قضايا

قصة العقيدة في روما (2)

علاقة الرومان باليهود: في مصر انقسم بنو اسرائيل الى طائفتين، يتبع كلّ واحدة منهما طائفة اخرى، الاولى من الباقين على إيمانهم الإبراهيمي، تتبعها فئة تعتقد بما في الاولى، لكنّها علمانية دنيوية، والثانية مفتونة بالسحر والشريعة الفرعونية، تتبعها فئة صارت تبحث عن الله بآليات فرعون . ورغم احتدام الصراع بين الطائفتين الاولى والثانية، لكنّه لم ينتهِ بوضوح، بل استمرّ، حيث يقود الطائفة الاولى الأنبياء والصالحون، فيما يقود الطائفة الثانية أيضاً من صوّروا أنفسهم كقادة دينيين، يعرفون اسرار ما جاء به الأنبياء، او ما جاء به موسى .

[ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [الجزء: ١٦ | طه (٢٠) | الآية: ٨٥]، [ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [الجزء: ١٦ | طه (٢٠)] .

فيما كانت النتيجة ان يصل الصراع الى غلبة الطائفة الثانية، من السحرة، لكن بعنوان الطائفة الاولى، بمعنى أوضح تمت (سرقة) الديانة التوحيدية من قبل كهنة الإسرائيلية الجديدة .

لذلك لم يكن الشعب اليهودي - حتى اليوم - قادراً على معرفة ما يكون، او أين يتِّجه، ولماذا هو معادٍ لهذا ألكم من الامم، فقط كهنته هم من يدركون ما يجري .

يكتب (اسرائيل شامير) في مقدّمته عن (الكبّالا): ((... على نحو مماثل، نادراً ما يفهم يهودي ما او يفهم ما يريده اليهود من أنفسهم ومن البشرية المحتارة . هذا العجز عن الفهم يؤدي بكثير من الرجال والنساء الطيبين لإعلان دعمهم (او معارضتهم) الى الجسم السياسي المدعو " اليهود " . ان تولد وتترعرع كيهودي لا يساعدك على الفهم، تماماً كعدم فهمك لخطط الأركان العامَّة لمجرد كونك احد أفراد القوات الخاصة ...)) .

فيما يتحدّث المؤرخ اليهودي (موريس فيرجون) ضمن كتابه (اليهود في مصر): ((... وَمِمَّا يفخر به اليهودي انّ له نسباً عريقا، وسواء أكان يسكن بولندا ام اسبانيا، في وسعه ان يقول: انّ آبائي سكنوا الصحراوات في مصر وروما وأثينا واسبارطة، وتلك البلاد التي كانت مواطن المجد العالمي الغابر الزائل)) .

لقد كان للفترة التي اعقبت انكسار الهكسوس في مصر اثرها على المجتمع الاسرائيلي، الذي فيما يبدو لم يكن قد شارك في مساعدة الهكسوس، لذلك هو لم يهاجر معهم خارج مصر بعد الانكسار، لذلك يمكننا القول انّ هذا المجتمع فقد الهوية منذ وقت مبكّر . نعم، لقد خضع المجتمع الاسرائيلي للاستعباد من قبل الفراعنة، كضريبة لاشتراكهما في الأصل (السامي) والعقائدي التوحيدي . وبالتالي اسهم الاسرائيليون في خدمة المشاريع الفرعونية بصورة كبيرة .

بعد احتلال كورش الاخميني إمبراطور الدولة الفارسية للعراق والشام امر بفتح الطريق امام اليهود للعودة الى القدس، وسمح لهم ببناء الهيكل . إِلَّا أنّ اليهود لم يعد منهم - كما ينقل البعض - الا المتعصبون . وحين شرع هؤلاء ببناء الهيكل احتجّت الأقوام المجاورة، من حوريين وحيثيين وعمونيين وادوميين، وهددت بالعصيان، مما اضطرّ (سمرديس) خليفة (قمبيز الثاني) الى إيقاف اعمال البناء .

انّ المثير في هذه الأحداث هي الأوامر الامبراطورية الفارسية ببناء الهيكل على نفقة بيت مال الملك !، وكذلك الاحتجاج الكبير للأقوام المجاورة لارض الهيكل، والذي يكشف عن شعورها بمجموعة اخطار مشتركة ! .

لقد أعاد (دارا الاول) ملك الفرس البناء في عهده، وهو اصرار غريب من قبل هذه الدولة على انشاء الهيكل، الذي أنهت مظاهر طقوسه الدولة البابلية . وقد نال اليهود العائدون الذين استوطنوا القدس (أورشليم) امتيازات خاصة من الدولة الفارسية، فيما بقي اليهود الذين فضّلوا البقاء في العراق يجدون في أعمالهم التجارية الجديدة حافزاً للمضي في حياتهم الرافدينية .

