قضايا

العائلة المقدسة.. الجذور الاجتماعية للصراع السني الشيعي

أثر النظام القبلي السائد في شبة الجزيرة العربية بشكل واضح على كل أوجه الحياة الاجتماعية والسياسية بل وحتى الانماط الاقتصادية المتعارف عليها قبيل ظهور الاسلام في القرن السادس الميلادي، ولاتعتبر مكة أستثناءً من تلك القاعدة فبرغم كونها حاضرة مدنية، فلاتعدو أن تكون نسخة مخففة مما كانت عليه القبائل البدوية في محيطها الصحراوي من خشونة الطبع وتعصب للمفاهيم القبلية.

كانت قبيلة قريش التي ينحدر منها النبي محمد والاغلبية الساحقة من قادة المسلمين تهيمن على النموذج الاجتماعي في مكة بكل تفاصيله ويعود أصلها الى أسماعيل ابن النبي ابراهيم وتتكون من تسع بطون، لكن الريادة تمثلت في بطن واحدة (عبد مناف) ومنه تنحدر اهم عوائل مكة على الاطلاق، عائلة بني هاشم التي ومنها النبي محمد وعائلة أمية بن عبد شمس التي ينتمي اليها معاوية بن ابي سفيان الد خصوم النبي، ولكي نفهم السياق الاجتماعي للصراع السني الشيعي لابد من التعرف على طبيعة العلاقة التي تحكم الاسرتين والتي لعبت فيما بعد دوراً جوهرياً في تفاقم الصراع بين المسلمين وصولاً الى انقسامهم الى فريقين رئيسين هما السنة والشيعة .

يقول المستشرق ر.ف. يودلي في كتابه حياة محمد (كان القائمون بامر مكة فريقين متقاسمين: بني هاشم ومحمد منهم وأبناء عبد شمس شقيق هاشم، وكانت السلطة في ذالك الوقت في يد الهاشميين وكان أبناء عبد شمس يتطلعون اليها وكان مما يساعد أبناء عبد شمس للوصول الى ماَربهم أيجاد ثغرات ينفذون منها فكان مما يتفق وأهداف سلالة عبد شمس أن يلصقو ببني هاشم - سدنة الكعبة - تهم الغواية والضلال _ الفصل الخامس .. الصفحة 80)

وما يعضد هذا الرأي المنافرات الكثيرة بين بني هاشم وبني أمية وأشهرها مانقله أبن حبيب في كتابه (المنمق في أخبار قريش) وملخصها أن هاشم وأمية تنافرا عند كاهن خزاعة أيهما أشرف عملاً واجودهم يداً فحكم الكاهن لصالح هاشم ليغادر أمية مكة ذليلاً الى الشام عشر سنوات تنفيذاً لشرط المنافرة، ولاشك أن هذه الحادثة قد عمقت الحقد في قلوب رجالات بني أمية على هاشم واولاده .

