قضايا

العمارة والعمران.. ممارسة أخلاقية

ali theuany2شكلت الأخلاق جوهر الدين ونصفه الملموس المعادل لهواجس النفس والغيب وعشواء الأقدار، وأطر فكريا كعلم وفلسفة يدرس سيرة الإنسان وطبيعة الحق والباطل والصواب والخطأ والخير والشر، وسيرة الإنسان وشخصيته وقيمه، وواجباته نحو ذاته والمجتمع. ورصدت ثلاث توجهات لتأويله، الأولى نسبية تدعي: إن الصواب والخطأ كلاهما مرهون بنوعية ثقافة المجتمع، فما هو صائب قد يكون خاطئ في مجتمع آخر. والثانية مثالية تقر بوجود معايير موضوعية للصواب والخطأ يمكن اكتشافها وانطباقها على أي إنسان. والثالثة تقول: إن كل المعايير الأخلاقية ما هي إلا مسائل لها علاقة بالذوق أو الرأي.

وظهر أثر ذلك مفهوم المدينة الفاضلة والمجتمع المثالي منذ السومريين . وأنتقل من تراث العراق والشام ومصر إلى اليونان بعد ألفين وخمسمائة عام، وتجسد من خلال مذهبي الرواقية والأبيقورية، وذلك بعد وفاة أرسطو عام 322ق.م. ومن تعاليم تلك المدرستين أن الهدف من المعرفة هو تمكين الإنسان من أن يحيا حياة هانئة راضية. وذكر مؤسس الرواقية( زينون الرواقي)، إن الإنسان يجب أن يسعى للتحلي بالفضيلة التي هي أعظم الخصال الحميدة. وآمن الرواقيون بـ الحتمية المحضة أو الجبرية عند المعتزلة في التراث الإسلامي، وفحواها الاعتقاد بأن جميع الأشياء محكوم عليها أن تكون على ما هي عليه، لذلك يجدر بمن يتحلى بالحكمة والفضيلة أن يرضى بما لا سبيل إلى تغييره، وأن يبذل ما في وسعه لكي يستفيد منه. وأثرت الرواقية في المسيحية والمانوية قبل الإسلام.

وصنفت الشريعة الإسلامية الأخلاق إحدى ثلاث، غيرالعبادات والمعاملات، وكانت أهمها، بينما العبادات فهي صلات بين العبد وربه. ونعت النبي محمد (ص) في سورة القلم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم)

و قابلت (التزكية) الأخلاق، وتواترت ست مرات في الذكر الحكيم، وجاء الثواب لمن يمارسها في قوله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى). وكان النبي محمد(ص) قد أوجز الصفات الأخلاقية حديثا: (أوصاني ربي بتسع وأوصيكم بها أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطى من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرا. )

وفي التراث الإسلامي أختص ثلاثة مفكرين في شرح الظاهرة الأخلاقية: ابن مسكويه، صاحب (كتاب الطهارة)، وصنف الأخلاق نصف لّقاني ونصف تجريبي. والثاني هو الإمام الغزالي، ضمن سياقات شكه الذي قربه من اليقين القيمي.والثالث العالم نصير الدين الطوسي البغدادي، وقد قلد العلوم في مثالياته الأخلاقية قياسيا، وأستخلص الفضائل والعيوب من تعداد خصائص النفس بطرق منطقية رياضية، وعدد خصائلها بأربع هي الحذر والشجاعة والاعتدال والعدالة، وعكسها الجهالة والجبن والطمع والظلم. ويعد الفضائل توسط بينما العيوب فأنها تطرف متناه، أو فسادا في الفضيلة، وبذلك فهو متفلسف زاهد في معالجتها بأساليب أصولية.

