قضايا

أصل الأكراد وحقيقة الإنتماء الآري والسامي ..

ali thwayniإن تقسيم الأجناس واللّغات إلى سامية وحامية ويافثية جاء عند (الكلبي) في التراث الإسلامي، بحسب قصة النبي نوح التي فصلت في التوراة، وقد أنتبه إبن حزم الأندلسي التشابه بين العربية والسريانية والعبرية، وقال بأنهم من أصل مشترك. وفي الأزمنة الحديثة ظهر التصانيف الأقوامية أول مرة عام 1781م، في دراسات المستشرقين وإستعّملها الهنغاري اليهودي أوفست لودويك شلوتزر Schlozer عند حديثه عن اللّغة الأكدية ذاكرا: (من المتوسط إلى الفرات، ومن بلاد الرافدين إلى شبه الجزيرة العّربية تسود، كما هو معروف لغّة واحدة. وعليه فالسومريون والبابليون والعبريون والعرب كانوا أمة واحدة. والفينيقيون والحاميون أيضا يتكلمون بهذه اللّغة التي أود أن أسميها "سامية") (*) . وقد استند الرجل في تسميته هذه إلى الفصل العاشر من سفر التكوين في التوراة (العهد القديم) التي كانت مرجعا لجل الدراسات التأريخية (الإسرائيليات) والأجناسية واللاهوتية. والتسمية وردت نسبة إلى (شـِم) وهو سام بن نوح حيث جاء في سفر التكوين اخر الإصحاح السادس (وولد لنوح ثلاثة بنين ساما وحاما ويافث) . وبذلك فأن الأمر جاء محض إصطّلاح لغوي، ولم ينطوي على أي فرز عنصري كما يذهب إليه الصهاينة اليوم في أحجية (معاداة السامية) المثيرة للجدل، أو قوميونا من عرب وأكراد للتمييز عن سواهم الناطقين بلغّة أُخّرى.

وكلمة (سام) أكديه، ومعناها: (أسم) . وقد ولد بحسب دعاوى التوراة حين كان عمر نوح خمسمائة سنة، وكان متزوجاً وقت الطوفان، لكن لم يكن له أولاد وقتئذ . وبسبب تغطية عري أبيه مع أخيه يافث بعد الطوفان نال بركة وقدسية، وأن عبادة الله ستستمر في نسله. وقد ولد ابنه الأكبر (أرفكشاد) حين كان عمره مائة سنة، ثم رزق بأولاد وبنات في السنوات الخمسمائة التي تلت ذلك حتى موته. وأسم نوح العربي ورد في ملحمة گلگامش بصيغته السومرية أي (أوتمبشتم) وتصحيحها (أوتا نابا شت يم) ومعناها ملتبس بحسب تفسير البعض (عطاء نبي ماء الشتاء) . ونفس الأسم ورد عند البابليين بصيغة (ذيوسوترا)، اي صاحب السطور وكتاب الوحي، التي تحولت إلى (أسطورة) وHistoria أي تاريخ.

لقد ظهرت مجموعة من النظريات ترجح أصول الشعوب "السامية" بحسب لغاتهم، إقتداءا بالفكر القومي الألماني كون اللّغة تعني صفاء العرق، وأرجعت الساميين إلى الجزيرة العربية تارة أو المغرب العربي أو العراق أو شمال سوريا أو فلسطين، أو جزر البحر المتوسط أوحتى آسيا الصغرى (تركيا الحالية) . وحري الإشارة إلى أن العلة وراء تمسك الألمان بنظرية (اللّغة-العرق) القومية، كونهم لا يختلفون في السحن والعادات وحتى إعتناقهم الدين المسيحي، عن جيرانهم، وما يميزهم عنهم محض لغتهم الجيرمانية، والتي تختلف عن السلافية في الشرق والجنوب عند البولونيين والجيك والسلوفاك، وعن الغاليين الفرنسيين في الجنوب وعن اللاتين مثل الطليان في الجنوب . وناصب الألمان كل تلك الشعوب العداء منذ قرون حروب الإقطاع والطمع التوسع القومي البسماركي وأنتهت بالحرب الثانية التي نفق فيها 62 مليون إنسان..

أما ما يدعى في الغرب "اللّغات السامية" تقسم إلى مجموعتين شمالية وجنوبية. الشمالية منها تشمل الأكدية (بابلية وأشورية) والكنعانية وفروعها الفينيقية والأوغارتية (وهي الأقرب للعربية) وموآبية وأدومية (بائدة) والثانية هي الآرامية التي تضم النبطية والسامرية والسريانية والعبرية (غير توراتيه) والمندائية. أما الجنوبية فتشمل فرع شمالي كالصفوية واللحيانية والثمودية والعّربية، والجنوبية منها يمنية وسبأية وقحطانية وحضرمية وكذلك اللهجات الأثيوبية (الجيز والتيكري والأمهري) .ومن الطريف أن التوراة صنفت الأحباش والفينيقيين حاميين بالرغم من أنهم ساميي اللّغة، وصنفت العيلاميين ساميين، لكن تصانيف اليوم تجدهم "آريين" أي يافثيين، وهكذا حصل الخلط الذي أوصلنا إلى متاهة.