ثمّ ظلّ اليهود تحت حكم احدى الدولتين اليونانيتين، السلوقية في الشام، او البطلمية في مصر . وقد استطاعوا من خلال استغلال الصراع بين الدولتين المختلفتين سياسياً أنْ يقيموا حكماً كهنوتياً ذاتيا، يبدو انّه استعر في هذه الفترة، معتمداً على الطقوس الباطنية المستوردة، ومرتكزاً الى ظلموت الانفس الشيطانية لكهنة بني اسرائيل الجدد . حتى قام الملك السلوقي (انطيوخس الرابع) بتدمير الهيكل وإفراغ خزائنه، مما يكشف عن استفزاز خاص كان يتسبب به هذا الهيكل للجميع، الى الحد الذي جعل منه مقصداً للأيدي العسكرية الضاربة، وكذلك الاحتجاجات الشعبية المختلفة .

وبعد فترة المكابيين الثورية سقطت القدس - كما الشام وممتلكات الدولة السلوقية - بيد الرومان، فخضع اليهود في القدس لفترة اخرى من فترات الالتحام والتعارف . وفي عهد (يوليوس قيصر) تمتع اليهود بحكم كهنوتي ذاتي . ومن الغريب أيضاً ان يقوم (هيرودس الادومي) الذي عيّنه الرومان ملكاً على يهودا ببناء الهيكل مرّة اخرى، رغم انّه كان مبغوضاً من قبل اليهود، لنشره الأصنام والطقوس الوثنية في فلسطين !، فكيف يأمر مثله ببناء (بيت الرَّبّ) إِلَّا اذا كان بيتاً لأصنام الربّ ! .

وبعد وفاة هيرودس توّلى على يهودا مجموعة من الموظفين الرومان، وفي عهدهم ولد السيد المسيح، وفي عهدهم أيضاً تمت محاكمته، بعد الغلّ الكهنوتي اليهودي ضدّ وجوده .

ومن النافع ان نتناول محاكمة السيد المسيح ذاته لكهنة اليهود الظلموتيين في الهيكل قبل ان تتم محاكمته من قبل الرومان، ومنها نعرف مدى الخطر الباطني والدنيوي الذي وصله هؤلاء المتحدثون باسم الله، [ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ . وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ] [ القرآن الكريم: الصف، 6 – 9 ] .

جاء عيسى عليه السلام وأحوال بني إسرائيل في غاية من الفساد والإفساد. فعقائدهم قد طمست، وأخلاقهم قد رَذُلَتْ، وسيطرت عليهم المادية، حتى إنهم اتخذوا من المعبد سوقاً للصيارفة والمرابين، وملهىً لسباق الحمام.

(21: 12 ودخل يسوع الى هيكل الله واخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام 21: 13 وقال لهم مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى وانتم جعلتموه مغارة لصوص) متى .

فأخبرهم بأن العقوبة الثانية قادمة إليهم على إفسادهم الثاني: (يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوَذاَ بيتكم يترك لكم خراباً) .

توجه المسيح عيسى عليه السلام الى الهيكل، وهو رمز بني اسرائيل في اورشليم، ليعلن ذلك الاعلان الاخير في بني اسرائيل، لكن يجب اولا ان يحتج على كهنة هذا الميراث من الانحراف، على قتلة الانبياء باسم الدين:(21:23 ولما جاء الى الهيكل تقدم اليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وهو يعلم قائلين باي سلطان تفعل هذا ومن اعطاك هذا السلطان 21: 24 فاجاب يسوع وقال لهم وانا ايضا اسالكم كلمة واحدة فان قلتم لي عنها اقول لكم انا ايضا باي سلطان افعل هذا 21: 25 معمودية يوحنا من اين كانت من السماء ام من الناس ففكروا في انفسهم قائلين ان قلنا من السماء يقول لنا فلماذا لم تؤمنوا به 21: 26 وان قلنا من الناس نخاف من الشعب لان يوحنا عند الجميع مثل نبي 21: 27 فاجابوا يسوع وقالوا لا نعلم فقال لهم هو ايضا ولا انا اقول لكم باي سلطان افعل هذا 21: 28 ماذا تظنون كان لانسان ابنان فجاء الى الاول وقال يا ابني اذهب اليوم اعمل في كرمي 21: 29 فاجاب وقال ما اريد ولكنه ندم اخيرا ومضى 21: 30 وجاء الى الثاني وقال كذلك فاجاب وقال ها انا يا سيد ولم يمض 21: 31 فاي الاثنين عمل ارادة الاب قالوا له الاول ...)

وهنا اظهر السيد المسيح حقيقة هؤلاء الكهنة: (... قال لهم يسوع الحق اقول لكم ان العشارين والزواني يسبقونكم الى ملكوت الله 21: 32 لان يوحنا جاءكم في طريق الحق فلم تؤمنوا به واما العشارون والزواني فامنوا به وانتم اذ رايتم لم تندموا اخيرا لتؤمنوا به) .

