ما يشير اليه ايضا بحسب الظاهر التاج الشبيه بالعرش على رأسها . وقد رمز المصريون لها بامرأة ذات قرنين بينهما قرص الشمس، وهي رمزية عالية في الأدب الديني المصري القديم . لكنّ الملفت انها أخذت أيضاً اشكالاً مختلفة تمظهرت من خلالها حسب الاثار المصرية . أمّا الظاهرة الاغرب فهي انتشار عبادتها في الحضارتين اليونانية والرومانية، ومن خلالهما داخل القارّة الأوربية .

وقد كانت تتمتع بقوى (سخمت) و (سرقت) الخاصتين بالسحر والاحياء . وكانت أيضاً متحالفة مع الآلهة (نفتيس) زوجة ست، ويحرسون معاً أركان التوابيت، وهما من جمعتا اشلاء اوزيريس بعد قتله من قبل أخيه ست . وتمّ لاحقاً ربط الاله (أنوبيس) الذي له وجه الكلب بالآلهة إيزيس، وهذا الربط يحتاج الى تأمل في حقيقة دوره وماهيته، لأنّ هذا المظهر يُستخدم عادة للدلالة على الكائنات التي تتواصل مع الانسان من العالم الاخر لدى الجماعات الباطنية، وقد افترضت الأسطورة المصرية انّ أنوبيس ساعد إيزيس في العثور على اشلاء الاله اوزيريس .

ويبدو انّ الآلهة (إيزيس) مع زوجها - اللاموجود - الاله (اوزيريس) وولدها الخارق وصاحب المعجزات (حورس) - الذي حمل الصفة الإلهية صغيراً وولد من أب من عالم اخر - هما الأساس في الثالوث المسيحي الروماني واقانيمه، والذي شقّ عصا المسيحية في العالم، بسبب اصرار روما على تقنينه، رغماً على إرادة مهد المسيحية في الشرق ! . فكلّ الأيقونات المسيحية لمريم العذراء وهي ترضع المسيح ما هي الا نسخة مطابقة لايقونات إيزيس وهي ترضع ابنها حورس، والتي تركها الفنّان المصري القديم . وكذلك لازال لايزيس مجموعة من التماثيل المهمة في العالم المعاصر، منها تمثال روماني في معرض بيوكليمنتينو في الفاتيكان .

العصا السحرية

وهي عادة مصنوعة من العاج، ويوجد في احدى جهتيها صوراً لمَرَدة ومخلوقات غريبة تمثّل الآلهة، وفي الجهة الاخرى كتابات هي اقرب للتمائم . ويصل طولها الى خمسين سنتمتراً، تكون هلالية تقريباً . وقد وجد انّ أكثرها يعود لعصر الدولة الوسطى . وهي بذلك تذكّرنا بالصولجان الملكي الذي يحمله الفرعون، حتى انّ الاله اوزيريس كان يُمثِّل بالصولجان، الذي يحمل صفة (سخم) او (القوة) . وكان يحفظ في محراب المعبد بصولجان عظيم، وكان الاحتفال به يتم من خلال استعراض مهيب، حيث يحمل الصولجان رأس ذهبي لانسان .. ومازالت بعض الجماعات العالمية السرية تستخدم الصولجان اثناء اجتماعاتها الاحتفالية كالحركة الماسونية .

