قضايا

اللّغة عَمارة.. والعَمارة لغّة

ali theuany2اللّغة والعمارة سطنان مؤسسان في صلب هيكل وشاخص الثقافة، فلايمكن أن نشيد صرح ثقافي إلا من رفد شاخصيه، او نميزها إلا من خلال تشخيص لسانها وتحديد منتجها الفني والمعماري .ورغم أن أحدهما منطوق ومحسوس والآخر مادي وملموس،لكننا نقرأ عمارة النصوص ونستشعر عمود وبيت الشعر. إنها جملة تواشجات وتقاطعات مفاهيمية، وشجون طرق ومنهج مشترك جامع، إلى الحد الذي يلتئم  ويدغم مفهوم أحدهما في صلب الآخر، ويدلل أنهما دفقان من نبع روحي ونفسي وعقلي مشترك . فعناصر التشكيل المعماري ترسل إشارات توحي بمعنى يشتمل مضمونا ويظهر شكلا،  فهي لغة ظاهرة التكوين لكنها خفية المعنى، غير صائتة ومسموعة، وتدل، وتسرّ، وتشير، وتنبه وتنطبع.  إنها ليست صماء،فهي تبث المعنى بلفظ غير منطوق، فيتيسر للعين قراءتها بصريا،  وللعقل استقباله إدراكا، وللنفس استيعابه مضموناً، وللفكر محاورته سجالاً.

 إن القراءة البصرية توفر إحساساً يصدره ضوء المعنى، فيتآلف الإحساس بالمرئي حد التشبع.  ويصبح الحقل البصري عندئذ مجالاً تنعكس عليه صفات الموحي (المرسل للإيحاء كالأشياء والعناصر المعمارية والتشكيلية)، ومن ثَم يتألق المعنى الإيحائي، فيصير تمثل مظهره ممكناً، وتفهم كناياته متاحاً، وإدراك استعاراته متيسراً، واستيعاب مجازاته مقبولاً.

وتتفق مجمل الآراء على أن اللّغة هي الأصوات البشرية الدالة على معانٍ عقلية ثابتة في الأشياء، بنيتها المقاطع والحروف التي تنشأ عليها ومنها تتآلف الكلمات، وتتآزر وتتدفق المعاني. وأنها أشتقت من لغوت أى تكلمت،وأصلها لُغوة: وقيل أصلها لغى أو لُغو، وجمعها لُغى ولغات". وأول من عرف اللّغة في التراث الإسلامي هو " عثمان بن جنى" فى كتابه " الخصائص". وتعرف فى الاصطلاح بأنها " نظام صوتى يمتلك سياقا اجتماعا وثقافيا له دلالاته ورموزه، وهو قابل للنمو والتطور، ويخضع فى ذلك للظروف التاريخية والحضارية التى يمر بها المجتمع".

فاللّغة، سواء أكانت أسماءً أو أفعالاً أو حروفاً أو روابط لغوية، هي في كل الحالات علامات دالة على المسميات والأفعال أو على وظائف الروابط اللّغوية والحروف، ولهذا جعلوا للغة علوماً متعددةً شغلت علماء الكلام أكثر من أهل البلاغة، واشتغل بها علماء اللّغة أكثر من علماء النحو والصرف.

وكما للألفاظ وظيفة دلالية محددة بمدلولات، كذلك للحروف وظائف محددة في بناء الكلمات، وبذلك هي ليست مجرد أصوات جوفاء خاوية الدلالة. واللّغة أداة تعبير " كما يذهب إلى ذلك الجاحظ وابن جني وفيشر الألماني وغيرهم في التراث والحداثة"، إضافة إلى أنها وسيلة تواصل، ووسيلة تفاهم، فباللّغة يتبادل الناس الآراء والأفكار والمعارف، وبها يتواصلون في قضاء حاجياتهم المادية والروحية، لذلك فهي أوعية المعاني ومستودعها، على حد وصف عبدالقاهر الجرجاني في كتابه الأثير (أسرار البلاغة).

واللّغة في العربية تقابل باللّغات اللاتينية  كلمةُ : lingue- Language وهما نفس الكلمة من الناحية (الأيتمولوجية) في المصدرين العربي والغربي. وثمة مستغربين ومستشرقين يرون أن كلمة اللّغة مُعَرَّبَة منقولة من كلمة Lagos اليونانية، التي تعطي معنى (الكلمة) أو الرمز. والعّربية أو أسها في اللّغات أقدم دون ريب من اليونانية، بليس أقل من ثلاثة آلاف عام إبتداءا من الاكدية،وأن اليونانية أخذت ثلثيها من مصادر شرقية (كما رأى مارتين برنار) أكدية وكنعانية وحتى حيثية متأثرة،كل ذلك يجعلنا نجزم بأن كلمة (لوغوس) اليونانية شرقية وهذا ما جعل علماء العربية يسموها(منطق-كلام) لقربها من كلمة (لغة) العربية.

