قضايا

قصة العقيدة في روما (3)

النبي سليمان ودوره في مواجهة سحرة الفراعنة وعقيدتهم المنتشرة

كان تولي سليمان الحكم في بني اسرائيل امرا ضروريا، لان مجتمعهم لم يعد تنفع فيه روحانية الانبياء كثيرا، ولكن لما فتح بنو إسرائيل ممرات الارض امام العوالم الماورائية صار على سليمان ان يغلقها جميعا، وفي نفس الوقت ان يبهر هذه العين المادية لبني اسرائيل .

جاء وصف التابوت في سفر الخروج من الإصحاح ٢٥ الى ٢٨، مع طقوس التعامل معه، وهو صندوق مُحلَّى بالذهب من الداخل والخارج، يقف عليه ملاكان (كروبان) ناشرين أجنحتهما، ويرمز الى الارتباط بالعرش الالهي، الذي هو مصدر الفيض لما دونه من عوالم . كان بنو اسرائيل يحملون التابوت معهم في ترحالهم، على أن يقوم أعضاء من سبط اللاويين بحمله، ثم وُضعت التوراة بجانب اللوحين، ومن ثم فإنه يُسمَّى أحياناً «تابوت الشهادة» . وصار التابوت رمزاً للعهد مع الإله . لم يكن يُسمَح لأحد بأن يمس التابوت باعتباره محرماً، وكان التابوت يحتوي على المن، وعصا هارون، ولوحى الشريعة أو العهد، ثم وُضع بجانبه كتاب التوراه، ولكنّ المن وعصا هارون كانتا قد اختفتا مع حكم سليمان .

ان القدرات الفيزيائية التي منحها الله لسليمان جعلته قادرا على معالجة الخلط بين الاكوان المتوازية للمخلوقات، وهو الخلط الذي اوجد الفوضى الوثنية والعملية في العالمين . كان على سليمان ان يتحرك في خطين متوازيين، الاول يقضي باغلاق المنافذ والابواب التي فتحها سحرة بني اسرائيل ومن قبلهم، عبر استخدام وسائل الملك العلمي الذي لسليمان، والثاني يقضي بايجاد مجتمع بديل عن بني اسرائيل لحمل الراية الايمانية، وكان المجتمع الاقوى ترشيحا عند سليمان هو مجتمع (سبأ) من العرب القحطانيين .

لقد فجّر سليمان ثورة معرفية، كانت لازمة لفتح اذهان الناس نحو الحقائق العلمية والطبيعة والخلق، تمهيدا لاقناع ذلك المجتمع المادي بان (السحر) ما هو الا تصرف بقوانين الكون .

«وتكلم (سليمان) بثلاثة آلاف مثَل، وكانت نشائده ألفاً وخمساً. وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط. وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك. وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته». الملوك الأول .

ان الطلب الذي اراد سليمان اجابته من ربه في تلك الظروف والعوالم المعقدة كان: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)، (ملكا) و(لا ينبغي لاحد) و(دليل الهبة الالهية)، لابد انه كان شيئا فريدا وعظيما، ومتناسبا مع طلب سليمان وظروف عالمه . ان الاهم يأتي كأول العطايا بالتأكيد، والاول ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ) تجري بامر سليمان حيث أصاب، ثم يأتي بعدها في الاهمية (تسخير الشياطين)، وهي تلك المخلوقات ذات القدرات الكبيرة . فما هي حقيقة هذه (الريح) ؟ وما دورها واهميتها في وظيفة سليمان الكونية ؟، انها بالتأكيد لم تكن من اجل تحريك (بساطه السحري) .