ومن الواضح انّ هذه العصا كانت تختزن السرّ المادي الرابط بين العالمين الطبيعي والماورائي، رغم انها كانت تحتاج الى طقس شفهي مرافق . وهي ليست تُقاس على رؤيتنا المعاصرة عن بدائية ذلك المجتمع، بل يجب ان نفتح افقاً جديداً للتفكير في كنهها . وهنا ربما يساعدنا الطرح القراني في معرفة بعض ابعادها، حيث الارتباط بالعالم الاخر تسبقه مرحلة الاهتزاز . ومن تلك الآيات القرانية (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّۭ وَلَّىٰ مُدْبِرًۭا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَٰمُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّى لَا يَخَافُ لَدَىَّ ٱلْمُرْسَلُونَ [الجزء: ١٩ | النمل (٢٧)| الآية: ١٠]) و (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّۭ وَلَّىٰ مُدْبِرًۭا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَٰمُوسَىٰٓ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلْءَامِنِينَ [الجزء: ٢٠ | القصص (٢٨)| الآية: ٣١])، ونرى انّ القاعدة الأساس للتعامل بهذه العصا هي (عدم الخوف)، وبالتالي يمكن ان نفهم ارتباط ذلك بما يعيشه الانسان من طاقة سلبية او إيجابية . كما كان لهذه العصا استخدامات اخرى ( وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًۭا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍۢ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا۟ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ٦٠]) و (فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍۢ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ [الجزء: ١٩ | الشعراء (٢٦)| الآية: ٦٣]) و (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌۭ مُّبِينٌۭ [الجزء: ١٩ | الشعراء (٢٦)| الآية: ٣٢]) و (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الجزء: ١٩ | الشعراء (٢٦)| الآية: ٤٥]) . رغم انّ الآيات القرانية كانت تتحدث عن عصا موسى التي هي من عالم اخر غير عالم الفراعنة إِلَّا انها تكشف حقيقة وجود هذه والغاية منها في المجتمع الفرعوني .

والخلاصة انّ العقيدة الدينية المصرية عند اكتمال ملامحها امتزجت بالسحر حد التطابق، وانّ الكهنة كانت وظيفتهم تقوم على استدعاء الكائنات الخارقة القوى من العالم الاخر، فيما يقوم نظام حماية الموتى السحري على استنقاذ الأرواح من الشباك المنصوبة ليصدها بين السماء والأرض، ولا يبدو واضحاً ماهية هذه الشباك، إِلَّا انها ليست بالمعنى البشري الاعتيادي لشبكات الصيد، لكنّها ربما ترتبط بمفهوم شبكات الطاقة في الفيزياء . وتضمنت فصول من كتاب (الموتى) المصرية نصوصاً خاصة لاستنقاذ ارواح الأموات من تلك الشباك، ونحن نعلم انّ العقيدة المصرية ترتبط كثيراً وتركَّز على الموتى وعالمهم .

وبالتالي فإ انتقال الديانة المصرية ومعبوداتها يستلزم انتقال طقوسها وسحرها جميعاً الى الشعوب المستوردة، ومن ثمّ يتم تطويرها، لإنتاج منظومة سحرية دينية معقدة، يحاول اتباعها الدفاع عنها وحمايتها كأيّ دين يقوم اتباعه بالدفاع عنه، لكن مع خطورة الوسائل المستخدمة من قبل الديانات الوثنية السحرية على النحوين الطبيعي والماورائي .

لذلك رأينا ظاهرة خطيرة وكبيرة تفشّت في المجتمعات المصرية واليونانية والرومانية واليهودية - بعد الاستعباد - تمثّلت في انتشار التمائم واللوحات والتعاويذ السحرية المؤذية والحامية . ومن هذه الظواهر كانت (لوحات حورس)، التي كانت صغيرة الحجم ومزوّدة بحمّالة، تحمل صورة للاله حورس، وقد كانت متداولة شعبيا، لا سيما منذ الاسرة التاسعة عشر . وهناك أيضاً تماثيل (أمنحوتب بن حابو)، التي كانت توضع في المعابد وتمارس عندها الشعائر، كما كان الناس يقرأون أمامها صيغ التمنّي، للتبرك والشفاء والحاجات . وهناك أيضاً تمثال (چد حور)، في عصر البطالمة اليونان، الذي كان يغطّى بالكتابات السحرية، ومن ثمّ يسكب الماء عليه، لينزل للحوض الاول ومن ثمّ الحوض الثاني، ليتمّ استخدام هذا الماء من قبل الناس، وهذا شبيه بما يُعمل مع لوحات حورس السحرية كما يُنقل .

