قضايا

تأسيس المدن من "تفويض أنانا" إلى فوضى الأنانيات..

ali theuany2نعد إنتقال الإنسان إلى تجمعات القرية ثم المدينة،إنتقالة كبيرة في الإرتقاء الإنساني من الهمجية إلى الحضارة، مثلما هي إنتقالاته السابقة من القنص للزراعة أو مايطلق عليه في الغرب "النقلة النيوليتية" أو العصر الحجري القديم 6000ق.م، والتي لا بدَّ أنها قد دامت فترة أطول مما كنا نعتقده. ويقدر العلماء إن نشوء المدن جاء بعد مرور 99% من عمر الوجود البشري على الأرض. فهي مرحلة تدل على إدراك الإنسان بان قدراته الذاتية المتنامية تمنحه حق السيادة على الطبيعة، ليضعه هذا الوعى فوق الطبيعة وليس خارجها،وقد أطلق السومريون على تلك الحركة الجريئة (تفويض أنانا) حينما تنازلت الآلهة للبشر عن بعض مهامها. وربما جاءت القفزة "بحسب راي توينبي"، من شعور الإنسان بأن يقابل تحدي الطبيعة بما يعاكسه، وربما يغلبه من أجل بقاءه وإستمرار نوعه.

 لم يكن نشوء المدينة مصطنعًا قطعًا، إنما جاء نتيجة تطور طبيعي لما أستجده الإنسان، ووصفه أرسطو بأنه فعل من أفعال الطبيعة، أو أفلاطون بأنها نشأت (حين لم يعد في وسع تلك التجمعات البدائية الاكتفاء بذاتها)، مما ولَّد الضرورة إلى تجمُّع أكثر تنظيمًا.وفي تراثنا أقر (أبو البيروني 326هـ- 440هـ\ 973 -1048 م) بأن الإنسان مجبول على تقبل العلم وإدراك الحقائق العلمية والكشف عنها، وأن هذا الكائن كان في بادئ الامر يعيش في عزلة ولا ينعم بالتمدن،ولكن إستعداده العقلي حمله على الإقلاع عن تلك الحياة والإقبال على التمدن (1).

وتعّد القرية حالة إنتقالية بين مراحل أولى جاءت نتيجة تراكم تاريخي كمي وكيفي بطئ تبع الخروج من الكهف الصخري ثم البيت الدائري فالمضلع ، ثم إمتهانه الزراعة التي أملت درجة استقرار معينة في عملية الإنتاج الجماعي الذي شكل سلوكه الخاص والعام. وتشير البحوث الحفرية بأن الشرق القديم أكتنف نشوء اقدم التجمعات البشرية في التأريخ، مثل أريحا الفلسطينية قبل حوالي 9500 عام(تل السلطان)، والقرية تقع بمنخفض يبلغ 260 مترا تحت مستوى سطح البحر مما يجعلها اخفض بلدة على الأرض ،ولا شتاء بها. وأظهرت الحفريات عن 23 طبقة من القرى ، وتوجد مبان ماثلة ، منها اقدم السلالم الحجرية القديمة واقدم سور وبرج دفاعي. ثم نجد مغارة الكارين في مدينة أنطاليا لاناس كانوا يحتمون في بيوت تحت الصخور والمغارات. . أما في العصر الحجري الحديث( 5500- 4000 ق.م)  فيمكن أن نجد في الأناضول واحدة من اقدم التجمعات البشرية في تشاطال هويوك و الحاجيلار ويحويان معالم دينية و هيكل الأله الأم, و أختام, و أوعية من الفخار وأدوات عظمية للزراعة. ونجد لاحقا (جرمو) شمال العراق 6750 ق.م بـ16 طبقة. وسامراء(تل الصوان)،بثمان طبقات، وتبة ﮔورا شمال وسط العراق ثم حضارة (خلف) على الخابور .أما في العصر الحجري الحديث (4000-3500 ق.م) : فنجد بقايا لأدوات نحاسية وحجرية للحياة اليومية, في مواقع مثل الحاجيلار, و جان حسن, و تيلكي تبة, و الاجا هويوك, و علي شار،وكذلك قرية (خيراخيتا) في قبرص التي لاتنفصم عن سياقات التطور في الشام وآسيا الصغرى، وصولا إلى حضارة العبيد في جنوب العراق والخليج العربي من أواسط الالف الخامسة قبل الميلاد.ثم توج ذلك الدفق من التجريب في مادعي عند المؤرخين بـ(ثورةالمدن) التي حدثت في العراق 3600 ق.م ثم إنتقلت إلى وادي النيل(طيبه) 3000ق.م والشام(إيبلا)  2500 ق.م والسند 2200 ق.م (موهانجودارو) ، وفارس(أكباتان) 800 ق.م ، واليونان 700 ق.م (كورفو) . أما روما القديمة فتأسست كقرية زراعية عام 735 ق.م على يد شعب الأتروسكيين السومري الذي هاجر من سواحل الشام حوالي 1000 ق.م.ثم شاعت الظاهرة المدينية في أرجاء المعمورة وحطت رحالها في أسكندنافيا التي شرعت بعد العام 1100م، حيث تأسست ستوكهولم عام 1250م. وهذه المعطيات أثبتتها حفريات المدن، وهي تناكف المفهوم الغربي الذي مازال يصر على أن الهجرات البشرية والتطور الحضاري إنتقل من شمال الأرض نحو وسطها وجنوبها، ضمن سياقات"المركزية الغربية"، ومقاصدها المنحازة.