لم يستطع النبي محمد التخلص من اَثار العصبية القبلية في تصرفات المسلمين رغم محاولته بناء نموذج اشتراكي يتساوى فيه الجميع، بل انه على المستوى الشخصي تمسك في بعض الحالات بذالك الانتماء الذي يشكل جزءاً مهماً من شخصية الفرد العربي وهو القائل في الحديث المشهور (أن الله اصطفى كنانة من ولد أسماعيل وأصطفى قريشاً من من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم وأصطفاني من بني هاشم - صحيح مسلم الرقم2276)، وتؤكد رواية جبير بن مطعم المعنى الذي ذهبنا اليه: (مشيت أنا وعثمان الى النبي فقلنا: أعطيت بني عبد المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن بمنزلة واحدة منك، فقال: أنما بني هاشم وبنو عبد المطلب شيئ واحد، قال جبير: ولم يقسم النبي لبني عبد شمس وعبد نوفل شيئ - موقع المنهاج الالكتروني . موضوع من هم بنوهاشم)، ويبقى موقف ابوطالب عم النبي من اسطع الامثلة على عمق الروابط العائلية فهو دافع عن النبي محمد بقوة حتى اَخر رمق في حياته وتحمل الكثير من العناء في سبيل ذالك على كبر سنه مع انه لم يؤمن بالاسلام ديناً فكانت الحمية العائلية هي التفسير الوحيد لموقفه الصلب في حماية أبن أخيه، كما أن قصة أسلام حمزة عم النبي تسير بهذا الاتجاه، وعلينا الا نغفل أن تلك الروابط العصبية تتدرج في القوة من العائلة المباشرة حيث تتمثل باقصى طاقتها لتفقد شيئاً من زخمها كلما توسعت الدائرة الى العائلة الاكبر وصولاً للبطن أفالعشيرة ، لكنها تبقى أحدى أهم العوامل التي تشكل المواقف العامة للمواطن في ذالك الوقت، ونلاحظ ذالك جلياً في موقف النبي محمد عند فتح مكة بعفوه عن اعدائه من قريش رغم انتصاره الساحق عليهم وهو موقف (براغماتي) دافعه الاساس عصبية قبلية -بأطار سياسي - ليحدث التوازن المطلوب في أجواء المدينة التي يهيمن عليها الانصار من قبيلتي الاوس والخزرج، ولايقتصر ذالك على النخبة فقد كانت القاعدة الشعبية تضم الكثير من القبائل خارج مكة، وكسب قريش الى صفه يضيف عامل قوة واستقرار لدولته الوليدة في مقابل منافع كبيرة توفرها لهم هذه الدولة، ومازالت فكرةالانتماء العائلي والقبلي ماثلة في البيئة الاجتماعية للعرب والمسلمين خاصة في المناطق الريفية والبدوية بل هي حاضرة في المدن الكبيرة لدول مثل العراق واذا كانت الامثال الشعبية تمثل جوهر الانماط السلوكية لافراد المجتمع فالمثل القائل (أنا وأخي على أبن عمي وأنا وأبن عمي على الغريب) يجسد بصدق ماذهبنا اليه.

تزوج النبي محمد من السيدة الارستقراطية خديجة بنت خوليد في ربيعه الخامس والعشرون فيما كانت هي تبلغ الاربعين من عمرها، قبل بدئ الدعوة بخمسة عشر سنة، وانجبت له أربع بنات هن بالترتيب زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وأثنان من الاولاد ماتا في صغرهمها هما القاسم وعبد الله، لتكون فاطمة هي أصغر ابنائه واقربها اليه باجماع المسلمين، فقد جاء في الحديث النبوي (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني - البخاري الحديث3523 ومسلم الحديث 2449)، كما لايختلف المسلمون على أن عائشة بنت أبي بكر هي أقرب نساء النبي محمد الى قلبه، وبالرغم من الماَخذ الكثيرة التي يسجلها الشيعة على عائشة الاانهم لاينكرون تلك الحقيقة .

تربط النبي محمد بفاطمة علاقة خاصة ومتميزة تعود للأسباب التالية:

1- هي اصغر بناته كما ذكرنا سابقاً، ومعلوم أن للطفل الصغير مكانة خاصة لدى الابويين، فهو الاقرب لهما والمدلل بين اقرانه .

2- لم يبقى مع النبي محمد من عائلته بعد زواج بناته الاخريات ووفاة زوجته خديجة سوى فاطمة التي قامت برعايته رغم صغر سنها حتى لقبت ب (أم أبيها) لمدة ثلاث سنوات قبل زواجه مرة أخرى وهو ماعمق الشعور بالعرفان من الاب تجاه بنته البارة .

3- حب النبي لأولاده وخصوصاً فاطمة هو أمتداد لحبه وتقديره لزوجته خديجة، فهو يرى في فاطمة استمرارية في الحنو والرعاية التي كانت توفرها له

في المقلب الاَخر من الصعوبة أعطاء أسباب تحتمل صدقية تامة لتميز عائشة عن سائر زوجات النبي بأعتبارها الاقرب الى قلبه، لأن جاذبية المرأة شعور خاص بالرجل لايتطابق دائماً مع ماتتمتع به من مواصفات جمالية أوسلوكية - مع أهميتها- لكنها تبقى اهمية نسبية، فمعايير الجمال تختلف من شخص الى اَخر - مع الاخذ بنظر الاعتبار حالة الاتفاق في حده الادنى على معايير بعينها تفرضه البيئة ، فكم مرأة غير جديرة بالتقدير لدى طيف واسع من المعارف نجدها تمثل قمة الالهام لواحد منهم، وبسبب هذه الحقيقة سيكون تفسيرنا لهذه العلاقة المميزة أقرب للفرضية منها للحكم البات، ويمكن اجمالها بالاتي:

1- تزوج النبي محمد للمرة الاولى من خديجة وهي تكبره خمسة عشر عاماً ، ومع تقدم العمر لابد أنها لم تستطع أشباع رغبته الجنسية بشكل تام خاصة ماعرف عنه من عفة خلال هذه المرحلة ولم نسمع انه تذمر من ذالك أحتراماَ وتقديراَ لنضالها المرير في سبيله، لكنه وهو في عز فحولته لابد من انه كان يعاني من هذا الامر، ومع تلك المعاناة ضل وفياً لذكرى زوجته ثلاث سنوات قبل أن يتزوج من سودة بنت زمعة وهي الاخرى كانت كبيرة في السن ولها 6 اولاد واغلب الظن انه تزوجها لسببين لايتعلقان بالرغبة الجنسية، الاول هو لتطييب خاطرها بعد ان توفى عنها زوجها في الحبشة والثاني لتقوم بأعباء المنزل التي انهكت طفلته الصغيرة فاطمة، ثم تزوج بعدها عائشة التي سدت تلك الثغرة ووفرت له الاشباع الجنسي المفتقد اليه منذ سنوات طويلة، الامر الذي جعلها تحتل مكانة مرموقة لديه، وعلينا ان لاننسى انها الباكر الوحيدة بين زوجاته ودائماً ماكانت تتفاخر بهذه الميزة.

2- كانت عائشة تتصف بالجمال فهي طويلة بيضاء، والجمال شيئ جاذب بذاته وله خاصية التغطية على عيوب الانسان

3- يرتبط النبي محمد وأبوبكر والد عائشة بصداقة عميقة وأحترام متبادل، فهو أقرب الصحابة للنبي على الاطلاق ولا ينافسه في مكانته سوى علي بن ابي طالب ابن عم النبي وزوج ابنته فاطمة ومن اللافت ان يكون علي نداً لابي بكر في محيط النبي الخارجي وفاطمة نداً لعائشة في محيطه العائلي، أذاً: لابد لهذه العلاقة الحميمة بين الصديقين أن تترك أثرها الايجابي على طبيعة الروابط ذات الخصوصية التي تجمع بين الزوجين.

4- رغم ان شخصيه عائشة أنفعالية واحدى مظاهرها الغيرة المبالغ فيها على زوجها والتي يبرزها المؤرخون كصفة سلبية عانى منها النبي محمد الا انها تحمل وجهاً ايجابياً، فقد غمرت عائشة زوجها بفيض من مشاعر الحب والحنان لم تستطع غيرها من زوجات النبي توفيرها له، فمع انها حادة المزاج ومتقلبة الا انها تمتلك عاطفة جياشة اَسرت بها شريك حياتها وهو مايفسرأيضاً بعض المواقف التي تمدح فيها عائشة فاطمة وأولادها كحديث الكساء.

5- تزوج النبي محمد عائشة وهي في التاسعة من عمرها (يحاول بعض الفقهاء المعاصرين أيجاد الدلائل على ان عمرها كان يتراوح بين 18-22 عاماً، لكنها افتراضات تعوزها الدقة)، وفي كل الاحوال فأن الفارق الكبير بينهما يجعل منها اقرب ان تكون ابنته من ان تكون زوجته وهذا يضيف سبباً اَخر ليعاملها بصورة خاصة، ويميزها عن باقي زوجاته أذ أن أمتزاج عاطفة الابوة بغريزة حب الزوجة ينتج تفاعلاً متفرداً من المشاعر التي يصعب تفكيكها.

لم يكن بوسع فاطمة وعائشة أن يقبلا بالعيش على هامش الصدارة في ود النبي محمد - ولكل منهما اسبابها بغض النظر عن موضوعية وشرعية تلك الاسباب -

فكل واحدة منهن تعتبر أن لها الاحقية قي أمتلاك قلبه أو على الاقل احتلال قمته، لذالك لم تستقم العلاقة بينهما وضلت تتسم بالتنافر وربما أكثر من ذالك وصولاً الى الضغينة والعداء، وعلينا تفهم فقر المعلومات في هذا الاتجاه في سياق عمليات التشذيب المتكررة على التراث الاسلامي لقرون طويلة لأظهاره بشكل مثالي بعيداً عن الواقع الحقيقي، بأعتراف أبن هشام - أهم مؤرخ لسيرة النبي محمد - الذي يقول أنه أهمل الكثير من أخبار السيرة التي نقلها عن أستاذه أبن أسحاق، لسبب لم يذكره صراحة، الا ان هذه الضحالة في المعلومات تؤكد عمق الفجوة بين فاطمة ومناصريها وعائشة وحزبها.