انّ هذا الانتشار الخطير أنتج في تلك الازمان شبكة من الظواهر الغريبة والتأثيرات النفسية والعقائدية التي لعبت دوراً كبيراً في تفشي ممارسات تعتمد على تأثير السحرة ومعبوداتهم، كما انّ اعتمادها في عدة شعوب ودول مثل مصر واليونان والرومان وكهنة اليهود دليل على الحاجة آنذاك لمنفذ يوقف هذه السلسة، وبالتالي يحلّ الشبكة الغريبة، فكان ظهور النبي سليمان وقدراته أمراً منطقيا . (فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًۭا وَعِلْمًۭا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ [الجزء: ١٧ | الأنبياء (٢١)| الآية: ٧٩])، (وَوَرِثَ سُلَيْمَٰنُ دَاوُۥدَ وَقَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ [الجزء: ١٩ | النمل (٢٧)| الآية: ١٦])، (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [الجزء: ١٩ | النمل (٢٧)| الآية: ١٧])، (وَلِسُلَيْمَٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌۭ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌۭ وَأَسَلْنَا لَهُۥ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِۦ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ [الجزء: ٢٢ | سبأ (٣٤)| الآية: ١٢]) .

ولمعرفة مدى انتشار هذه الممارسات وعقيدتها نقرأ النص القراني (وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتْلُوا۟ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَٰنَ  وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُوا۟ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌۭ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِۦ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا۟ لَمَنِ ٱشْتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنْ خَلَٰقٍۢ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا۟ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمْ ۚلَوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ١٠٢]) .

الاهرامات

في مقابر الملكية القديمة كانت الاجساد تدفن في غرف مركزية تحت البناء، تحيط بها غرف اصغر . لكن في عهد الاسرة الثالثة حدثت انتقالة غريبة لطريقة بناء المقابر الملكية، حيث استحدث في زمن (زوسر) بناء الهرم المدرّج، حيث كان عبارة عن مقبرة حجرية تعلوها خمسة مصاطب، تتناقص في حجمها كلّما ارتفعت نحو الأعلى . وفي الاسرة الرابعة تمّ بناء الهرم الكامل، حيث الارض مربعة والجوانب مسطحة والقمة مدببة . يُضاف في اعلى الهرم هريم صغير، يحتوي رسومات لإله الشمس، كما كانت هذه الرسومات موجودة في لوحات فضية في وسط الهرم . ويتحدث الكثير من الخبراء انّ الاهرامات تضمنت هندسة عالية في إنشائها، كما انها تحاول محاكاة الحركة الفلكية للأجرام السماوية . ويبدو انّ ذلك كان مرتبطاً بالهدف من أقامتها، حيث لا يمكن استساغة اقتصار وجودها كمقبرة فقط، لما تمّ إنفاقه عليها من جهد ووقت وثروة، كما انّ الشعب المصري لن يكون بهذا العزم في البناء لمجرّد رغبة ملكية في الدفن، بل انّ الشعوب عادة تشارك بعزيمة فيما يرتبط بعقيدتها فقط . ومن هنا ربما كان حديث النص القراني عن رغبة فرعون في معرفة خصائص اله موسى النبي ملمّحا اليها (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّى صَرْحًۭا لَّعَلِّىٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ [الجزء: ٢٠ | القصص (٢٨)| الآية: ٣٨]) و (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰهَٰمَٰنُ ٱبْنِ لِى صَرْحًۭا لَّعَلِّىٓ أَبْلُغُ ٱلْأَسْبَٰبَ [الجزء: ٢٤ | غافر (٤٠)| الآية: ٣٦]) . وحديث فرعون هنا لم يكن ساذجاً فقيراً، بل كان يريد الاعتماد على ذات الاليات التي يتواصل خلالها مع آلهة عالم الشياطين، فهو كان متسائلاً فعلاً، لكنّ غروره واستكباره جعلاه يرى طريقاً واحداً للمعرفة .

يُرجع (تشيرني) هذا التغيّر نحو البناء الهرمي الى انتصار عقيدة الشمس الهليوبوليسية، وهذا ما يتناسب مع ما بيّناه من صراع عقائدي سابق بين حضارتين مختلفتين . حيث يتم في هليوبوليس تقديس (البنين)، وهو هرم مخروطي يرتبط بآلهة الشمس . فيما يرى رئيس المجلس الأعلى للآثار في مصر (زاهي حواس) انّ هناك سبباً آخراً لبناء الاهرامات غير الغرض السابق - من حيث موافقة مخروط هليوبوليس - وهو القدرة الخاصة التي يتمتع بها الشكل الهرمي في حفظ الأشياء، تحت تأثيرات فيزيائية خاصة .