وفي الأزمنة الحديثة ظهرت العناية بالأخلاق في الفلسفات الغربية على يد ثلاث فلاسفة "عقلانيين"هم ( ديكارت) و(لايبنيز) و(سبينوزا)، والأخيرأراد أن يشرح كيف يمكن للإنسان أن يكون حرًا عاقلاً راضيًا مرضيًا في هذا العالم الذي تسيِّره الحتمية. ونجد رأيا للألماني فريدريك نيتشه، "وكان ملحداً" ؛ وتنبأ بظهور (السوبرمان) أو الإنسان الأمثل، الذي لا يحتكم للأخلاق لأنه من صفات الضعفاء!. فالسلوك ينبغي أن يكون قائمًا على إرادة القوة؛ أي ميل الإنسان للسيطرة على غيره والتحكم في أهوائه، وهذا ما طبقه المحتلون والغزاة في كل زمان ومكان.ونقرأ في الحداثة رأي للأمريكيان لاكوف وجونسون(Lakoff& (Johnson في كتابهما(الفلسفة في الجسد), بأن علم الدلالة الذهني, يقدم لنا الوسيلة التي تمكننا من تقديم تحليل مفصل وشامل لكل المفاهيم الأخلاقية, وأن اللاوعي الذهني يحتوي على منظومة واسعة من الاسقاطات الاستعارية لفهم أفكارنا الأخلاقية والتفكير فيها, وتوصيلها "للآخرين".

ومن جميع الآراء فأن الإنسان يشكل خلية داخل نسيج المجتمع، ويترتب عليه إقامة علاقة عضوية بينهما ويترتب على ذلك حقوق وواجبات، وطرق في المعاملة. أما الصلة بالعمارة، فان المعمار فرد في المجتمع تنطبق عليه هذه الصفات، وهو الأجدر بممارستها كونه يملك زمام تنظيمي-تشريعي لشؤون المجتمع. مما يرسم له منهجية أخلاقية مركزة، يمارس خلالها الصدق والأمانة والصراحة والوضوح، ويبث رهافة إحساسه ويفرق في غاياته، فهو يضفي خصوصية على المكان، وعمومية إجتماعية على المباني العامة أو العمران. وفي خضم تلك العملية الإبداعية يوجه الفنون ويستثمرها لصالح إسباغ الجمال المشذب لروع الإنسان والمهذب لأخلاقه، التي تضطلع بصفة الغايات في إطار منهجية صادقة للتعامل مع المكان والزمان، على أن تكون العمارة مرنة، لدنة وعضوية مثلما هو نمو وتطور الكائن والمجتمعات، وثابتة صلبة، وأمينة ومكرسة لثوابت الأخلاق.

وثمة تداخل جوهري بين المفهوم الأخلاقي والعمارة، حيث أشاد الناس بيوتهم من حاجة بإيعازات روحية وإملاءات فكرية. وترتب على تلك الممارسة عاطفة إنسانية وأعراف وطقوس، حتى لنجد اليوم في اليابان أن الجار الجديد يعرض مخطط داره على جيرانه ليوافقوا عليه، وتناقش الارتفاعات والطرز وتفاصيل البناء والتفاهم على لون الواجهات، التي تتماشى مع ذوق الجار الأقدم!.

وفي التراث الإسلامي نجد جملة تعاليم في حضوة المحيط البشري والبيئي على مبدأ (لا ضرر ولا ضّرار) . ويعني أن للفرد أن يتصرف كما أراد إذا لم يضر بالآخرين، وأن لكل فريق في البيئة الحرية في التصرف إذا انعدم الضرر. وأن تفسيرات الفقهاء تتعامل مع الأفعال الضارة بالغير خارج حدود عقار الفريق المتصرف وليس داخله . فلا يحق لكائن من كان أن يمنع شخص من بناء غرفة في حديقة منزله إذا لم تثبت العلاقة بين هذه القرارات وضرر الجيران . فللإنسان التصرف داخل حدود ملكه إذا لم يضر بغيره دون الاستئذان المسبق من أحد.