واردفهم بمثل آخر يحرق اوراقهم: (21: 33 اسمعوا مثلا اخر كان انسان رب بيت غرس كرما واحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجا وسلمه الى كرامين وسافر 21: 34 ولما قرب وقت الاثمار ارسل عبيده الى الكرامين لياخذ اثماره 21: 35 فاخذ الكرامون عبيده وجلدوا بعضا وقتلوا بعضا ورجموا بعضا 21: 36 ثم ارسل ايضا عبيدا اخرين اكثر من الاولين ففعلوا بهم كذلك 21: 37 فاخيرا ارسل اليهم ابنه قائلا يهابون ابني 21: 38 واما الكرامون فلما راوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله وناخذ ميراثه 21: 39 فاخذوه واخرجوه خارج الكرم وقتلوه 21: 40 فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل باولئك الكرامين)، وحين اجابوه: (21: 41 قالوا له اولئك الاردياء يهلكهم هلاكا رديا ويسلم الكرم الى كرامين اخرين يعطونه الاثمار في اوقاتها)، قال لهم: (21: 42 قال لهم يسوع اما قراتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار راس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في اعيننا)، هنا حانت اللحظة، واعلن المسيح عليه السلام ذلك (الاعلان العالمي):(21: 43 لذلك اقول لكم ان ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لامة تعمل اثماره) متى، نعم تم نزع ملكوت الله منهم، وتم نقله الى امة تعمل من اجل ثمرة التوحيد النقية الطيبة .

ثمّ تمّ تعيين (هيرودس اجريبا) ملكاً على فلسطين، وهو حفيد (هيرودس)، وذلك في عهد الإمبراطورين (كاليجولا) و(كلاوديوس) . وكانت هذه الفترة هادئة بصورة غريبة ومريبة هناك، لاسيما بعد محاكمة السيد المسيح . لكن الفترة المضطربة كانت بعد وفاة اجريبا، حيث حكم مجموعة من الولاة الرومان، كانوا جميعاً غير مقنعين للشعوب التي تقطن تلك الارض، مما ألهب ثورة اخرى ضدّ وجودهم . وقد استمرت تلك المعارك طيلة حكم (نيرون) و(وسپسيان)، حتى أودعت الامبراطورية امر اخماد الثورة الى (تيطوس)، ابن الإمبراطور (وسپسيان)، الذي نجح في دخول القدس سنة ٧٠ م، ودمَّر المدينة، واحرق الهيكل، وقتل مقتلة عظيمة، وأخذ الباقين عبيدا . وبعد نصف قرن قامت ثورة اخرى بقيادة (باركوخبا)، وهو احد زعماء اليهود، الذي اعتصمت جماعته في المواقع الجبلية، وراحوا يقاتلون على طريقة حرب العصابات، وصمدوا لثلاث سنين، حتى تمّ اجتياحهم واحراق قراهم من قبل الرومان، ومن ثمّ قام (هادريان) بتحويل القدس الى مستعمرة رومانية يونانية، وفي عودة غريبة للهيكل تمّ انشاء معبد للاله اليوناني الروماني (جوبيتر) فوق ارضه . وقد ذهب - حسب بعض المؤرخين - في هذه الحملة نحو ٥٨٠ الف يهودي، اذا ضُمّت لسابقاتها فسيكون الضحايا من اليهود عدّة ملايين، مما يكشف عن ضياع الكثير من تاريخ بني اسرائيل الحقيقي معهم .

لكنّ التاريخ الاخر كان واضحاً في الكتل البشرية اليهودية التي تمّ نقلها الى العراق، من خلال الحملتين الآشورية والمزدوجة البابلية، حيث صار غالب من وصل من اليهود الى بلاد ما بين النهرين نصارى مسيحيين، بحدود القرن الأوّل الميلادي .

تتكون (التوراة) المعاصرة من ٣٩ سفرا، خمسة منها فقط هي التي كانت على زمن (موسى) النبي . وقد تمّ تقسيم هذه الأسفار الى ثلاثة أقسام، (البنتاتيك)، او (أسفار موسى الخمسة)، و(النبيّيم)، او (أسفار الأنبياء)، و(الكتوبيم)، او (الكتابات والأشعار) . ورغم انّ البنتاتيك هي ما يمكن القول برجوع اصلها الى عصر رسالة موسى، إِلَّا اننا يمكننا القبول ببعض مضمون ما جاء به أنبياء بني اسرائيل واُضيف كملحق للتوراة الموسوية، وحتى القبول ببعض روح الأناشيد والمزامير . غير انّ اخطر ما تمّت إضافته للديانة اليهودية - كنصّ مقدّس - كان (التلمود)، الذي هو شرح وتعاليم الكهنة على التوراة . ويبلغ حجم التلمود البابلي - حيث هناك تلمود فلسطيني - نحو ٥٨٩٤ صفحة، ويتكّون من (المشناة)، وهي المتن، ومن (الجمارا)، وهي الشرح والمناظرات . وتكمن خطورة التلمود في إدِّعاء الحاخامات بورود تعاليمه شفهياً عن الأنبياء، رغم ما فيه من شريعة مبتدعة .