وارتفاعات الأهرام مختلفة، فهناك الصغيرة، فيما هرم زوسر يصل الى ٤٣ متراً، بينما هرم خوفو الكبير يصل الى ١٤٦ متراً . ويبلغ عدد الاهرامات في مصر نحو ١١٩ هرما . لكن الغريب انّ هناك اهرامات مشابهة في عدة أقاليم خارج مصر، ففي المكسيك وفي أمريكا اللاتينية وفي اسيا هناك العديد منها، واليوم هناك أهرام اخرى معاصرة تحت عناوين تمويهية كثيرة، كالهرم في لاس فيغاس الامريكية . ولذلك فإنّ القول بكونها مجرّد مقابر للملوك المصريين حديث ساذج، وربما يستهدف عن عمد تضييع حقيقة وجودها، فهي صروح عالمية، وجدت في حضارات مختلفة متقاربة زمانية ومتباعدة حد الانقطاع مكانيا، مما يلزمنا بأنها بنيت لغايات ترتبط بقضية التواصل مع الآلهة، وما يعضد هذا الاعتقاد انّ الكهنة كانوا يتعبدون عند قمتها او في داخلها او الى جوارها .

لقد كان الكهنة القائمون على طقوس الاهرامات قسمين، احدهما (خدم الآلهة)، والقسم الثاني هم (وعب) بمعنى المتطهّر . انّ المتطهّرين فئة من الكهنة ظهرت ضمن ديانة هليوبوليس، ولهم طقوس خاصة بهم، انتقلوا لأدائها في أنحاء مصر، وقد ارتبطوا - كما ارتبطت ديانة هليوبوليس - باله الشمس (رع) . وقد اشرت سابقاً انّ رمزية الشمس او القمر كانت - حسب قرائتي للآثار المصرية المنشورة - تشير الى العالم السماوي او الفضاء .ومعبد الشمس في ابو صير في هليوبوليس يشكّل صورة جليَّة لفكرة الأجسام الهرمية والمخروطية، مما يعني نشئة هذه العقيدة على أسس هندسية باطنية .

ومن خلال الاطّلاع على احتفالية تأسيس معبد للآلهة نستطيع معرفة انّ هذه الديانة ترتكز الى أسس غير بشرية، حيث يسير الملك يتبعه كبير الكهنة وكاتب الأسرار المقدسة تعاونه الآلهة (سشات) لتحديد ابعاد المعبد، والتي تعتمد على الرؤية الفلكية في الليلة السابقة، عبر تحديد المحور القصير للمعبد من الشمال للجنوب بالاعتماد على مجموعتي الدب القطبي (الاوريون) او كوكب الجوزاء، فيما يرش الملك الأركان بالماء من انائين يحملان رسومات سماوية .

وظلّت قدسية واهمية هذه الاهرامات قائمة حتى ظهور الاسرة الثامنة عشر، حيث توّقف بناء المقابر الملكية على هذه الهيئة، وتحوّل ملوك هذه الاسرة للدفن في وادي الملوك، وكان الى جانبه وادي الملكات أيضاً . وهذا التوقف يبدو غريباً للوهلة الاولى، لكننا حين نقرأ تاريخ تلك الفترة بالتحديد سنحدد الأسباب الواقعية لهذا التغيّر المفاجئ . ومن اهم ملامح تلك الفترة كان ظهور الهكسوس كحكّام جدد لمصر .

الملأ والعامّة

ليس كل بلاد مصر كانت تدين بعقيدة الفراعنة، كما انّ ليس كل بلاد الرومان كانت تدين بعبادة الإمبراطور، لكنهما كانا يخضعان للفراعنة والأباطرة . انّ الحديث عن الديانة الرسمية لبلد ما لا يعني وصم كل الشعوب القاطنة هناك بما فيها . ففي مصر وفي اليونان وبلاد الرومان كانت هناك ديانة رسمية، وعقلية حكومية، ضمن مجموعة من الاعتقادات الكبرى المحيطة .