ان سليمان باخفائه لتلك الآلات التي تتفوق على قدرات الجن التقنية ختم مرحلة الفوضى والاختلاط بين العوالم على الارض . لكن ذلك لا يمنع ان تعود تلك الآلات للاستخدام في حالة عادت الفوضى والاختلاط بين العوالم: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ ((كَانَتْ عَصَا مُوسَى لآِدَمَ (عليه السلام) فَصَارَتْ إِلَى شُعَيْبٍ ثُمَّ صَارَتْ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وإِنَّهَا لَعِنْدَنَا وإِنَّ عَهْدِي بِهَا آنِفاً وهِيَ خَضْرَاءُ كَهَيْئَتِهَا حِينَ انْتُزِعَتْ مِنْ شَجَرَتِهَا وإِنَّهَا لَتَنْطِقُ إِذَا اسْتُنْطِقَتْ أُعِدَّتْ لِقَائِمِنَا (عليه السلام) يَصْنَعُ بِهَا مَا كَانَ يَصْنَعُ مُوسَى وإِنَّهَا لَتَرُوعُ وتَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ وتَصْنَعُ مَا تُؤْمَرُ بِهِ إِنَّهَا حَيْثُ أَقْبَلَتْ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ يُفْتَحُ لَهَا شُعْبَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي الْأَرْضِ والْأُخْرَى فِي السَّقْفِ وبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعاً تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ بِلِسَانِهَا)) . وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ ((أَلْوَاحُ مُوسَى (عليه السلام) عِنْدَنَا وعَصَا مُوسَى عِنْدَنَا ونَحْنُ وَرَثَةُ النَّبِيِّينَ)) . وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ ((خَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) ذَاتَ لَيْلَةٍ بَعْدَ عَتَمَةٍ وهُوَ يَقُولُ هَمْهَمَةً هَمْهَمَةً ولَيْلَةً مُظْلِمَةً خَرَجَ عَلَيْكُمُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ قَمِيصُ آدَمَ وفِي يَدِهِ خَاتَمُ سُلَيْمَانَ وعَصَا مُوسَى (عليه السلام)) . وعنه أيضاً عليه السلام: ((إذا قام القائم بمكة وأراد أن يتوجه إلى الكوفة نادي مناديه ألا لا يحمل أحد منكم طعاماً ولا شراباً، ويحمل حجر موسى بن عمران وهو وقر بعير، ولا ينزل منزلاً إلاّ انبعث عين منه فمن كان جائعاً شبع ومن كان ظمآن روي، فهو زادهم حتى نزلوا النجف من ظهر الكوفة)).

الواضح من الروايات ان للعصا والحجر والتابوت الذي ربما يحويهم اهمية خاصة في الربط بين عوالم الخلق، وكذلك يمكن اعتبارها منظومات للسيطرة على بوابات العوالم، بل هي اعلى واسمى، حيث انها تعتمد في العمل على القوانين الكلية المحيطة بالخلق .

لكن على ما يبدو انّ كتبة التوراة المتأخرين من كهنة السنهدرين أرادوا تضييع جهود سليمان تلك، وحاولوا أمرين، الاول هو ربطه بمصر الفرعونية، من خلال جعله زوجاً لابنة فرعون، وربما بذلك يثبتون فضل الباطنية الفرعونية علوّ شأنها على ما لدى سليمان، والثاني هو وصف مملكة سليمان بمبالغة مادية تتجاوز الواقع، ولا تتناسب مع الحدث والجغرافيا التاريخية، لطمس معالم الجهود العلمية ربما .

يقول (ويلز) في كتابه (معالم تاريخ الانسانية): ((انّ قصة ملك سليمان وحكمته التي اوردها الكتاب المقدَّس تعرّضت لحشو وإضافات على نطاق واسع على يد كاتب متأخر كان مشغوفاً بالمبالغة في وصف رخاء عصر سليمان ...)) .

لكن يبدو انّ الثأر المعنوي من سليمان على يد كهنة السنهدرين لم ينتهِ بهذه الصورة، بل جعلوا منه وثنياً دنيوياً، كما صوّرته نصوصهم المكتوبة . فيما يمكننا أنْ نرى انّ أعداء سليمان (هدد) ملك الادوميين و(يربعام بن ناباط) الاسرائيلي جميعهم التجأوا الى فرعون مصر، وهو احد فراعنة الأسرتين الحادية والعشرين او الثانية والعشرين الليبية، وبقوا هناك حتى وفاة سليمان النبي، مما يثبت كذب تلك المصاهرة المدّعاة بينه وبين الفراعنة، ويؤيد الفكرة التي ترى انّ الكهنة الذين كتبوا التوراة كانوا من الباطنيين الذين أرادوا إيجاد فضل ما للفرعونية . وكل ذلك واضح في سفر الملوك الاول من الكتاب المقدس .

اضطهاد الرومان للمسيحيين

ينقل (سلامة موسى) في كتابه (مصر أصل الحضارة) عن (إليوت سميث) انه كان ذات مرة يفحص عن القحوف البشرية في إنجلترا، وكان أمامه قحف لرأس مصري من عهد الفراعنة فوضعه مصادفة الى جنب رأس إنجليزي حديث الوفاة، فما راعه إِلَّا المشابهة بل المطابقة بين الاثنين .