ورغم اعتقادنا بوجود نصٍّ توراتي قديم، للزوم تدوين شرائع الله على يد الأنبياء، إِلَّا انّ التوراة التي وصلتنا كُتبت في بابل، على يد الكهنة اليهود، بعد عصر موسى النبي بنحو ثمانية قرون، حيث تلوّث المجتمع الاسرائيلي بأنواع البدع والباطنيات السحرية، وانتشار الماديات والأنا .

وقد احتكر السلطة الدنيوية والدينية بعد السبي البابلي مجلس كهنوتي اعلى يُدعى (السنهدرين)، الذي ظهر في القدس خلال العصر السلوقي - البطلمي . ويكفي في معرفة واقع هذا المجلس الكهنوتي ومدى ظلموته ان نعرف انّه هو من حاكم السيد المسيح بالتعاون مع الرومان الوثنيين، ومن ثمّ حكم بقتله، بعد أنْ واجه دعوته الإلهية الإصلاحية . إِلَّا انّ هذا المجلس هو من كتب التوراة، وهو ذاته من ابدع التلمود ! .

لقد استغلّ الرومان هذا المجلس (السنهدرين) كثيرا، ووسّعوا من صلاحياته حسب الحاجة، ثمّ منحوه صلاحيات دينية واجتماعية اكبر، شريطة عدم الأضرار بالمصالح السياسية الرومانية . وفي الفترة التي حاكم فيها السنهدرين السيدَ المسيح - بحدود ٢٩ م - كان في أوج صلاحياته، متكوناً من ٧١ عضواً من الكهنة والحاخامات الكبار . وعند استلام الوالي الروماني (غابينوس) السلطة على فلسطين قسّم المنطقة اليهودية الى خمسة أقسام، وجعل على كلّ قسم منها سنهدرين محليّ، مؤلّف من سبعة أعضاء، تتبع جميعها للسنهدرين الأعلى في القدس .

وكما يبدو واضحاً فإنّ الباطنية الوثنية قد اُشربت في النفوس الكثيرة من بني اسرائيل . لذلك ابتدأ صراع كبير داخل هذا المجتمع، بين الموحدين والباطنيين الوثنيين . ومن ذلك ما فعله (السامريون)، الذين رفضوا كلّ الذي جاء به الكهنة السنهدريون، وقالوا بقدسية أسفار موسى الخمسة فقط من التوراة، حتى حاول قادة اليهود اخراجهم من اليهودية، إِلَّا انهم لم يستطيعوا، فقام السامريون بمساعدة اغلب أعداء يهود السنهدرين ضدّهم، مما يكشف عن اعتقادهم بالخطورة الكبرى التي يشكّلها هذا المجمع، الى الدرجة التي حَرَّم فيها السامريون الزواج من يهود السنهدرين . لكن الغريب ان السامريين لم يتعاونوا مع الرومان، وكانوا في نفس درجة العداء لهم، كما كانوا في عدائهم ليهود السنهدرين، في الوقت الذي أعانوا (نبوخذنصر) ضد السنهدرينيين . وكانت عقيدة السامريين تقوم على التوحيد وتوراة موسى والبعث والمعاد، ككل ديانة توحيدية . فيما وافق السامريين في وقوفهم ضد كهنة السنهدرين والتعاليم الشفوية المدّعاة طبقة اخرى ظهرت في عهد السلوقيين تُدعى جماعة (الصدوقيين)، وهم من الكهنة والكتبة ايضا، الذين اصرّوا على التزام التوراة الموسوية، ورفض التعاليم الشفوية .

ومن هذه المواجهة - وبإضافة المواقف التي تذكرها التوراة للأنبياء بوجه الكهنة - يمكننا معرفة مدى خطورة هذه التعاليم الشفوية المنقولة، لمن عرفها، ولابدّ انّ الكثير منها قد تمّ إخفائه عن العوام، كما قرّر المجمع المنعقد في بولونيا سنة ١٦٣١ م بالإجماع ( حذف العبارات التي تهين الأغيار، وانّ التعاليم التي تهين المسيحيين لا يصح نشرها) . ويبدو اقرب للأذهان من هذه المعطيات انّ تلك التعاليم المتسببة في هذه المواجهة التاريخية الضخمة - الى درجة الانقسام - ليست سوى مجموعة تعاليم (القبّالاه) او (الكبّالاه)، السحرية المأخوذة عن طقوس العقيدة الفرعونية السحرية، بعد الخروج من مصر، حيث تمّ تدوينها في بابل . لذلك لم يكن غريباً ان تتضمن هذه التوراة السنهدرينية أوامراً لقتل الأطفال والنساء، وحرق المدن والقرى، ونسبة كل رذيلة لأنبياء الله وأوليائه، مما يعني سيطرة كهنة الحضارة القابيلية على المجتمع الاسرائيلي، الذي كان يحمل رسالة الله التوحيدية، ولذلك كان الإعلان الأخير للمسيح ببراءة الله من هؤلاء الكهنة - والذي ذكرنا مضمونه أعلاه - ضرورة توحيدية . ومن هذين المقدمتين أيضاً كان من الطبيعي أنْ يدافع شيخ القبّاليين (موسى بن ميمون) عن التوراة السنهدرينية، تفسيراً وفقهاً وفلسفةً، في كتبه (السراج) و(تثنية التوراة) و(دليل الحائرين)، وَإِنْ يعتبره القبّاليون بعد ذلك (شيخ الحكمة) .