لذلك حين يريد القران الكريم الحديث عن الجهة التي آذت موسى وبني اسرائيل لم يكن يعمّم الإشارة الى بلاد مصر، بل كان يختصّ بالفرعون وملأه، اي من الساسة والعسكر، [ وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوٓءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ  وَفِى ذَٰلِكُم بَلَآءٌۭ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌۭ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ٤٩]، [ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ٥٠]، [ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٣٠]، [ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنۢ بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِۦ فَظَلَمُوا۟ بِهَا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٠٣] .

اما اذا أراد الإشارة الى البلاد دون القضية السياسية او الدينية فكان يعبّر عنها بمصر فقط، [ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًۭا وَٱجْعَلُوا۟ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةًۭ وَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ  وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ [الجزء: ١١ | يونس (١٠)| الآية: ٨٧]، [ وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍۢ وَٰحِدٍۢ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلْأَرْضُ مِنۢ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا  قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَى بِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُوا۟ مِصْرًۭا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ  وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ  ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا۟ يَكْفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّۦنَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ  ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ يَعْتَدُونَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ٦١]، [ وَقَالَ ٱلَّذِى ٱشْتَرَىٰهُ مِن مِّصْرَ لِٱمْرَأَتِهِۦٓ أَكْرِمِى مَثْوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًۭا وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ  وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمْرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الجزء: ١٢ | يوسف (١٢)| الآية: ٢١] .

ومن هنا يمكننا القول انّ البحث في الديانة الفرعونية لا يعني اننا نبحث في الديانة المصرية، فالعلاقة بينهما كالعلاقة بين ديانات الكبّاليين والديانة اليهودية او الإبراهيمية . ولا يشير الكتاب الى كون مصر هي أمّ لشرور الارض، بل على العكس كانت مصر من اوّل البلدان التي انتشرت فيها المسيحية الموحّدة، والتي قاومت مختلف الضغوط الوثنية . لذلك هناك مصر اخرى، غير مصر الفرعونية، هي التي قصدها يوسف النبي [ فَلَمَّا دَخَلُوا۟ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ٱدْخُلُوا۟ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ [الجزء: ١٣ | يوسف (١٢)| الآية: ٩٩] .

الهكسوس

عرفهم المصريون باسم (منيوساتي) اي رعاة اسيا، وكذلك باسم (شاسو) اي البدو، ويبدو انّ الاسمين كانا يخضعان للطريقة التي يريدون من خلالها توصيفهم . فيما سمَّاهم اليونانيون (الهكسوس) اي الملوك الرعاة، وبين الاسمين يبدو الفرق واضحا، حيث تخضع التسميات للاسقاطات النفسية .

انّ الهكسوس - الذين اطلق عليهم العرب اسم العمالقة - كانوا خليطاً من العموريين (الأموريين) والكنعانيين، وكانوا على الأرجح تحالفاً عسكرياً، تربط بين شعبيه الأواصر العراقية الأصل، لكنهما كانا ربما يختلفان في العقيدة، ففي حين كان العموريون موحدين كان الكنعانيون - حسب بعض المصادر - يتخذون آلهة .

وكما هو واضح من آثارهم كان العموريون يعبدون (ايل)، الذي فهمه الباحثون الغربيون - كعادة فهمهم القائم على فكرة مسبقة - على انه اله (صنمي)، فيما هو لم يكن سوى لفظ قديم للاله الواحد (الله) . ولا نحتاج في إثبات ذلك الى جهد وعناء كثير، حيث لازالت الأسماء الواردة في النصوص الإبراهيمية تحمل - الحاقاً - هذه المفردة، في اسماء مثل (اسرائيل) و(ميكائيل) و(عزرائيل) و (إسرافيل) و (جبرائيل)، الذين هم من خلق الله الصالحين من بشر وملائكة، والمقدّسين في العقيدة الإبراهيمية التوحيدية . وقد ورد في اسماء ملوك الهكسوس العموريين الملك (يعقوب ايل)، وكما هو واضح فقد جمع بين نتيجتين يفيدان كدلائل لما نريد، حيث الاسم (يعقوب) الذي هو من اسماء العراقيين القدماء في الفترة الإبراهيمية، وكذلك لفظ (ايل) الدالّ على الاله الواحد . وقد ورد أيضاً في كتاب مفاتيح الجنان الذي ينقل الادعية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ما نصّه في دعاء السمات (وبمجدك الذي تجلّيتَ به لموسى كليمك عليه السلام في طور سيناء، ولابراهيم عليه السلام خليلك من قبل في مسجد الخيف، ولاسحاق صفيّك عليه السلام في بئر شيع، وليعقوب نبيّك عليه السلام في بيت ايل) . وقد ورد أيضاً في حضارة مدينة (سمأل) كاله للآراميين أيضاً، مما يدلّ على انتشار هذه العقيدة الإبراهيمية بين العراقيين بقوة، وهو ما سيكون الطرف الاخر في صراع الحضارتين، ومنه نعرف سبب الهستيريا التي اصابت الجيش الفرعوني وجعلته يلاحق الهكسوس حتى حدود العراق، رغم انّ هذا الجيش لم يسبق له فعل ذلك .