من الطبيعي والمنطقي جداً أن لاتستسيغ البنت - أي بنت - وجود زوجة أب تحتل مكان والدتها، لتشاركها حنانه واهتمامه ووقته المخصص لها، فكيف بطفلة تجد فجأة أن أخرى تصغرها بخمس سنوات تمارس عليها دور الام ؟!بالتأكيد أنه واقع من الصعوبة التأقلم مهما كانت تحمل من الحب والتقدير لابيها ورغبتها في التضحية لاجله، فكانت عائشة تمثل لها مشكلة من وجهين على الاقل، الاول هو وجودها كزوجة متطفلة تحتل مكان امها الشاغر، والثاني هو وجودها كطفلة متبناه - أذا صح التعبير - تحرمها من عطف وحنو أبيها الذي سيكرسه للقادمة الجديدة فيؤرقها الاحساس بالوحدة، بعدما أعتقدت باندمال جروحها التي تسببت بها وفاة أمها جائت عائشة لتفتحها من جديد وتعمقها (بسرقة) ابوها، وهو ماجعل فاطمة كئيبة وحزينة يتصارع في داخلها شعور العتب والحب تجاه ابيها، ولم تكن عائشة أقل بؤساً من وجود فاطمة في حياتها فهذه المرأة الطموحة والذكية لاتريد لأحد أن يشاركها مكانتها في قلب زوجها حتى وأن كانت فاطمة، ولم يشكل لها اي فرد من أسرة النبي معضلة - بأستثناء علي - كما شكلتها فاطمة، فهي فور زواجها من النبي سيطرت بشكل تام على زوجته الاخرى سودة وجعلتها تابعة لها حتى ان سودة كانت تتنازل لعائشة عن جدولها في مبيت النبي عندها، بل ان حفصة بنت الرجل القوي عمر ابن الخطاب والتي كان من المتوقع ان تلعب دوراً محورياً في العائلة لم تجد فرصة في منافسة عائشة لتتحول الى مايشبه المساعدة الامينة وكاتمة اسرار عائشة التي ربما تكون قد أوحت الى ابيها وصاحبه عمر - عن طريق حفصة - بالاسراع الى خطبة فاطمة للتخلص منها من بين اسباب اخرى، فهي قادرة على احتواء باقي الزوجات المتعاطفات مع فاطمة لو أستطاعت أبعادها عن ساحة المواجهة المباشرة (بيت النبي).

لقد انسحب كره عائشة لفاطمة على امها خديجة وهي التي لم ترها في حياتها والى كل من يمت لها بصلة قرابة بينما تكفل وجود علي والارث الجاهلي في كرهها لبني هاشم، ورد في صحيح مسلم - الحديث رقم 2437و البخاري الحديث رقم 3821 (عن عائشة قالت: أستأذنت هالة بنت خويلد، أخت خديجة على رسول الله فعرف أستئذان خديجة فارتاح لذالك فقال: اللهم هالة بنت خويلد، فغرت فقلت: وماتذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، فأبدلك الله خيراً منها) وكذالك ورد في صحيح البخاري الحديث رقم 3821:(عن عائشة قالت ماغرت على أحد من نساء النبي ماغرت على خديجة ومارأيتها .......)

ليس من المصادفة ان يمتد كره عائشة لعلي فهو ألمنافس الابرز لأبيها على زعامة المسلمين بعد النبي، وحب النبي له هذا الحب الذي ضاعف من منسوب الكراهية التي تغذيها الغيرة وفوق ذالك هو زوج فاطمة، ولعل الحديث الذي اورده البخاري يدل على مدى مقتها لعلي لدرجة انها لاتطيق ذكر أسمه (أن عائشة قالت: لما ثقل على النبي وأشتد به وجعه أستأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج النبي بين رجلين تخط رجلاه في الارض بين عباس ورجل اَخر - قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بن عباس فقال: أتدري من الرجل الاَخر قلت: لا، فقال: هو علي بن ابي طالب)، ويذكر الطبري شعراً لها انشدته فرحاً بمقتل علي، وتعدى كرهها لعلي الى أولاده فقد رفضت تنفيذ وصية الحسن بن علي في أن يدفن عند قبر جده النبي (داخل بيتها)، وقالت: هذا الامر لايكون أبداً، يدفن ببقيع الغرقد.... ويؤكد الحادثة أبن عساكر في كتابه تاريخ مدينة دمشق (الجزء الحادي عشر- دار الفكر- الصفحة 293)، أما مرويات الشيعة فتزخر بمثل تلك القصص .