ويذهب سلامة موسى لتفسير ذلك بانتماء الرأسين للشعوب الميديترانية المتوسطية . لكن ما يهمّني انّ أوربا أخذت عن مصر الفرعونية قسوتها على العقائد التوحيدية، اكثر من اخذها شكلاً خارجياً لكائن ما .

يستدلّ بعض الباحثين بوصف (تاسيتوس) للديانة اليهودية بنحو سلبي، لإثبات عجز الرومان عن فهم جوهر عقيدة التوحيد . فيما كان انتهاك الضبّاط الرومان لمقدسات اليهود أمراً معتاداً، رغم احترامهم لمعابد الوثنيين، لكنهم في مرحلة التحالف مع يهود السنهدرين اخذوا يبنون معابد اوثانهم الى جنب المعابد اليهودية .

لقد ذكرت بعض المصادر انّ (نيرون) الصق تهمة احراق (روما) بالمسيحيين ايضا، ربما لأنهم كانوا في هذا المرحلة المتقدمة من تاريخهم (٦٤ م) جزءاً من المنظومة التوحيدية اليهودية، التي كانت متهمة - لما يمتلك بعض كهنتها من تاريخ تآمري - بتدبير الكثير من الحوادث المشابهة، لا أقلّ من قتلهم الأنبياء . وربما كان كهنة اليهود - ذوو العلاقة المميزة مع الوثنية الرومانية - هم من افتعل هذه الأحداث لإيقاع الضرر على المسيحيين الذين يشكّلون خطراً كبيراً على الوثنية اليهودية الجديدة .

انّ الأحداث التي اعقبت حريق روما شهدت ما يشبه الإبادة للمسيحيين في روما، حيث حكم بالموت على اعداد ضخمة منهم، بأبشع الوسائل، فصُلب بعضهم، ولُفّ بعض اخر في جلود الحيوانات، وتمّ القائمه للكلاب المسعورة في المسرح الروماني، فيما بلغت الوحشية ذروتها عندما تمّ طلي المسيحيين بالقار والزيت وإشعالهم في حدائق روما ليلا .

اما (دوميتيان) فقد اعتبر اعتناق المسيحية جرما، وحكم على المسيحيين بالموت، ومنهم قريبه القنصل (فلافيوس كليمنس)، وصادر أموال بعضهم، ووسّع اضطهاد كنائس اسيا الصغرى، فيما ألقى القديس (يوحنا الانجيلي) في زيت مغلي في روما .

واعتبر الإمبراطور (تراجان) المسيحية ديانة محرّمة، واعتبر تجمعاتها من التجمعات السرية الممنوعة قانونا، وقد استغلّ اليهود هذه التشريعات في عهده، فاتّهموا (سمعان) اسقف أورشليم، فحُكم عليه بالصلب وهو في سن المائة والعشرين . وكذلك تمّ الفعل بأسقف إنطاكية (إغناطيوس)، فاُرسل الى روما وألقي الى الوحوش الضارية .

ورغم انّ التمييز بين الجماعتين - اليهودية والمسيحية - صار معتاداً بحدود عام ١٥٠ م إِلَّا انّ الاضطهاد الروماني للمسيحيين استمرّ وبقوة، فرضاً للديانة الرومانية، التي لم يتم فرضها سابقاً على اليهود بهذه الكيفية، بل كان الخلاف مع جزء من اليهودية، في ظاهره سياسي، فيما كانت روما تتعامل مع يهود السنهدرين بايجابية . وقد كانت أوامر روما تقضي بضرورة احترام المسيحيين للآلهة الحارسة للإمبراطورية، وتقديم القرابين للأصنام، كما يجب الاعتقاد بعبادة الإمبراطور ذاته .

وحتى على مستوى إمبراطور فيلسوف ومثقف مثل (اوريليوس) لم تكن المواجهة لتخفّ، بل انتقلت من التجريم القانوني للمسيحية الى تجريم وجودها فلسفيا، فهدّد من يُخَوِّف النَّاسَ من الله بالنفي . وفي عهده - الذي انتشرت فيه الكوارث الطبيعية ضمن رقعة الامبراطورية - تمّ إرجاع ذلك الى ذنوب المسيحيين واسائتهم للآلهة الرومانية، لذلك تمّت محاصرتهم اجتماعيا وسياسيا . وكانت هناك عمليات اضطهاد واسعة في ليون ١٧٧ م .