والعموريون هم الذين اسسوا حضارات (ماري) و (عمورو) في سوريا، وهم ذاتهم من أسس الامبراطورية البابلية القديمة . وقد وقعت دويلاتهم السابقة في سوريا تحت حكم الملك سرجون الاكدي، الا انهم أقاموا الحضارة البابلية بعد انهيار السلالة الاكدية، وهذا ما يجعلنا نرفض توصيف بعض المؤرخين القدماء وبعض الباحثين المعاصرين لحضارة الهكسوس بأنها بدوية، فهم قد أقاموا عدة حضارات قبل قيام دولتهم في مصر، كما انهم من ادخل الصناعة التعدينية والفنون والآداب والعربة والفنون الحربية الى مصر، حيث هال المصريين رؤية تلك العربات الحربية التي لم يشاهدوها سابقا، وبسبب العربات هذه ذاتها تمكّن المصريون لاحقاً من انشاء اول امبراطورية لهم .

وقد انتقل الهكسوس الى مصر في بداية الامر على شكل موجات مهاجرة بصورة طبيعية، ثمّ استغلوا الصراع بين مصر السفلى (الدلتا) وبين مصر العليا (الصعيد) فاحتلوا الدلتا وأقاموا هناك دولتهم . الا انّ الفراعنة ظلوا يحكمون الصعيد وعاصمته طيبة، ومن هناك بدأوا حربهم ضد الهكسوس، لأسباب دينية كما يبدو من قساوة الصراع، وكذلك من خلال ما تركه المصريون وشركائهم اليونانيون من توصيف سيّء للهكسوس .

وقد رأى بعض الباحثين انّ هجرة النبي التوحيدي الكبير (ابراهيم) الى مصر كانت خلال حكم الاسرة الفرعونية الثانية عشر، لتقاربها مع زمن حكم الهكسوس لمصر، حيث اعتقد الباحثون انها حكمت في حدود ١٨٩٧ الى ١٨٤٠، فيما حكم الهكسوس منذ ١٧٨٥ الى ١٥٨٠ . لكننا نرفض ذلك مطلقاً، حيث هو مخالف للمنطق التاريخي للحدث، كما انه لا يقوم على أسس اثرية دقيقة . من هنا ارى انّ هجرة ابراهيم كانت في ظلّ اول ملوك الهكسوس، وهي فترة متقاربة جدا مع التاريخ الذي يراه معظم الباحثين . كما انّ ظهور أبناء يعقوب في مصر، واعزازهم، ومن ثمّ استعبادهم بعد انهيار الهكسوس من قبل الاسرة الفرعونية الثامنة عشر يكشف عن منطقية رأينا . ويمكننا ملاحظة انّ مؤرخين اخرين لهم تواريخ غير التي رآها غيرهم، فمثلا (ماسبيرو) في كتابه (تاريخ المشرق)  يرى انّ احتلال الهكسوس لمصر كان في حدود ٢٣٠٠ ق م، فيما خروجهم كان بين ١٧٠٠ الى ١٦٥٠، ويرى انهم حكموا اكثر من خمسة قرون .