وفي تقصي طبيعة اللّغات فأن الأمر لا يخلو من بعض السمات المشتركة، ليس على أساس الفوارق بين الأقوام بقدر ما هو من الأصل اللغوي المشترك للبشر، والتأثيرات والتلاقحات التي حدثت في ثنايا التأريخ .و أن دراسة اللّغات المستفيض يثبت أن جميعها من أصل مشترك واحد، وأن ثمة تجمعات استقت من اللّغة الأم، ففي سياق التقسيمات الغربية أطلق أسم (السامية) على شعوب الجزيرة العّربية والعُّراق والشام، و(الحامية) على لغات شمال أفريقيا ومنها المصرية والبربرية (الأمازيغية اليوم) وحتى الكنعانية وفرعها الفينيقي، و(اليافثية) التي أمست (الهندو أوربية ثم الآرية) والتي تشمل الأوربيين والفرس والهنود والشعوب الآسيوية كذلك بالرغم من الفارق الكبير في السمات واللّغات والطبيعة البشرية.

وعادة مانسمع الأكراد يزعقون بأنهم شعب (آري) ولايمكنهم العيش مع (الساميين) العرب بحسب تلك الأحجية الساذجة، رغم أنهم يناصبون العداء للفرس والترك والقوقاسيين وهم (آريين) بحسب التصانيف الغربية، وأن الفرس يعادون اليونان وهم آريين بحسب تلك التصانيف. ونتذكر جميعا كيف أسبغ شاه إيران محمد رضا بهلوي بـلقب (آريا مهر) على نفسه، والتي عنت ” ملك الآريين". والمصطلح (آري Aryan) يستخدم اليوم للدلالة على الفرع الشرقي، أي الهندي - الإِيراني من أسرة اللّغات الهندية - الأوربية، وبالتالي فهو مصطلح لغوي بالدرجة الأولى، ولا يتضمن خصائص إِثنية أو عرقية أو عقلية وثقافية أو قومية. ويعود أصل هذه الكلمة إلى اللفظة السنسكريتية arya التي تعني (النبلاء)، وقد تسمت بها القبائل الآرية التي غزت شمالي الهند لتميز نفسها من السكان المحليين الفيديين، الداكني البشرة، الذين أخضعتهم لسيطرتها إِبان الألف الثاني ق.م.أو كما يصفوها البعض للتفريق بين أصحاب الأنوف الطويلة والفطساء. كما توجد مفردة في اللّغة الفارسية القديمة بصيغة مماثلة ariya بمعنى (السادة) .وكان الميديون الذين أسسوا أولى الدول التأريخية في إِيران، يدعون في الأزمنة القديمة (آريين)، بحسب ما ينسبه الغربيون إلى المؤرخ هيرودوت.

وقد فخر الملك الأخميني داريوس الكبير (522-486ق.م) في أحد نقوشه المشهورة، بأنه كان فارسياً و(آرياًArian) .وجاء في كتاب الافيستا أريان (Aryan)، وهو ماطار تبنته النازية.و يعكس أسم (إِيران) الانتساب إلى الآريين بعد أن غير رضا شاه تسمية فارس إلى إيران في عشرينات القرن الماضي بسبب ه>ا التوجه الأوربي. وبالرغم من أن ثمة من يربط بين أسم العُراق وإيران كما الدكتور علي الشوك، ويرجعهما إلى أصل اشتقاقي مشترك من أصل سامي يعني الساحل أو السهل أو جرف، حيث كان بعض المؤرخين المسلمين يسمون إيران (عراق العجم)، للتفريق عن (عراق العرب) أو (السواد) أو بلاد النهرين.

ومن الطريف أن تلك الدعوة الملتوية قد تنصل عنها الألمان اليوم ونسبوها إلى مؤسِّس فرنسي وليس ألماني هو (دو گوبينوDe Gobineau)، اعتمادا على كتابه الأشهر الذي أصدره عام 1855 بعنوان: (دراسة حول التفاوت بين أعراق البشر)، وتبنى عدم تساوي الأعراق البشرية وعزى بموجبه إلى الشعوب الآرية وحدها الفضل في ابتكار المنجزات الحضارية قديماً وحديثاً، وأن الجنس الآري أسمى فروع العرق الأبيض وعدّ التوتون (الجيرمان) أنقى عنصر يمثل الآريين. وازدهر مذهب (گوبينو) حتى وطأت أفكاره الحركة النازية التي صاغت منطلقاتها العنصرية القائمة على تفوق الجنس الشمالي (النوردي) وصفوته المختارة (العنصر الجرماني) الذي ينبغي أن يسود العالم.وبالرغم من أن (گوبينو) أسبغ على مذهبه نفحات من"العلميّة"، بيد أنها لم تجد لها صدى في فرنسا التي اعتمدت على مفهوم (القومية الوطنية compatriotism) ومبدأ (المواطنة citoyens) وليس (العرق rase)، بما يجعلنا نشكك بمن وجه الرجل هذه الوجهة من الأساس، بما يحاكي في السياق حال نابليون حينما غزى مصر وعرج إلى عكا وفلسطين، بما يثير الشبهة بمن ولمن أرسله أصلا .وجدير أن نورد ماكتبه إيلي كيدوري (Elie Kidourie) (1926-1992) بصدد نشوء الفكر القومي في الغرب، والذي يرجعه إلى البديات القرن التاسع عشر، ويعزيه إلى الآثار الكارثية الي ولدتها حروب نابليون المشبوهة أصلا..