ومن الغريب أيضاً أنّ قائداً وثنياً للبطلميين هو (بطليموس الثاني) يستمع لنصيحة (ديمتروس) في ضرورة ترجمة التوراة الى اليونانية، حيث يعني ذلك عولمة التوحيد !، إِلَّا اذا كان البطلميون موحدين، او متيقنين من وثنية التوراة السنهدرينية . لذلك اجتمع في (فاروس) اثنان وسبعون حبراً يهودياً، لترجمة تلك التوراة، فيما تمّت ترجمة اخر الأسفار في العهد الروماني .

وفي خضّم الثورات الإسرائيلية ضدّ الرومان تمت ترجمة التوراة الى اللاتينية في حدود القرن الاول الميلادي، وهو القرن الذي شهد الى جانب محاكمة السيد المسيح تدمير القدس (أورشليم) . ولا افهم كيف تتم الترجمة لكتابٍ يُقدِّسه المغضوب عليهم من الامبراطورية ! .

ومن قبل أخذت اليهودية السنهدرينية ما وافق العقيدة الآرية الفارسية، مما سمح لملوك الفرس نفسياً واجتماعياً بالدفاع عن هذه الطائفة سيئة السمعة عالميا .

منذ اللحظات الاولى لخروج قوم موسى من مصر الفرعونية كان يعاني الاضطراب والضبابية، إِلَّا ثلّة من المؤمنين صالحة، لكنها كانت تُستضعف في كثير من الأحيان، [ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٤٨]، لكنهم بعد ذلك [ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧) | الآية: ١٤٩] .

كما انّ الواسطة الماورائية الفرعونية ألهبت مشاعر الإسرائيليين بماديتها ومباشرتها الطقسية، لذلك أرادوا جعل الواسطة بين الخالق والمخلوقات - كما المصريين الفراعنة - صنمية متمثلة، وفي ذات الوقت متفاعلة مع الطقس الديني بصورة حسّية، لا تخضع للحكمة الغيبية التي اعتادتها الأديان الإبراهيمية، [ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٣٨] .

ولعلّ اهم محرّك للتاريخ اليهودي المعاصر او القديم هو (الهيكل)، حيث السعي المحموم لإعادة بنائه، ولا يمكن تاريخياً التكهن بالباني الحقيقي للهيكل، او معرفة أصل القداسة لأرضه، اذ ورد انّه كان مكاناً مقدساً لدى الوثنيين قبل اليهود، فيما تذكر المصادر اليهودية انّ من صَلَّى فيه هو دَاوُدَ الملك، وبناه سليمان الحكيم، ومن جهة اخرى ساهم الفرس والرومان الوثنيون في اعادة إعماره عدّة مرّات . وقد وصفت المصادر اليهودية كيف استدعى سليمان المهندسين الكبار من صور الفينيقية، وكيف انه أنفق لبنائه نحو مائة الف وزنة من ألذهب ومليون وزنة من الفضة، غير وزنات النحاس وباقي المعادن والأحجار الكريمة، وذلك يعادل ثروات خرافية في عصرنا المعاش . وقد تمّ تشييده بحدود ١٠٠٥ ق م، ثمّ هدمه ملوك بابل نحو ٤٢٤ ق م . وفي حين تروي بعض المصادر انّ اليهود العائدين من السبي قاموا بتجديده، إِلَّا انه خرب مرة اخرى، فأعاد بنائه (هيرودس الكبير)، رغم انه كان ممثلاً للدولة الوثنية الرومانية، وكان ادوميّاً لا اسرائيليا !، ورغم انّ (طيطوس) القائد الروماني دمّره سابقا . وعند الغزو الصليبي للقدس جعله ملكهم قصراً لسكناه، ومحيطه مأوى لحيواناته الداجنة، حتى استعاده صلاح الدين الأيوبي وأعاد بنائه، كما امر بفتح القدس امام ثلاثين عائلة يهودية للسكنى . ثمّ عاد اليهود اليوم لجعله رمزاً لحضارة وامة، لا نعلم مدى ارتباطه بكينونتها .