وبالرغم من الفخر الذي أسبغ على سومر رائدة المدن الأولى ،إلا إنها كانت بلاد صغيرة ،وبلغت مساحتها مثل مساحة بلجيكا. ومناخها جاف وحار وجل أرضها أجمة (بطائح-أهوار) وتخومها صحراء،وجنوبها بحر لاينتفع بماءه. لذا  فان (مهد الحضارة ) هو عمليا  رقعة من الأرض تمتد من شمال بغداد إلى البصرة والخليج العربي،ويمتد تأثيره وشوطه حتى أدناه في مجان(عمان)، التي توحي بأنها المصدر الذي جاء منه السومريون الذين وصفوا بلد منشأهم "جبل يتاخم بحر" وأن (آرتا) مدينتهم التي تركوها وراء الجبال.

وقد فرق لويس ممفورد في كتابه (المدينة) بين القرية والمدينة، بحسب عدد سكانها ليطأ خمسون الف ساكن ، وكانت بغداد العباسية(تأسست 762م) أكبر مدينة في التأريخ وصل عدد سكانها مليوني ساكن في القرن التاسع الميلادي ، وسبق لندن بألف عام. لقد قام المعمار عصام غيدان بدراسة مقارنة بين طبيعة الحياة الفطرية والطفيلية التي تقوم عليها معيشة اهل مدينة (لامه Lamu) الواقعة على ساحل كينيا. وبحث مساحة الأرض التي تقابل عدد بعينه من السكان لغرض تغطية حاجاتهم الغذائية،وتوصل إلى معادلة رقمية بهذا الشأن، وحينما سألناه عن إمكانية تطبيق ذلك على مدينة متروبوليتانية مثل لندن ونيويورك وباريس وطوكيو مسرحها الغذائي الأرض كلها، فالكل على الأرض يكدح من أجل إطعام أهل تلك المدن المترعة حد الثمالة بالدعة والترف. وإن إشكالية إطعام السكان من غلال الأرض كان قد أرق الإنسان وشغله طوال الأزمنة، وفي الأزمنة المتأخرة كتب عنها عام 1798م روبرت مالثوس Robert Thomas Malthus  في دراسة تحت عنوان (مقالة حول مبدأ السكان)An essay on the principle of population) ، ناقش من خلالها العلاقة بين حجم السكان والموارد الغذائية المتاحة، ونبه من الزيادة السكانية غير المتناسبة مع الموارد الغذائية. و أقر بأن السكان يزدادون بمتوالية هندسية، بينما الغذاء يزداد بمتوالية عددية، وإن زيادة السكان يرافقها الجوع والبؤس مالم يحسّن الإنسان الإنتاج لزيادة مصادر الغذاء. فثراء الأمم أرتبط بكثرة الإنتاج وقلة السكان، حتى سبعينات القرن العشرين حينما توصل عالم إقتصاد سويدي الى مفهوم (التنمية البشرية) التي تجعل من الكثرة السكانية بؤرة للإستثمار الإقتصادي من خلال زيادة التأهيل للفرد والجماعة، بما يضمن لها مصادر مستدامة للعيش.

لقد طرح موقع RealLifeLore فكرة مثيرة ، تتعلق بحشر جميع سكان الكرة الأرضية في مدينة واحدة، فما مقدار المساحة القادرة على استيعاب هذا العدد الضخم؟ وما هي الحاجة لذلك؟.وقد تناول الموقع أمثلة في العالم الحقيقي للمدن ذات الكثافة السكانية العالية لتوضيح هذه الفكرة، فعلى سبيل المثال: سنغافورة، وتعد حاليا المكان الأكثر كثافة سكانية في العالم، حيث يعيش حوالي 7610 أشخاص في كل كيلومتر مربع. حيث يمكننا حشر كل سكان الأرض البالغ عددهم 7.4 مليارات نسمة في مدينة بمساحة ولايات تكساس وأوكلاهوما ولويزيانا أو بحجم دولة الإكوادور أو العراق وبلاد الشام مجتمعة معا (ما يزيد على مليون كيلو متر مربع).وثمة مناطق من العالم ذات كثافة سكانية عالية، حيث يشمل وسط منهاتن نحو 27 ألف نسمة في الكيلومتر المربع.وقد تبدو هذه الفكرة غريبة، ولكن مع التهديد الحقيقي لتغيرات المناخ قد لا يكون لدينا في السنوات المقبلة أماكن عديدة للسكن على كوكب الأرض، ويذهب بعض الباحثين أن العراق والخليج سيكون عصي للعيش في كنفه بعد أقل من قرن، من جراء تصاعد وتيرة العمران دون غطاء نباتي مبرد لما تبثه أو تعكسه من حماوة القيض.ووفقا للأمم المتحدة، يمكن أن يكون هنالك أكثر من 11 مليار نسمة يحشون على كوكب الأرض بحلول نهاية القرن الواحد والعشرين، وهذا يعني زيادة استهلاك موارد الأرض بالإضافة إلى الحاجة لتوسيع حدود المدن العالمية،وربما إتصالها بأشرطة قاريه متواصلة، كما ذهب إلى ذلك خيال مخطط بغداد والرياض وإسلام آباد الأمريكي دوكسياديس،أي تقلص رقعة الأرض الزراعية وتكدس سكاني، والأمر ليس مزحة بكل مقاييس الحكمة.

 

د. معمار علي ثويني

.........................

1- د.صلاح الدين عبدالوهاب الناهي-الخوالد من آراد ابو الريحان البيروني- ص 29-عمان 1985.

 

 

في المثقف اليوم