وفي عمارة المسلمين ثمة مفهوم ( تطاول البناء Regime of high)، وتعني أظهر الطول أو تكبر أو ترفع، وهو نظام الارتفاعات العام لمباني المدينة أو جزء منها. وورد في الحديث المنسوب للنبي (ص) (لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان) وورد كذلك (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاه يتطاولون في البنيان). وجاء في حديث أبن السائب عن الإمام الحسن بن علي (ع) قال: (كنت أدخل بيوت أزواج النبي (ص) في خلافة عثمان(رض)، فأتناول سقفها بيدي) . كتب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب(رض) لولاته: (لاتطيلوا بناءكم فانه شر أمامكم) .ولا أعلم الجدوى الاخلاقية من حمى التطاول والتهافت على الإرتفاع اليوم في مدن الإسلام والأجدر إفتراش الأرض بالبنيان وإعمار الأرض.

لقد تحاشى(معلم-أسطة البناء) أي إطلاله أو أشراف من بناء على آخر أو فتح النوافذ بإتجاه الجيران مما يلغي الخصوصية. ورسم الأمر ملامح خط السماء للمدينة الإسلامية ( sky line) بهيئة متجانسة ومنسجمة. ونظرللمفهوم في تخطيط المدن الحديث وعرف بكونه النظام الذي يحدد عدد طوابق المباني، متماشيا مع موقعها واتجاهها بالنسبة لجيرانها من العمارات، وأتخذ ذلك أساسا في عملية التصميم المعماري.وأمست معيارية النجاح لخطط التهيئة الحضرية، تحاشي التناشر بالإرتفاعات، وإنسجام في الأشكال والطرز والألوان. وحسبنا أن مدننا الحديثة تبدوا محاولات ذاتيه تنم عن أنانية المعماري وفوضى وتناكف وتناشز ونزق،  ومحاولة للتمظهر والتميز على حساب الجمال والثوابت الأخلاقيه سواء أكاديمية أو موروثه.ويرافقها فوضى تشريعية وإدارية تعكس الهبوط القيمي والتأهيلي للسلطات ومسيري الدولة.

إن عمارتنا التي عكست حس الناس وأخلاقهم، تداعت اليوم إلى هبوط، يفرق الأجيال السابقة عن الحالية. وإذا أريد إصلاح أخلاقي للناس فثمة ضرورة لإصلاح المنتج العمراني والمعماري. فشجون العمارة تمثل الفاصل الأخلاقي(athics) بين سلطة الحاكم ووعي المحكوم. وها نحن نحصد اليوم زرع الحداثة التي تداعت وبال، وحسبنا أن ظهور (الإرهاب) أمر مسترسل من تلك الأسباب الكامنة في مكوننا النفسي والإجتماعي، ويبقى الإرتقاء المعماري العدو الحقيقي، للهبوط النوعي للبشر.

إن أحياء باريس الهامشية أمست بيئة مناسبة لكل الإضطرابات وهياجانات التشفي بـ(الحرق) عام 2005، وكان مصدرها احياء المهاجرين المهمشين. وشهدنا تجربة طبقت في شمال لندن، بضاحية (لوتن Luton) عام 2012، حيث أختيرت أماكن خربة يأُمها الكحوليين ومتعاطي المخدرات والدعارة في ثنايا المدينة، وتم تنفيذ خطة لتهيئتها عمرانيا بحيث يضفي عليها تنظيم ونظافة من خلال العَمارة الحدائقية (landscape) وتشجر بعناية وتشذب وتزود بالنافورات والأرائك والأثاث المديني والإضاءة. وبعد الإفتتاح عاد إليها روادها الأوائل، فوجدوا أن بؤرتهم ومكان عبثهم، قد أمست حضارية ونظيفة، ولم تعد يناسبهم، وهكذا تواروا عن الأنظار بعد حين،  ليجدوا لهم مأوى متسخ آخر يجمعهم. وكأنهم يطبقوا الهاجس الفطري بأن (الشيطان يسكن في الخرائب والفراغ الحضري). فلاننتظر من القبح والإهمال والخرائب إلا مخربين يجدون لهم العذر والوسيلة"الأخلاقية". وإن التهيئة الحضرية تحفز الإنسان على تلقف الخير مثلما الغابة التي تجتذب الغيوم والغيث على عكس الأرض المجدبة.

 

د.علي ثويني

 

 

في المثقف اليوم