وكما هو واضح من الطلبات التي ذكرها القران الكريم على لسان اليهود لموسى عند الخروج الكبير من مصر انهم بدأوا عصر الوثنية المركّبة المعقدة، تلك الممزوجة بعقائد توحيدية، في اضطراب فكري واضح، لذلك اتخذوا (العجل) - الذي هو أبيس الفرعوني - إلهاً بمجرّد عبورهم من مصر وغياب موسى ليالي معدودة، رغم رؤيتهم لمعجزة شقّ البحر . والعجل ظلّ على الدوام الرابط بين الديانات الثلاث (الفرعونية واليهودية والرومانية)، حيث في المتحف البريطاني نقش يعود لعام ٢٩٥ م، في فترة حكم (ماكسميانوس) و(فاليريوس)، يمثّل الإمبراطور وهو يقدّم القرابين للعجل (بوخيس) . وفي حدود عام ٥١٥ ق م كان لليهود معبد في (الفنتين)، يتم فيه تقديس الآلهة (عنات) والآلهة (اشيما)، الى جانب المعبود (يهوه) .

والظاهر من هذا التسلسل في اضطراب التاريخ انّ اليهود وصلوا الى مرحلة ضبابية خطيرة، تغلغل فيه السحر الى ساحة المعتقدات الدينية، فصار هناك خلط لدى نسبة معتد بها من الناس . [ فَلَمَّا جَاءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِىَ مِثْلَ ما أُوتِىَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِىَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ [الجزء: ٢٠ | القصص (٢٨)| الآية: ٤٨]، وراح اليهود لا يميّزون بين ميتافيزيقيا فرعون وبين عالم الجبروت [ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الجزء: ٢٨ | الصف (٦١)| الآية: ٦]، بل انّ الفكرة انتشرت على انحرافها [ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الجزء: ٢٦ | الأحقاف (٤٦)| الآية: ٧] . لكنّ بني اسرائيل لم يكونوا جميعاً كافرين، كما عرفنا من السرد التاريخي، وهذا ما يكشفه الاضطراب في مواقفهم ايضا، [ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الجزء: ٧ | المائدة (٥)| الآية: ١١٠] .

ومن هنا كان من الطبيعي ان نرى بني اسرائيل وهم يتهمون الأنبياء بأنّهم سحرة، حيث صار هؤلاء اليهود يفكّرون بالعقل الفرعوني، الذي يخلط بين التلاعب الفيزيائي الذي تُحدثه الكائنات الغير منظورة، وبين قدرة الخالق التي تجري على يد أنبيائه، فرأينا كيف اعتمد فرعون ذات الاليات الباطنية المقترنة بالهندسة للبحث في امر اله موسى، غافلاً عن المعنى اللاماديّ للخالق، [ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [الجزء: ٢٤ | غافر (٤٠) ] . وهذه النظرة المادية للماورائيات، والتي يمكننا ان نسمّيها (الميتافيزيقيا الجديدة)، او (الميتافيزيقيا الفرعونية)، صارت هي خلاصة العقل الكهنوتي للمجتمع اليهودي، لا سيما بعد سرقة هذا الكهنوت من الباطنيين الفراعنة .

لقد كان من الضروري الإعجاز الالهي في إيجاد المسيح (عيسى بن مريم)، كما هي ضرورة نسبه الشريف في بني اسرائيل، وكذلك الآيات الكبرى على يديه، من حيث القدرة على الإحياء والمعرفة باْذن الله، بعد هذا الاضطراب الذي عاشه المجتمع الاسرائيلي، [ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الجزء: ٣ | آل عمران (٣)| الآية: ٤٩] . انّ هذه الآيات الواضحة الإعجاز على يد عيسى المسيح - فضلاً عن ولادته الإعجازية ايضا - تكشف عن العمق الذي تغلغل اليه السحر في مجتمع كهنوت بني اسرائيل، والمدى الذي اتقن معه اليهود علوم السحر، وكيف انهم طوَّروا المنظومة الفرعونية، فقرابينهم كانت كبيرة [ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [الجزء: ٦ | المائدة (٥)| الآية: ٧٠] .

وهذا التخبُّط الفكري هو ما يفسّر عودة بعض بني اسرائيل لعبادة الأصنام عند وفاة (يوشع بن نُون) وصيّ موسى النبي، وكذلك هو ما يشرح إقامة مملكة اسرائيل الأصنام في هياكلها وعبادتها عند وفاة (سليمان) النبي، حيث انقسمت مملكته الى قسمين، شمالي (اسرائيل)، فيها عشرة أسباط، بقيادة (يربعام بن ناباط)، وجنوبي (يهودا)، فيها سبطا (يهوذا) و(بنيامين)، بقيادة (رحبعام بن سليمان) . ومملكة (اسرائيل) بقيادة (يربعام) هي من أصبحت وثنية، حتى نشب القتال بين القسمين .