في المقابل لم يكن علي باقل منها نفوراً وكراهية، لدرجة أن الشيعة يقولون أنه طلقها من النبي بعد وفاته في معركة الجمل؟!!!

اورد البلاذري في كتابه (انساب الاشراف - دار الفكر - الصفحة 46) ... طلحة بن عبد الله عن ابي حاطب قال: اقبلت مع علي يوم الجمل على الهودج وكأنه شوك قنفذ من النبل، فضرب الهودج ثم قال: ان حميراء ارم هذه ارادت قتلي كما قتلت عثمان بن عفان ....) وقبل ذالك وجد علي فرصته للتخلص منها بعد حادثة الافك فهو الوحيد من الصحابة الذي طلب من النبي تطليقها لكنه لم يستمع اليه .

تزوج النبي بعد عائشة عدة مرات لكن لم تستطع أي واحدة منهن زحزحة عائشة عن مكانتها كسيدة أولى للدولة وزعيمها، وأنقسمن الى ثلاث فئات الاولى أنضمت تحت جناحها، والثانية أختارت الوقوف ضدها والاصطفاف الى جانب فاطمة، فيما قررت الفئة الثالثة التزام الحياد، وهكذا تحولت الخصومة الشخصية بين البنت وزوجة الاب الى حرب باردة بين فئتين من داخل العائلة المقدسة شكلتا النواة الاولى الافتراق بين المسلمين الى كتلتين رئيسيتين تسيران في خط متوازي تحيط به الشكوك والخوف من الاَخر والتي مهدت فيما بعد لتوترات وصراعات وحروب مذهبية طاحنة.

دخلت حفصة بنت عمر أبن الخطاب معترك هذه الاسرة كزوجة رابعة للنبي، وماكان لها الا ان تسير على خطى عائشة في معاداتها لفاطمة، فهي بنت اقرب اصدقاء ابو بكر وحليفه السياسي الذي أوصله لسدة الحكم بعد ان مهدت عائشة الارضية لذالك، كما ان رفض النبي تزويج ابيها من فاطمة أشركها في مشاعر الاهانة لدى عائشة حيث مرابوها بنفس التجربة، وتعد حفصة الساعد الايمن لعائشة في انفاذ مشاريعها، لدرجة أن القران أنبهما بشدة على أيذائهما النبي محمد وهددهما بمغادرة حياته وان الله قادر على استبدالهما بزوجات افضل، بل وجعل الله من ذاته والملائكة وسائر المؤمنين أنداداً لعائشة وحفصة ؟!! (ان تتوبا الى الله فقد صغت قلوبكما وأن تضاهرا عليه فأن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذالك ضهيراً - التحريم - الاية4)

ثم أنضمت صفية بنت حيي ابن اخطب لحزب عائشة وهو امر منطقي للغاية، فهي تكره النبي الذي هدم ملك أبيها مستولياً على ثرواتهم ونسائهم بمن فيهم هي، ولابد أن حقدها على علي يفوق ماتكنه للنبي فهو قائد الجيش الذي فتك بهم وهوقاتل زوجها وأخيها، وأذا كانت ظروف الاسر وفقدان الاهل والعشيرة أجبرتها على الاقرار بالواقع ، فلا شك انها وجدت في أجواء الاسرة الملبدة بغيوم الحقد متنفساً للانتقام، بينما ضم تحالف فاطمة المناوء لعائشة زوجات النبي أم حبيبة بنت أبي سفيان التي أنضمت لفاطمة نكاية بأخيها معاوية - الحليف الاستراتيجي لحزب عائشة - بسبب الاضطهاد الذي مارسه عليها هي وزوجها الاول مما اضطرهم للهجرة الى الحبشة هرباً من بطشه، فلما مات زوجها بعد معركة بدر تزوجها النبي ، ثم دخلت اليه زينب بنت جحش وهو أمر منطقي لقرابتها من النبي (بنت عمته) ومضايقة عائشة لها بسبب الغيرة التي اشعلها جمال زينب والضروف والملابسات التي أحاطت بزواجها،ثم كسب هذا الأئتلاف أم سلمة بنت زاد الركب، التي رفضت فيما سبق أبو بكر المتقدم لخطبتها وربما أن الاسباب التي دعتها لرفض ابا بكر هي ذاتها التي سببت رفضها لعائشة .