وفي عهد (سبتميوس ساويرس) نجد التناقض الذي يكشف عن وجود نوعين من المسيحية، كالنوعين الذين انقسمت لهما اليهودية من قبل، حيث رغم وجود بعض المسيحيين في بلاط هذا الإمبراطور كطبيبه (بروكولس)، إِلَّا انه اصدر مرسوماً يمنع المسيحيين من الدعوة الى دينهم والتبشير بما جاء فيه، فتعرّض المسيحيون في مصر وشمال افريقيا على اثر ذلك الى مذابح عديدة، لا سيما في قرطاجة ٢٠٣ م .

امّا (مكسيميانوس) الذي سمح للشعب في المشاركة باضطهاد المسيحيين، فقد وجّه غضبه نحو الأساقفة الكبار، حتى انّ معاملته مع المسيحيين وصفت بالبربرية القاسية .

فيما قرّر (ديسيوس) عام ٢٥٠ م انّ من يكتفي باسم المسيحي ولا يقدّم الأضحية للآلهة الصنمية يتعرّض للملاحقة، وهو القانون الذي أعاد (فاليريانوس) تأكيده عام ٢٥٧ م . وقد كانت عمليات إعدام المؤمنين المسيحيين تؤخِّر فرص الوصول الى اتفاق . حيث أراد (ديسيوس) اعادة الديانة الامبراطورية القديمة، فاستغلّ حكّام الأقاليم هذا المرسوم وصاروا يذيقون المسيحيين أشدّ انواع التنكيل والعذاب، حتى ضعف بعضهم وقدّم القرابين للآلهة الوثنية، لكنّ الكثيرين فضّلوا السجن او الموت على ذلك، ومن هؤلاء مرقوريوس وفابيانوس الروماني وبابيلاس الأنطاكي وإسكندر الأورشليمي .

فيما كان عهد (فاليريانوس) متناقضاً كعهد (سبتميوس ساويرس)، حيث تضمّن بلاطه مجموعة من المسيحيين إِلَّا انه اصدر قرارات اجرامية ضدّ العموم المسيحي، وقرّر إعدام كبار رجال الدين المسيحيين، ومصادرة املاك الأغنياء وألقاب الفرسان والنبلاء منهم، فيما تسلب أموال النساء المتزوجات ويتم نفسهن، والصغار يتم أخذهم للعمل في ضياع الإمبراطور سخرة . وممن تمّ قتلهم في عهده (سكستوس الثاني) اسقف روما و(كبريانوس) اسقف قرطاجة .

وحين جاء (اوريليان) اصدر اوامره بقتل المسيحيين من جديد، رغم فترة الهدوء البسيطة نسبياً قبله . وقد خلفه مجموعة من الاباطرة كانت فترتهم هادئة قياساً الى عهده حتى مجيء (ديوقليديانوس) .

لقد دخلت المسيحية في صراع غير متكافئ ماديّاً مع الوثنية العتيقة للرومان، وقد كانت صور الموت منتشرة ومعتادة بين المسيحيين المؤمنين، والذين دخلوا في عصر الشهادة، ليواجهوا هذا الطغيان الكبير .

يقول اسقف الغربية الانبا (يؤانس) في بحثه (الاستشهاد في المسيحية): ((كانت الوثنية هي العدو الأكبر الذي تصدى للمسيحية، وقاومها مقاومة المستميت، وحاربها حرب الإبادة، حرب الحياة او الموت . ولا يسجّل التاريخ صداماً أقوى وأطول وأكثر وحشية من ذلك الصراع الذي احتدم بين روما الامبراطورية الوثنية بآلهتها واباطرتها وجحافلها، وبين المسيحية التي ظهرت على مسرح العالم بلا سند من قوة زمنية، وبلا سلاح حربي ...)) .

ونظر الرومان للمسيحية على انها خرافة، لا ديانة، دنيئة لا تستحق ان ينظر اليها - بحسبهم -، فواجهوا انتشارها باعتبارها محرّمة رسمياً . وحسب رواية (ترتليانوس) صار التعبير الموجّه للمسيحي هو ((لا حقّ لك في الوجود)) .