لكن في ظلّ هذه الفرعونية الجديدة ذات الصبغة اليهودية كيف حدثت تلك المواجهات العنيفة بين المجتمع اليهودي بدوله وإماراته وجماعاته وبين الفراعنة وجيوشهم، او مع الرومان (الفرعونية العالمية) ؟!، يمكن الإجابة على هذا التساؤل بزيادة البحث في عمق الباطنية المشتركة بين هذه الأطراف الثلاث، وكذلك في عمق تاريخها، لمعرفة مدى إمكانية تغيير مراكز النفوذ، او ادراك آلية التحكم والسلطة . لكن فيما يبدو انّ هذه المجتمعات لم تكن واضحة الباطنية، حيث اختصّ ذلك العالم السحري ب (الملأ)، من سياسيين وماليين وعسكريين كبار، وفي الكهنوت الديني، لذلك كان الصراع بينها نتيجة للتيّار الاجتماعي والسياسي العام الغالب . كذلك يمكن ان يكون الصراع ناشئاً بين فئات موحّدة في طرف وبين فئات وثنية في الطرف الاخر، وذلك لا يمنع انجذاب الشبيه الاخر لشبيهه في المجتمع المضاد رغم الحرب والصراع .

اما في السنين الاولى للخروج من مصر فلم يكن الامر اكثر من اثر للعداء التاريخي بين الفراعنة وبين الهكسوس، الذين تمّ احتساب بني اسرائيل عليهم، والاكيد انّ (مرنپتاح بن رعمسيس الثاني) في حملته ضد المقاطعات الآسيوية لم يكن يحترم كثيراً الوجود الاسرائيلي .

لكنّ الغرابة تكمن في عودة العلاقات بين مصر الفرعونية وبين مملكتي (بيت عومري = اسرائيل في التوراة) و(يهودا) . حيث كان من المتوقع ان تكون لمملكة وثنية كإسرائيل خيوط ارتباط بالفرعونية المصرية، وقد شكّلت خطراً على المملكة الموحدة في أورشليم (يهودا)، لذلك قام الآشوريون - بطلب من ملك يهودا (آحاز بن يوثام) - بحملة تأديبية كبرى على بن عومري (اسرائيل)، في عهد ملك أشور (تجلاث بلاشر الثالث)، فاسقط ملكها (فقح)، وترك لخلفه (هوشع) مدينة السامرة فقط . ثمّ عادت أشور بحملة اخرى في عهد (شيلمنصر) لمحاصرة السامرة، وأتمت احتلالها في عهد (سرجون الثاني)، لتسقط نهائياً وجود مملكة بيت عومري (اسرائيل) . لكنّ مملكة (يهودا) هي الاخرى خالفت امر نبيّها (اشعيا)، فارتبط ملكها (حزقيا) بمصر الفرعونية، في عهد الاسرة الخامسة والعشرين النوبية، وهي الاسرة الاشدّ انتماءاً للديانة الفرعونية القديمة في وثنيّتها، حيث قامت باحتلال جميع بلاد مصر تحت دعوى اعادة الديانة الفرعونية الأصيلة . لقد خاطب النبي (اشعيا) من يطلب مساعدة أولئك الفراعنة قائلاً ((وَيْل للذين ينزلون الى مصر للمعونة ويستندون الى الخيل ويتوكلون على المركبات لانها كثرة، وعلى الفرسان لأنهم اقوياء جدا، ولا ينظرون الى قدوس اسرائيل، ولا يطلبون الربّ)) . لذلك قام (سنحاريب) خليفة (سرجون) بحملة على هذه المملكة المتمردة، ورغم إرسال فراعنة مصر جيشاً لنصرة مملكة يهودا إِلَّا انّ سنحاريب انتصر عليهم، ثمّ قسّم الكثير من أراضي المملكة اليهودية على الممالك الاخرى القريبة الموالية لسلطانه . وقد ترك الآشوريون هذه المملكة منهارة، تدفع الجزية لهم . لكنّ (يهودا) عادت لتتمرد على أوامر الله مرة اخرى، فخالفت امر نبيّها (ارميا)، فتحالفت مع فراعنة مصر مرّة اخرى، وحاولت الخروج على سلطان (الكلدانيين) ورثة الدولة الآشورية، فشنّ (نبوخذنصر الثاني) حملة لتأديبهم، وحاصر أورشليم، حيث توفي ملكها (يهوياقيم) اثناء الحصار، فخلفه ابنه (يهوياكين)، الذي اضطر الى الاستسلام، فعيّن نبوخذنصر (صدقيا) عمّ يهوياكين بدلاً عنه . إِلَّا انّ (صدقيا) عاد للدخول في الحلف الذي أنشأه فرعون مصر (حوفرا)، للتمرد على نبوخذنصر، وتدخّل النبي (ارميا) مرة اخرى، لثني صدقيا عن ارادته هذه، إِلَّا انّ التمرد النفسي قاد الى التمرد السياسي، فغضب نبوخذنصر، وَقاد حملة عسكرية بنفسه، حاصر بها أورشليم، إِلَّا انّ فرعون مصر (حوفرا) أرسل جيشاً لنصرة مملكة يهودا، فانسحب البابليون الكلدان عن أورشليم لملاقاة المصريين، فظنّ اليهود انّ النصر حليفهم، ولم يأخذوا بنصيحة نبيّهم (ارميا)، الذي اخبرهم بوهم هذا الاعتقاد، فسجنوه، في وثنية مبطّنة خطيرة . إِلَّا انّ الفراعنة انهزموا امام البابليين، فعاد البابليون لمحاصرة أورشليم، واسقطوا مملكة يهودا .