حكم الهكسوس مصر قروناً عديدة، وخلالها استقبلوا موجات من المهاجرين الساميين العراقيين والسوريين، ومن أولئك المهاجرين كان بنو اسرائيل احفاد نبي الله ابراهيم، حيث أكرمهم الهكسوس - لاعتبارات دينية واجتماعية - ومنحوهم بعض الاراضي الخصبة . وقد وصل (يوسف) حفيد ابراهيم الى منصب نائب الملك الهكسوسي .

ومن لطيف التعبير القراني لتمييز هذه الفترة من تاريخ مصر عن الفترة الفرعونية السابقة والفترة الفرعونية اللاحقة انه لم يذكر لفظ (الفرعون) كلقب للحكام، بل استخدم لفظ (الملك)، بما يتناسب والطريقة العراقية في الحكم . حيث اراد ان يثبت حقيقة الاختلاف بين الحضارتين، {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }يوسف43، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }يوسف50، {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ }يوسف72 .

وصل يوسف الى مصر عبر احدى القوافل ليُباع هناك، فاشتراه عزيز مصر، وحدث له مع امرأة العزيز ما حدث، وشهد شاهد من اهلها بان يوسف مفترى عليه، لكنهم رأوا ان يسجنوه، فاظهر صنوف العفة والصبر، وكان سببا لصلاح السجناء الذين خالطوه عندما سجنه العزيز . وكان ان رأى الحاكم رؤيا افزعته، لم يفسرها بصورة مقنعة الّا يوسف، فارسل الحاكم من يأتيه بيوسف، وهو لم يزل في السجن، فاصرّ يوسف على التحقيق لاظهار برائته، وفعلا اثبت الله تعالى لهم براءة يوسف من كل التهم، فاثار ذلك اعجاب الحاكم واختص يوسفَ لنفسه، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ }يوسف54 . ان المجتمع الفرعوني السابق على الهكسوس – أي من المصريين – كان يؤمن بزواج المحارم، لذلك هو لم يكن ليتأثر بعفة يوسف، وكذلك كان المجتمع المصري الفرعوني يعتمد كليا على نبوءات السحرة عبر شريعة (الكابالا)، فهو لن يقتنع بتأويلات يوسف، وهو ايضا مجتمع هرمي عائلي لا يسمح بدخول عناصر غريبة الى السلطة، ولم يكن يوسف حينها سيستطيع ان يكون عزيز مصر . لكن الله جل وعلا مهّد لبني اسرائيل دخول مصر عبر الغزو (الهكسوسي) . فقد آمن احد ملوكهم السابقين بابراهيم، وأهداه الصالحة (هاجر)، لتكون امّاً لابنه النبي (اسماعيل)، ومن ثم آمن احد آخر ملوكهم بيوسف ويعقوب . وقد كان ملوك الهكسوس بين الملكين في صراع طويل مع كهنة الديانة الفرعونية المصرية (الكابالا)، ومع معتنقيها من عامة الشعب المصري، وكذلك كانوا في حرب دائمة مع السلالات الفرعونية في الجنوب . وقد تحالف الهكسوس مع ملوك (النوبة)، ضد الفراعنة .

وقد اعتقد المؤرخ المصري (مانيتون) ان الانبياء ابراهيم ويعقوب ويوسف هم من نفس عنصر الهكسوس، وهو الصحيح لانهم جميعا عراقيون ساميون في الاصل .

ثمّ بعد ذلك انهار الهكسوس امام الفرعون المصري (احمس) مؤسس السلالة الثامنة عشر، والذي طاردهم حتى بلاد الشام، حيث قضى عليهم في معركة (مجدّو) الفاصلة في حدود عام ١٤٧٩ ق م .

وبدأ الفراعنة حينها مرحلة استبداد واستعباد للعنصر السامي، الذي كان ممثّلاً ببني اسرائيل في الغالب، حيث هم ذرية الأنبياء، والتي تكون مناسبة جداً للمرحلة الاولى في إبادة الأديان التوحيدية الإبراهيمية المخالفة للديانة المشفّرة الباطنية الفرعونية . فصاروا يذبّحون ابنائهم ويستحيون نسائهم، واستخدموهم في الاعمال الشاقّة، واتخذوا منهم لاعمال السخرة ونظام العبودية، في مرحلة ثانية لكسر النفس التوحيدية السامية، ومن ثمّ إبهارها بالمادية الفرعونية .