فاللّغة أدب وتأدب ومكارم، وهي تقابل  literatureاللاتيني التي تعني محض الحروفي أو صاف للحروف.ونذهب في هذا السياق إلى أن كلمة أدب العربية واردة من السومرية، وأصلها مشترك مع كلمة طوب في تواشج اللغة والعمارة، والطوب هي قوالب الطين التي تجفف تحت وهج الشمس وتستعمل في البناء (تسمى في العراق اللِّبن وفي مصر الطفلة)، وكانت تسمى (دوبا Dubba) بالسومرية وعنت الطين المجفف وأطلقت على الرقم الطينية التي دونت بها الكتابة الأولى، وأصبح المكان الذي تجمع به أو ما ندعوه المكتبة بـ(آي دوبّا E-Dubba) أي بيت الألواح ثم أصبحت تعني المدرسة. وإنتقلت الكلمة إلى الأكدية ثم البابلية ثم الآرامية والعربية تباعاً، وحلت حتى بالإنگليزية Adope، الذي عنى التأديب والتربية من المدرسة و(أدب) من المنتج الكتابي، وهي في حقيقتها المدر المجفف وخامة البناء الأقدم المصنعة قبل 6000 عام.

واللّغة بالنتيجة حقلاً للوعي من خلال تشكيل (الهوية) عبر جدلية العلاقة بين الأنا والآخر (فالهوية) تمثل الوعي الضدي، ونجدها مطابقة للعمارة في هذا المفهوم.فإذا أخرجنا العمارة من إطارها الهندسي الصارم والتقانة العلمية المحضة، وجعلناها وسيلة تواصل ثقافي، ينطبق عليها كثير من تلك الحيثيات،مما ذكرناها بما يخص اللّغة، فإننا يمكن أن نكتشف الكثير من المشتركات بينهما. فالعمارة تعابير ملموسة مثلما الكلامية في اللّغة، وكذلك بكونها أوعية ومستودع لسكن النفس وطمأنينة الروح. وغير هذا وذلك فهي وسيلة تواصل تعبر عن محتواها الحضاري والإجتماعي والنفسي وكذلك البيئي والتقني، فهي "أوعية للمعاني". وبذلك وطأت عالم أدائي مقروء ومدرك مشترك،وقابل للتأويل، مثلما هي النصوص. 

وحري أن نصنف العمارة مثلما اللّغة ضمن سياقات الثقافة التي يكون مفهومها " مجموع القيم والمفاهيم التى تحكم سلوك الأفراد أو المجتمع فى حقبة معينة من التاريخ". .فمن خلال اللّغة نفهم بعضنا، ونتحاور فى أفكار وقضايا تتناسب مع مستوى الوعي للأفراد والجماعات. ولا يمكن الاستغناء عن اللغة ضمن مفردات الثقافة التي كنهها تواصل بين الإنسان وخارجه . وتتجاوز وظيفتها إلى الأداة التى يتعلم ويفكر بها الإنسان؛فهى تقود عقله وتوجهه وبها تستدل على السلوك القويم مع الآخرين وتحفظ التراث، وتنظم العلاقات، ووسيلة التعامل والتعاون بين أفراد المجتمع وأهم أدوات الحفاظ على كيانه.

كيف اهتدى الإنسان إلى ألفاظ اللّغة؟،و كيف نشات اللّغة أول مرة؟ .وهنا جدير أن نشير إلى أن اللغة سابقه بدهور لظهور العمارة، وهي أولى بالسبر تراتبياً ومنهجياً. وربما نشأت من تقليد المسموعات، كدوي الريح، والرعد، وخرير الماء...الخ. بينما العمارة جاءت من جراء الرصد والتقليد ثم التطوير من الكائنات الأخرى.رغم أن فنون التشكيل سبقتها في الكهوف، الذي كانت سقوفها تقيه .لكن حينما نأى في وظائفة عنها،تولدت الحاجة لديه في رصد الحيوانات من خلال إنشاء المسقفات وخلق الفضاءات، فكانت هياكلها درسا إنشائيا وحفائر الحيوانات أو عشش الطيور درسا وظيفيا وبيئيا، وتسنى لها أن تطأ بعد عشرة آلاف عام عمائر ناطحات السحاب، بما يؤكد الحكمة في خلق البشر بأنه كائن عاقل ومدبر ومطور، بينما مكثت النحلة تشتر المسدسات لبيتها من سجاياها الخلقية..

وثمة بحوث في صلة اللّغة والعقل المبدع من خلال عرض اِستدلالاتها من أجل البرهنة على أسبقية اللحظة اللّغوية، كونها تشويشٌ وتعثرٌ واِستبدالٌ مستمر، في حين أن الفكرَ سيرورة لاإستبدالية في لحظة التفكير، الطفل يحل مشاكل لغوية دون أن يكون لديه ذلك "العقل" الذي يقدر على تنظيم المادة اللّغوية أو حل مشاكلها . وهذا ينطبق على تطور الظاهرة المعمارية التي وجدت ضالتها في البيئات بما يناسبها فالشعوب البدائية طورت عمائرها فطريا (vernacular)، بما يوحي "للأكاديميين" أمر عجيب، وكأنهم كانوا ينتظروهم حتى ليوجدوا لهم الحلول، دون أن يتفاعل الإنسان مع حاجته ويوجد الحلول بوسائله الذاتية المتاحة.