لم يكن المنطلق الديني بالمعنى الفلسفي هو وحده ما يبعث على التحريض وقمع المسيحية، بل كان هناك الباعث النفعي المستغلّ للدين، كما هي دوافع (ديمتريوس) الصائغ في (افسس)، وايضاً دوافع تلك الساحرة في (فيلبي)، حيث يشرح حاكم بيثينية (بليني الصغير) عام ١٠٠م في تقرير للإمبراطور كيف تسبب انتشار المسيحية وزيادة عدد معتنقيها في تقليل عدد التقدمات للآلهة، وهو ما يعني انحسار سوق الذهب والبخور وغيرها، كما هو انحسار شديد لعمل العرّافات والكهنة .

كان المسيحي مكشوفاً للسلطة، حيث يعاني الانفصال عن لغة المجتمع الوثنية، وسوقه الوثني، وأعياده الوثنية، وأسرته الوثنية، وطقوسه الجماعية الوثنية، لذلك كان يعاني في كل نَفَس وفي كل خطوة .

ومن القصص التي يوردها (يوسابيوس) تلك التي تحكي استشهاد الضابط (مارينوس) في قيصرية، حيث دُعيَ للترقية الى رتبة قائد مائة، لكنّ زميلاً له طعن فيه، واتهمه بالمسيحية، فأعطى القاضي لمارينوس ثلاث ساعات ليختار بين الإنجيل والسيف، فاختار الإنجيل، وقضى شهيدا .

وفي مرحلة تاريخية متأخرة بحدود ٣٠٦ م كانت كافية لإدراك المعاني الفلسفية والمعرفية والروحية للمسيحية زار الإمبراطور (ماكسميانوس) قيصرية، في ذكرى ميلاده، وفي عادة هؤلاء الاباطرة الوحشية والسادية والدينية في نفس الوقت قرّر تقديم اضحيات بشرية تبتلعها الحيوانات المفترسة، فجاء باثنين، احدهما مسيحي هو (اغابيوس)، والآخر مجرم وثني قاتل، لكنّه اطلق سراح القاتل، وعرّض المسيحي للاستهزاء في العامَّة، ثمّ القاه الى أنثى دب جائعة، ولمّا لم يمت القاه في البحر .

وقد وصل الامر في ليون وفيينا الى منع المسيحيين من الدخول الى الاسواق والحمامات العامة، وذلك في عهد (اوريليوس)، من خلال تحريض العامَّة من الوثنيين وترك الامر اليهم، حتى انّ الجمهور أخذ يعذّب المسيحيين ويقتلهم، ومن ثمّ ألقى جثثهم في نهر الرون . فيما كانت بيوت بعض المسيحيين تتعرض للسرقة والحرق .

وفي احدى المحاكمات الغريبة لرجل دين مسيحي في ازمير يُدعى (بوليكاربوس) كان القاضي يصادق على رغبات الجمهور الوثني كاحكام قانونية، وحين دعوا لحرق الرجل اقرّ القاضي ذلك، فجمعوا الحطب استعداداً لذلك في الحال .

قام الرومان باضطهاد المسيحيين في مصر، باعتبارهم خطراً يهدد سلامة الدولة، لعدم مشاركتهم في إقامة الشعائر وتقديس تماثيل الاباطرة . وقد بدأ اضطهادهم في مصر بطريقة منتظمة خلال حكم (سبتميوس سفروس) بحدود ١٩٣ - ٢١١ م، وبلغ اشدّه في أواخر عصر (دقلديانوس) في حدود ٢٨٤ - ٣٠٥ م، وهو ما تسمّيه الكنيسة (عصر الشهداء) .

انّ القراءة المسيحية المعاصرة لفترة الاضطهاد الأكبر والأبشع والاقسى في تاريخ المسيحية خلال عهد (دقلديانوس) ليست قائمة على منطق عقلي فاحص . انها قراءة ترى فترتين من التسامح والاضطهاد، من تغيّر المواقف السياسية، من الاختلاف بين الشرق والغرب صدفوية، لكنّ الامر ليس كذلك .