و بذلك لم تعد التسمية اليافثية المستلة من التوراة تحقق أهداف الطمع الغربي والتهافت الإستعماري، فقد تولى الإنگليز الأمر، وأرادوا أن يروجوا أنهم والهنود من أرومة واحدة، ولا ضير في أن يحتل أحدهما الاخر على مبدأ المثل البغدادي: (بين الأحباب تسقط الأداب) . ورأوا في طريق الهند وتخومها من ماء ويابسة وسماء حلال لهم، فمكثوا في سنغافوره وهونك كونك وماليزيا والخليج وعدن والعُّراق والأردن وقبرص ومالطة وجبل طارق وفلسطين، بحجة أنه الطريق إلى أولاد عمومتهم "الآريين" هناك في طرف الأرض. ثم طمع الألمان في الإستحواذ على مستعمرات بريطانيا في العالم وأوعزوا للباحثين الألمان دراستة تلك الأحجية ومنهم: شليغل Schlegel وغريم Grimm وبوب Bopp وشلايشر Schleicher، حيث وضعت الأسس المنهجية والتطبيقية لدراسة اللّغات (الهندية – الأوربية) والتي عنت لهم الاقوام ولاسيما الهند التي يسيل لعابهم عليها. وقد افترضوا أنه كان هناك في الأزمنة السالفة لغّة واحدة مشتركة دعوها: (الآرية)، وكانت بمنزلة اللّغة الأم التي انبثقت منها سائر اللّغات الآرية، وأن القبائل التي تحدثت بها، كانت تقيم في منطقة واحدة إنتشرت منها بعد ذلك منذ أوائل الألف الثاني قبل الميلاد إلى مواطن سكناها التأريخية في أوربا وإِيران وشمالي الهند. ونشأ عن هذه الفرضية نظريات الموطن الأصلي لأولئك الآريين والحنين لهم والحقيقة الطمع بأرضهم رغم الإختلاف بشلأنها ومعظم الآراء ترجح السهوب الأوراسية الممتدة من آسيا الوسطى إلى جنوبي روسية، وينطبق على ذلك المثل الجنوبي العُّراقي (لو بالهور لو بالزور لو عند الحرامية) أي من أصول لا حصر لها. وهكذا أمسى تصانيف اللّغة الأسطوري إلى الأعراق شماعة تعلق عليها كل المارب الإبليسية، حتى أن الألمان تحمسوا لمد خط سكة الحديد بين برلين وبغداد، ليس حبا ببغداد أو شغفا بالدولة العثمانية، بل من أجل الوصول للبصرة وهو ماتحقق فعلا من أجل الإنقضاض على الهند وقضمنها من الإنكليز كما في جنوب أفريقيا، ولكن حدث أن خسروا الحرب الأولى، فتبدد حلمهم (الآري) الذي عاد وأحياه هتلر ضمن سياق أيديولوجي جعله يهتم بمصر والعراق في الطريق للهند، وقد وطأت تلك الأحجية أسماع الأكراد في العراق، وسمعهم عنصري مرهف، فطفقوا يروجون له منذ نهاية الخمسينات والستينات وما تلاها من ويلات، بمساعدة إسرائيل، التي حشت رؤوسهم بأنهم (آريين) ولابد من التمرد على (الساميين)، رغم أن اليهود يصنفون أنفسهم (ساميين) وأسسوا لأحجية (اللاسامية) الواهية، لكنهم تضامنوا مع (الآرييين) من أجل خراب العراق وسوريا، والأمر مبيت في ليل بهيم وأنطلى على ذقون شعوب جاهلة.

إن الحيرة التي تكتنف شطط الآراء بصدد أصول الأكراد أرقت الأكراد ومن أنشغل بهم، فلغاتهم وسحنهم لا تشي بإنتماء إلا لشمال الهند والقوقاس، وبعضهم عدهم يرجعون إلي هوازن العربية، ولم يستقر راي بصددهم حتى اليوم، رغم دعاوى مدفوعة الأجر أو متعصبه من هنا وهناك.

 

د.علي ثويني

 

 

في المثقف اليوم