والكلام الذي يخرج من أفواهنا مربع الأضلاع: ضلع يتعلق بالمعاني وآخر بالبيان والبلاغة ودقة القصد، وثالث بالقواعد التي تعد الهياكل الإنشائية "مجازاً "، والرابع الأنغام الموسيقية التي نلبسها تفوهاتنا. وهذه القواعد نجدها في العمارة التي تنطلق من الحاجة والوظيفة لتجد الوسيطة من خلال صنع الفضاء المغلف لها من خلال هياكل إنشائية وسواتر عازلة، التي تتبع سنن التشذيب والتهذيب. ومافتئنا حتى اليوم لم نصل إلى حلول معمارية سرمدية،اي مازلنا نجرب ونطور ونحث في اللغة والعمارة على حد سواء.

 حينما نتحدث بألسنتنا، نجد الكثير من الأفكار تقفز الى السطح ولايمكن أن نحصل عليها خلال حالة الصمت أو الحديث المكتوم، حتى ليقال ("الكلام يجرّ الكلام"). وعادة ما نشبه علاقة اللّغة مع التفكير الواعي بمثل تناغم وتظافر اليد مع الخيال خلال عملية التجريب والرسم في التصميم المعماري، فثمة تصاعد أدائي، لايدرك حينما نصنفهما كأدوات ونفصل اليد أو اللّسان عن الوعي، وهذا التواشج الوظيفي إحدى سمات وأسرار الظاهرة الإبداعية، لذا لابد من التجريب بالكلام لأستخراج الأفكار أو بالرسم لأستخراج الحلول التصميمية، لذا فان اليد واللسان يفكران كذلك، على سياق ماورد في تراثنا بما يتعلق (بالقلب والفؤاد) الواعي والمؤمن والمفكر والمدبر، رغم أن معطياتنا المادية اليوم تشير إلى ان القلب محض مضخة دم، لاعلاقة لها بالفكر والشعور. والكتابة أسهل ممارسة وأعمق فكرا وسبرا، وأكثر تأثيرا وأبقى من الكلام، بما يدلل بأن صمتنا الطويل أو كلامنا من الداخل يستهلك الكثير من طاقتنا التعبيرية، فنلوذ بالكتابة بدلا من الفضفضة، وكلاهما وسيلتان لتنفيس النفس من نوازع وإحتقان، لابد لها من منفذ ومسرب ومهرب لتتحرر خارج الجسد والروح، كما هو حال التشكيل والرسم والتصميم المعماري لدى البعض.

وبذلك يجتمعا"اللّغة والعمارة" في كونهما يشكلان حركة في شوط وتأثير متبادل بين علة\ معلول \علة، اي أن كل منهما يقدم السبب، لكنه يستقبل من ورائها نتيجة لتشكل سببا جديدا، وهكذا مانبنيه كغاية للإيواء، يشكل وسيلة لتغيير نمط تفكيرنا ومنهاج حياتنا ويبنينا نفسيا وشعوريا، وما نقوله، هو بقصد إيصال فكرة، لكنها ترتقي لتكون السبب في إنبثاق أفكار مستجدة وهكذا دواليك.

اليوم نلتقي بسياقات قراءة اللّغة من طرائقها، مثلما نقرأ العمارة من منهجها، ونستطيع ان نكشف عن هوية الشخص من خلال رسالة لغة النص الذي يكتبه حتى اذا لم يكتبه بخط يده لان لكل شخص طريقة خاصة بالكتابة تختلف عن غيره، اي يمكن اعداد او رسم صورة profile لأي شخصية من نصه. وهذا يعني تضاف بصمة اللّغة الى بصمة الاصابع في كشف الحقيقة. وهذا ما نجده في الرسائل التي تبعثها العمارة كوسيلة للتوصيل عن ذاتية المعمار وطبيعة المجتمع والبيئات، ومايكتنف الأمر من سطوة حتى لجنس المؤدي، فالرجال يهتمون مثلا بالعموميات بينما النساء يطنبن في الجزئيات والتفاصيل، لذا فالعمارة تحتاج إلى عقل في حركة دائبة بين العموميات والتفاصيل، اي بين موقع البناء الحضري، وبين تفصيلة نافذة تتعلق بإنسجامها مع محيطها البيئي والتراثي، وهذه الحركة تروم تنسيق الحلول ووطأ أحسنها في حالة من تحكيم عقلي يطور الملكات التي تنتقل إلى دور أعلى في الأداء، كم هو أسلوب (الأمالي) في السرد اللغوي. وربما يكون هذا سبب من ظهور نساء شاعرات وأديبات يهتمن بالتفاصيل اللّغوية وتنميقها، لكن قليل ما نجد معمارية أمرأة، وربما تكون العراقية (زها حديد) إستثناء حقيقي، أعلن التمرد على عالم الأنوثة فنافس الفحول في مضمارهم وسبقهم.

 

د.علي ثويني

 

 

في المثقف اليوم