انّ (دقلديانوس) خرج بأمر إهلاك المسيحية من داخل الغرفة المقدسة في المعبد، وهو الرجل الذي كان يشغل المسيحيون الكثير من الوظائف داخل قصره، فيما كان صهره (جالريوس) وثنياً متعصباً، وهو زوج (فالريا) ابنة الإمبراطور التي كان البعض يراها مسيحية، وكذلك أمها (بريسكا) ! . انّ هذه الشبكة التي احرقت المسيحيين لاحقاً لم تكن يوماً لتؤمن بالمسيحية أبدا، لكنها بدأت مشروعاً جديدا، حين وصلت بالمسيحيين الى ما وصلت اليه الفرعونية باليهود، حينما جعلت منهم قسماً يهوداً وثنيين، يقودهم كهنوت الظلام في السنهدرين، كذلك أصبحت المسيحية على قسمين، نتج احدهما عن كهنوت الظلام الجديد الذي اخلفه (بولص) .

انّ هذا المشروع يقتضي إبادة كل الجماعات المسيحية التي لا تزال توّحد الله، والإبقاء على الجماعات البولصية، التي ستتعبّد بالديانة الرومانية الجديدة، وهي القائمة على الوثنية البولصية، التي يمكن ان نسمّيها النسخة المحدِّثة عن الديانة الرومانية القديمة، والتي هي أيضاً كانت نسخة محدثة عن الديانة الفرعونية القديمة .

لذلك كانت قسوة المشروع الخبيث هذا تصب جام غضبها على المسيحيين الشرقيين الموحدين، وتلك الشعوب التي ترتكز الى فلسفة التوحيد الإبراهيمية، فيما الجماعات المسيحية في الغرب التي ترتكز الى أصل وثني تمّ تلويثه بالبولصية الوثنية فتمّ الإبقاء عليها، لتكون الارضيّة المستقبلية لانطلاق المسيحية الرومانية .

وسواءً كان ما نقله (شاف) عن لسان الكاهن وهو حرم الآلهة مخاطباً الإمبراطور - الذي يرافقه خدمته من المسيحيين - ((انّ الآلهة لا تتكلم في حضرة اعدائها))، قاصداً أولاء المسيحيين، او ما نقله (لكتانتيويس) من تأثير صهر الإمبراطور (جالريوس) الوثني المتعصب المتعطش للدماء، من أسباب لثورة (دقلديانوس) الأعنف ضد المسيحيين، فذلك لا يبرِّر قسوتها ومنهجيتها وتخطيطها العالي . انّ السببين الذين تمّ ذكرهما آنفاً كانا عاملين ساعدا في تحقيق الرغبة الوثنية الوحشية للإمبراطورية، والمنسقة بإتقان، لابادة مسيحيي الشرق، والإبقاء على المسيحية البولصية (الكاثوليكية) في الغرب . اذ لا يستطيع كاهن ما التحدث باسم الآلهة بحضور الإمبراطور، والذي هو الكاهن الأعظم وابن الآلهة، فضلاً عن اخباره بامتناعها عن الكلام، وليس الإمبراطور ساذجاً وهو يرث هذا العرش الضخم ليكون تحت تأثير (جالريوس) زوجة ابنته، التي يُفترض انها مسيحية ! . انّ هذه العمليات كانت مخاضاً اوليّاً لولادة ديانة جديدة، سرقوا لها عنوانا، وتبع ذلك مجموعة مخاضات لاحقاً في عموم أوربا، لتبدأ سلسلة من الأفكار والجماعات والهوس، حتى الوصول للقرن الأخير المعاصر، كل ذلك بخدعة قديمة، تمّ تطبيقها لأوّل مرة من قبل الحضارة القابيلية الاولى .

اصدر (دقلديانوس) مرسوماً عام ٣٠٣ م يقضي بهدم الكنائس وحرق الكتب المقدسة وطرد ذوي المناصب الرفيعة وحرمانهم من الحقوق المدنية وحرمان العبيد من الحرية إِنْ اصرّوا على المسيحية . فيما نصّ المرسوم على عقوبة لم يحدد ماهيتها .

لقد بدأ تنفيذ المرسوم مباشرة في عيد (الانتهاء)، بعد ان تمّ تعليق منشور المرسوم على جدران القصر الإمبراطوري ذاته، لذلك كانت كنيسة (نيقوميدية) القريبة منه اوّل ضحايا قرار الهدم هذا، لتسري هستيريا القتل والهدم في جميع الأقاليم .