لذلك استخدم القران الكريم في هذه المرحلة - التي ترافق قصة موسى النبي - لفظ (الفرعون) للتعبير عن حكّام مصر، [ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنۢ بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِۦ فَظَلَمُوا۟ بِهَا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٠٣]، [ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنۢ بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَٰرُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِۦ بِـَٔايَٰتِنَا فَٱسْتَكْبَرُوا۟ وَكَانُوا۟ قَوْمًۭا مُّجْرِمِينَ [الجزء: ١١ | يونس (١٠)| الآية: ٧٥]، [ فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٌۭ مِّن قَوْمِهِۦ عَلَىٰ خَوْفٍۢ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ [الجزء: ١١ | يونس (١٠)| الآية: ٨٣] .

ورغم انّ الاسرة الطيبية الفرعونية التي قاتلت الهكسوس هي السابعة عشر الا انّ الاسرة التي تولت الحكم تماما بعد خروج الهكسوس هي الثامنة عشر التي أسسها (تحوتمس) . و المثير ان يختفي البناء الهرمي في هذه المرحلة، وهو عصر الاسرة الثامنة عشر، كما انّ احد ملوك هذه الاسرة ترك عبادة الفراعنة وتوَّجه لدين توحيدي هجين، والالتزام باله واحد، هو اله الشمس (اتون)، وأطلق على نفسه لقب (اخناتون) . وهذا يكشف عن مدى الأثر العقائدي والفكري الذي تركه الساميون الهكسوس ومن رافقهم من الأنبياء والمفكرين، رغم خروجهم مهزومين عسكريا .

لكن عاد كهنة الديانة المصرية القديمة للثورة على ديانة اخناتون، وحرّكوا الجمهور والقادة، لتعود الديانة الامونية المصرية القديمة رغما على خلفاء اخناتون . الا انّ مصر لم تستقر فكريا او عقائديا بعد ذلك، رغم قيام اول امبراطورية في تاريخ مصر .

الا انّ المصريين من الفراعنة في الاسرة الثامنة عشر الذين أبادوا كل الذي وجدوا من اثر للهكسوس أبقوا على المعابد الوثنية لبعض الساميين في منف وفي حيّ (الحيثيين)، بل انهم اعتبروا الآلهة الوثنية الكنعانية (عشتارت) ابنة للاله (بتاح)، فيما قرروا انّ (عنات) من بنات الاله الكبير لديهم (رع) . وذلك يكشف بوضوح عن حقيقة الصراع الذي دار بين الفراعنة وبين الهكسوس، حيث هو صراع ديني، بين عقيدة التوحيد والعقيدة الوثنية الشيطانية، الى جانب كونه صراعاً حضاريا، خصوصاً انّ المصريين أبقوا على كل المعابد الوثنية في سوريا بعد احتلالها حين طاردوا الهكسوس، بل انهم قد احترموا تلك الآلهة وقدّسوها كجزء من منظومة الآلهة المصرية ! . ومن الغريب ان نرى ملكا منتصراً منتقماً هو (رمسيس الثاني) يسمّي ابنته باسم آلهة العدو !، حيث اطلق عليه (ابنة عنات) .

ويبدو واضحاً من الشغف الذي عاشه الامير (خع ام واست) ابن الفرعون الشهير (رعمسيس الثاني) اهم ملوك الاسرة الثامنة عشر التي طاردت الهكسوس وارادت ابادتهم انّ البعد الديني لدى هذه الاسرة الفرعونية المنتصرة كان مركزياً وحاكماً على ما سواه . فهذا الامير الذي اشتهر بعلمه الغزير بالديانة المصرية القديمة قد أعاد ترميم اغلب اثار الاجداد من الفراعنة القدماء . فيما كان الأخ الذي خلف (خع ام واست) في ولاية العهد وهو الامير (ومرنبتاح) قد وصل الى مرتبة (الكاهن الأعظم) للاله (بتاح)، وكان يقوم على طقوس الاله العجل (أبيس) .

 

في المثقف اليوم