لقد كان من نتائج كل هذه الحملات الآشورية والبابلية أربعة أمور مهمة:

الأوّل: سبي إعداد غفيرة من اليهود الى شمال العراق وجنوبه، تهيأت لهم فرصة الانفلات عن غلواء (الفرعنة) الباطنية، التي قادها زعماء الكهنوت السياسي، مما جعل هؤلاء اليهود المسبيين احدى الطوائف الاول التي آمنت بالسيد المسيح لاحقا .

الثاني: وضوح الاختلاف بين المجتمع النبوي في اسرائيل وبين المجتمع الكهنوتي السياسي .

الثالث: تعرّف الساسة العراقيون على المجتمع النبوي الاسرائيلي والتواصل معه .

الرابع: هجرة جماعات من كهنوت السياسة اليهود المتفرعنيين نحو أوربا وشمال افريقيا، خلال الفترة التاريخية ٨٠٠ - ٥٨٦ ق م .

ورغم انّ الانحراف والشرخ بدا واضحاً داخل المجتمع اليهودي بقرون قبل ميلاد السيد المسيح، وكذلك تحكي لنا سيرة المؤرخ المتذبذب (فلافيوس جوزيفاس) كيف انّ هناك ناساً من اليهود كانوا يوالون الدولة الرومانية اكثر من ولائهم لليهودية، حيث عيّنه الرومان حاكماً على الجليل، بعد زيارته روما عام ٦٣ م، ثمّ قاتل الى جانب الرومان في زمن (طيطوس)، ومنحه (ڤاسبيان) لقب مواطن روماني، إِلَّا انّ القسم الاخر من اليهود كان لازال يحتفظ بخصائصه الرافدينية، حيث يروي الواقدي (انّ اليهود كانوا يوقدون النيران في الليل ليرشدوا السائرين، وليدعوهم الى الضيافة والاكرام كما كان يفعل العرب اعلاءً لشرفهم وصيانة لمجدهم) . ومن هذا نعلم مدى عمق الصدع داخل الكيان اليهودي، بسبب الاختلاف الساري فيهم في فلسفتهم الاعتقادية بعد خروجهم من مصر الفرعونية، حيث تحوّلت العقيدة الى سلوك ورؤية للحياة .

انّ أشدّ الفترات على الوثنيين من اليهود كانت خلال ٨٠٠ - ٧٠٠ ق م، وهي ذات الفترة التي خرجت فيها عوائل فرعونية كبيرة من مصر عند سيطرة الأسر الليبية على الحكم، ومن ثمّ الاسرة الخامسة والعشرين النوبية، لذلك شهدت أيضاً هجرة إعداد كبيرة من الأسر الباطنية الوثنية التي كانت تدير دفّة السياسة والكهنوت في بيت عومري (اسرائيل)، وهي ذات الفترة التي شهدت انشاء (روما) ٧٥٢ ق م، لذلك لا استبعد أبداً أنْ تكون العلاقة بين هذه الحوادث وثيقة، خصوصاً مع وجود العلاقة الاعتقادية الباطنية التي اثبتناها، وفعلاً كان اليهود حاضرين بكثافة في العاصمة روما في ظلّ حكم (نيرون)، مما سمح له باتهامهم بحرق المدينة، ولا استبعد قيامهم بذلك، رغم كل الاتهامات بالامراض النفسية الموجهة لنيرون، والتي تريد تحميله وزر احراق المدينة، لأَنِّي لا اجد ذلك مبرراً مقنعاً ليقوم الإمبراطور بحرق عاصمته الكبرى .

لقد ظلّ اليهود دائرة من الضباب، منقسمين فكراً وسلوكاً حتى ظهور المسيحية، حيث آمن يهود الشتات بها، في العراق، وفي شمال افريقيا، وفي عدّة بلدان اخرى، فيما ظلّ يهود السنهدرين مصدراً لمعاداتها في اليهودية انطلاقاً من الهيكل . ثمّ تغيّر الموقف، حين صار يهود الهيكل او السنهدرين هم مَن في الشتات، وصار يهود الشتات السابقون مستقرين في اوطان تؤمن بالمسيحية .

لقد اغلقت التوراة وتلمودها الأبواب على من أراد الدخول في شعب الله، في أجلى صورة للعنصرية، مما يعني إرادة إغلاق ملف التوحيد، لولا تدخّل العناية الإلهية عن طريق (سليمان) النبي .

 

 

في المثقف اليوم