وفي خطة جديدة قديمة أيضاً قام شخص ما بإحراق اجزاء من قصر الإمبراطور، وبالتالي اتهام المسيحيين بتهمة محاولة حرق الإمبراطور وصهره احياء، فانفجر العنف والقتل والحرق ضد المسيحيين كبركان . وهو الحريق الذي نسبه (قنسطنطين) للإضاءة لاحقا، بعد استتباب الأمور للمسيحية البولصية، لتبرير إعلانها ديناً إمبراطوريا، رغم اتهامها بالإجرام سابقا .

وأصدر (دقلديانوس) مرسومين اخرين، يقضيان بسجن جميع شيوخ الكنائس، وتعريضهم للتعذيب، بقصد إجبارهم على ترك الإيمان بالمسيحية .

اما الخطة التي انتهجها (دقلديانوس) لاصدار أوامر امبراطورية يتم تطبيقها في اقليم دون اقليم اخر، وكذلك تمكّن الامبراطورية من الاشراف المباشر والسريع على إبادة المسيحيين، فكانت بتقسيم الامبراطورية الى أربعة أقاليم، تخضع لروما مركزيا، لكنها تحت حكم حاكم برتبة (إمبراطور) . فكان (دقلديانوس) حاكماً على الشرق في اسيا ومصر وتراقيا، وجعل مقرّه في (نيقوميدية)، وكما هو واضح فالشرق مهد المسيحية ومصدر قوتها الفكرية والبشرية، ومن ثمّ (جالريوس) الذي حكم الدانوب لبعض الوقت، لكنّ الحاجة لسرعة الإبادة جعلت (دقلديانوس) يستدعيه الى الشرق، و(مكسميانوس هركوليوس) على إيطاليا وإفريقيا، و(قنسطنطينوس كلوروس) على (غاليا) التي هي فرنسا حالياً بما يتبعها من أقاليم، وهو والد (قنسطنطين الكبير) الذي اقرّ المسيحية كدين رسمي لاحقا .

وقد اصدر (مكسميانوس هركوليوس) قراراً امبراطورياً أيضاً يقضي بإرغام جميع المسيحيين في المدن والقرى على التضحية للآلهة .

لكنّ ملامح تلك المؤامرة الكبرى ضد الشرق المسيحي الموحد والفيلسوف تكشّفت عندما اختار (دقلديانوس) قبيل استقالته عام ٣٠٥ م (مكسميانوس دازا) قيصراً، وأطلق يده في سوريا ومصر، وهو ابن اخي المتشدد الوثني (جالريوس) . ولمعرفة شخصية (دازا) هذه يكفي ان نعرف انه اصدر مرسوماً يقضي بإعادة بناء مذابح الأوثان، وان يقدم الرجال والنساء والأولاد وحتى الرضّع الذبائح والتقدمات للآلهة، وتذوّق تلك التقدمات بالاكراه، وتدنيس الأطعمة التي تباع في الاسواق بسكائب الذبائح تلك، ووقوف الحرّاس امام الحمامات العامة لتدنيس من يدخل اليها للاغتسال . وفي عام ٣١١ م امر (دازا) ببناء الهياكل في كل مدينة وإعادة الأحراش الوثنية المقدسة التي ازيلت سابقا، وعيّن كهنة الأصنام، وجعل عليهم في كل مقاطعة رئيساً، ومنح جميع السحرة وظائف ادارية، وأمر لهم بامتيازات خاصة .

وكما هو مكشوف فقد اقتصر الاضطهاد العام تحت قيادة (دقلديانوس) على الفترة (٣٠٣ - ٣٠٥)، لكنّه في الشرق الذي يديره (جالريوس) و(دازا) استمر لفترة طويلة (٣٠٣ - ٣١١)، فيما كانت اقسى فتراته التي اقتصرت على الشرق خلال (٣٠٨ - ٣١١) م .

وفيما تصف الكنيسة المعاصرة - بسذاجة - القيصر (قنسطنطين كلوروس) بالعطوف على المسيحيين في الغرب، وتُرجِع لابنه (قنسطنطين) الفضل في الاعتراف بالمسيحية والتسامح الديني، تفوتها تلك المؤامرة على مسيحية الشرق الموحدة، ضمن لعبة لانعاش القابيلية الفرعونية الرومانية، تحت راية المسيحية، بعد ادراك الرومان قوّة هذه الديانة، وشريانها في المجتمع العالمي رغماً عنهم .

 

في المثقف اليوم