لم يخرج التوسع الافقي للصراع داخل العائلة المقدسة من طابعه الاجتماعي، الا أن وفاة النبي محمد كانت نقطة التحول الجوهرية في هذا الخلاف الذي أخذ منحى سياسي واضح يتمحور حول زعامة المسلمين بعد النبي ليشكل عين العاصفة التي أنطلقت مدمره كل مايعترضها.

لم يكن النبي محمد غافلاً عن حالة التحزب داخل أسرته وألابعاد السياسية لهذا الشقاق،لكنه تعامل معه بكثير من الهدوء والروية، فيما كان يخطط بسرية لتنصيب أبن عمه علي بن أبي طالب خليفة له، بطريقة لاتتيح لكبار الصحابة أفشال المخطط فما كان منه وقد أشتد به المرض وشعوره بدنو أجله الا أن قام بمناورة ذكية فقد جهز جيشاً لغزو الروم في الشام دفع كل من يمكن ان ينافس علي فيه لابعادهم قدر الامكان عن التأثير على رغبته في تحول سلمي وسلس للسلطة، فيما استبقى علياً دون سبب مقنع مما اثار الشكوك لديهم، خاصة انه عقد لواء قيادة الجيش لأسامة بن زيد وهو مراهق في السابعة عشر من عمره في سابقة اعتبروها حطاً من شأنهم وطريقة لتحطيم طموحاتهم تحتمل أوجه سياسية وعسكرية فقيادة اسامة للجيش تعني خضوعهم له من الناحيتين والاهم هو الوجه الروحي لهذا التصرف، فقائد الجيش هو أمام الجماعة في ذات الوقت وهذا يعني ضمناً ان النبي جردهم من كل امتيازاتهم التي يمكن ان تصل بهم الى السلطة وهي كبر العمر والريادة السياسية والعسكرية والروحية محطماً كل تلك الامتيازات بقرار واحد هو انشاء هذا الجيش .

لم يكن الصحابة المتطلعين للخلافة باقل ذكاءاً من نبيهم، وخاصة عمر الذي قاد طابوراً خامساً في الجيش لثنيه عن المسير والتعسكر على بعد مسافة قليلة من المدينة بانتظار جلاء الموقف، فيما يتناوبون على زيارته بين يوم واَخر للأطمئنان على وضعه أو بالاحرى على وضعهم وامتيازاتهم المهددة في حال وفاته وهم بعيدون فيما كان النبي يحثهم على الذهاب كلما سنحت الفرصة وهم متراخون لدرجة انه غضب عليهم غضباً شديداً، حتى اذا دنت الوفاة طلب لوحاً وقلم يكتب بها وصيته الاخيرة المهمة والتي وصفها (أئتوني أكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعدي -صحيح مسلم - الحديث رقم 4231) فقال الصحابة وفي رواية اخرى عمر ابن الخطاب، انه يهجر، اي يتكلم بلا وعي، وحدث لغط ونزاع عند رأسه وهو يحتضر !!!، كما يروي البخاري هذا الحديث من سبعة طرق وفيها قال عمر (حسبنا كتاب الله) ومن هنا يتضح تزعم عمر للفريق الذي تصدى لمخطط النبي محمد في تولية علي الخلافة من بعده.

(راجع تاريخ اليعقوبي ج2 ص77 والطبقات لأبن سعد ج4 ص66 وكذلك الملل والنحل للشهرستاني 1: 29 - هامش الفصل لابن حزم ج 1 ص 2 - الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 190- الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 2 ص 317 - الطرائف ج 2 ص 449- تلخيص الشافي ج 3 ص 32 - الشافي ج 4 ص 144).

مهدت عائشة الطريق لعمر في تولي حليفه ابو بكر الخلافة بأدعائها ان النبي خول ابوها لأقامة الصلاة بالنيابة عنه لمرضه وهكذا استعادت له المكانة الروحية التي فقدها قبل أيام لتعطيه الافضلية امام منافسيه الانصار، وأتم المهمة عمر في أجتماع السقيفة الذي يوضح مدى انتهازية الصحابة بتركهم مراسم تغسيل ودفن نبيهم للتنازع في امر السلطة مستغلين أنشغال علي وبني هاشم بتلك المراسم.

رد ابو بكر الجميل لصديقه عمر عندما عينه خليفة له بعد وفاته، فتنعمت عائشة بزهو الانتصار في العهدين، بينما انكفأ حزب فاطمة على جراحه خاصة انها توفيت بعد ابيها بستة اشهر، تمتعت عائشة بأمتيازات السيدة الاولى بلا منازع وعاشت أجمل سنوات حياتها فهي المرجع الاساس اجتماعياً ودينياً، بل تمادت في التدخل في الشأن السياسي لدرجة التدخل الفظ في أمور الدولة، وابرز انجازتها في هذا المضمار دعوتها لقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان (راجع النهاية لابن الاثير الجزري الشافعي 5/80، تاج العروس للزبيدي 8 / 141، لسان العرب 14 / 193، طبقات ابن سعد 3 / 78، والعقد الفريد 4 / 270).

أسباب عديدة دعت عائشة لمعاداة عثمان، لكنها لم تكن تتخيل أن يكون موته سبباً في تولي غريمها الاول (علي) الخلافة، فأحست بفداحة الخطأ الذي أرتكبته، لكن دهائها أسعفها كالعادة في التخلص من الماَزق وتحويل مايبدو أنه خسارة واضحة الى فوز لها أو على الاقل التنغيص على العدو وحرمانه من الاستمتاع بما حققه، حتى لو أدى ذالك الى أزهاق أرواح عشرات ألاف المسلمين في حروب أهلية مازلنا ندفع ثمنها لغاية اليوم، فغيرت موقفها بطريقة (راديكالية) من الدعوة للتخلص من عثمان الى أشد المدافعين عنه والمطالبين بثأره، بالاتفاق مع رجل الشام القوي معاوية بن ابي سفيان سليل أسرة بني أمية صاحبة التاريخ الطويل في معاداة بني هاشم ، والاستعانة بأبن عمها طلحة بي عبيد الله، الذي كان يكن لها حباً لايخفيه، وزوج أختها (أسماء) الزبير أبن العوام، وهكذا تصدرت المشهد مع هؤلاء الصحابة في معركة الجمل، أول حرب أهلية بين المسلمين والتي مازالت ترخي بضلالها على واقعنا تحت مسمى الفتنة الكبرى التي استولدت مئات الفتن، ساعدها في ذالك دفاع علي عن قتلة عثمان وسماحه ببقاء جثته في العراء لثلاثة أيام ومن ثم دفنها في مقابر اليهود في موقف لايبرره سوى العصبية القبلية ولايمكن الدفاع عنه أخلاقياً مهما كانت اخطاء عثمان في طريقة حكمه.

أعادت عائشة انتاج الخلافات العائلية الى مستوى خطير مستحضرة البعد الشخصي والقبلي بكل عصبيته لتتحول معركة الجمل الى بيئة خصبة لضهور فرقة الخوارج كرد فعل مباشر لهذه المواجهة فكان أول تمرد عسكري ذو طابع ديني يحمل بوادر منهج فكري يقارع ماكان سائداً من مفاهيم اساسية (ثوابت) تتفق علبها كل الاطراف المتنازعة، ولتنمو شجرة التشيع في ضروف معقدة كمذهب أكتسب خصوصيته عبر الزمن على شكل تيار مناوئ للسلطات التي انضجت مذهبها الخاص (السنة)، وهكذا نجد ان كل الدماء التي سالت خلال قرون طويلة ومازالت والتي يحاول الفقهاء من كلا الطرفين تبريرها واعطائها الصبغة الشرعية هي في حقيقتها ثمن يدفعه المسلمون للتناحر بين فاطمة وعائشة لاأكثر !!

علاء فالح أبو رغيف

 

...............

فصل من كتاب

 

 

في المثقف اليوم