قضايا

أوهام أيديولوجيا حركة التحرر العربية (1-4)

adnan oayeed2إن الناس العقلاء وحدهم يطرحون على أنفسهم المهام التي يستطيعون حلها).

قليلة هي المنعطفات التاريخية الحاسمة التي تؤدي إلى تحولات نوعية في الفكر والممارسة معاً عند الذين يعملون في مجال الفكر والثقافة والسياسة، ليكتشفوا بعد ظهور تلك المنعطفات أن الكثير من الرؤى والأفكار التي كانوا ينظرون لها، ويناضلون من أجلها، وقدموا التضحيات الجسام في سبيلها عبر عشرات السنين، كانت مجرد شعارات عريضة أو أيديولوجيات وثوقيه جامدة مفارقة إلى حد ما للواقع، تبنتها ومارستها القوى السياسية المتبنية لها بغية تغطية عجزها أو قدرتها على مطابقة هذه الأيديولوجيات مع الواقع من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخاصة بعد أن أغوتهم شهوة السلطة من جهة، ومن جهة ثانية، عدم توافر الشروطً الموضوعية والذاتية التي تسمح لهذه الرؤى والأفكار بكل ما تحمل من قيم عقلانية أن تتفاعل إيجابياً مع الواقع الذي ُطرحت من أجل تغييره أو التأثير فيه، الأمر الذي دفع أو يدفع بعض حِملتها أو المنظرين لها ممن لم ينغمسوا في شهوة السلطة، وظلت الحقيقة منطلق هدفهم، إلى إعادة النظر بما طرحوه، وتبيان مواقع الصح والخطأ والنافع والضار في هذه الأيديولوجيات من منطلق جديد يأخذ في الاعتبار ما فرضته هذه المنعطفات من مستجدات ذاتية وموضوعية بدورها على الواقع وعلى الحوامل الاجتماعية المناط بها أمر تطبيق مهام أو أهداف هذه الأيديولوجيات، وبالتالي إعادة النظر وتقويم ما طُرح من مشاريع ورؤى ومواقف فكرية، مع إمكانية إدخال ما استجد من مهام أو قضايا جديدة في حسابات تنمية وتطوير الواقع والأيديولوجيا معاً، بما يتفق وخصوصيات العصر أو المرحلة المعيوشة، بغية تحقيق الأهداف المنشودة.

إن أكثر من قرن ونصف من الزمن مرّ على طرح مشروع النهضة العربية من قبل الكتاب والمفكرين والسياسيين العرب بكل اتجاهاتهم الفكرية والسياسية، ممثلة هذه الاتجاهات وقواها الطبقية بأحزابها الليبرالية أو الاشتراكية أو قومية أو الإسلامية، هذا المشروع الذي تجلت أهدافه واضحة في كتابات وبيانات ونظريات هؤلاء النهضويين العرب وأحزابهم ومؤتمراتهم الداعية إلى ضرورة خروج هذه الأمة من مازق تخلفها وفواتها الحضاري، متبنين في أطروحاتهم أو رؤاهم وأيديولوجياتهم بعض المواقف والرؤى الحداثوية التي كانت بعض القوى النهضوية الأوربية وخاصة (الليبرالية الكلاسيكية) المشبعة بأفكار فلسفة التنوير، والقوى اليسارية التي تبنتها بعد حدوث تحولات عميقة في مجتمعاتها الأوربية على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، حيث ساهمت هذه التحولات بتحقيق مشاريع نهضوية تمثلت في وحدة شعوبها القومية وتحقيق المواطنة، والتعددية السياسية ودولة القانون والتداول السلمي للسلطة، وتحرير المرأة واحترام الرأي والرأي الآخر... الخ. وانطلاقاً من هذه المعطيات النهضوية التي تحققت في أوربا الليبرالية خاصة، جاءت دعوات وأطروحات النهضويين العرب وسياسيهم في معظمها تقليداً لهذه الرؤى والنظريات الغربية الحداثوية ماركسية كانت أم ليبرالية من جهة، ثم محاولة بعض النهضويين العرب ومنم الإسلاميون الليبراليون بشكل خاص، التوفيق بين هذه الرؤى النهضوية في صيغتها الغربية، وبين ما يقابلها أو يلتقي معها من رؤى وأفكار ومبادئ في التراث العربي الإسلامي، بغية شرعنتها والفسح في المجال واسعاً لقبولها اجتماعيا ومواجهة القوى السلفية الأصولية التي ترفض التعامل مع كل فكر وضعي وبخاصة فكر وقيم الغرب الكافر من جهة ثانية.

نقول: منذ الربع الأول للقرن التاسع عشر وأسئلة النهضة تُطرح من قبل الكتاب والنهضويين والسياسيين العرب مسلمين ومسيحيين مثل (الطهطاوي والأفغاني وعبده والكواكبي وفرح أنطون وشبلي شميل وأديب اسحق وطه حسين وسلامة موسى، وصولاً إلى مفكري النهضة العرب المعاصرين، أمثال الجابري والتيزيني وعبد الله العروي وياسين الحافظ، وغيرهم الكثير)، ومن هذه الأسئلة : لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟. ما لحل؟. من أين نبدأ؟.... وغير ذلك من هذه الأسئلة. علماً أن هذه الأسئلة وما يرمي طارحوها الوصول إليه عبرها من قضايا مصيرية لهذه الأمة المتخلفة أو المفوّته حضارياً، هي من كان وراء تشكل العديد من الأحزاب السياسية العربية التي وضعت نظرياتها (أيديولوجياتها)، للإجابة على هذه الأسئلة أيضاً.

إن المتابع لمجريات أحداث الواقع العربي منذ تلك الفترة حتى اليوم يجد أن هذه الأسئلة ذاتها بقيت في الحقيقة تجتر نفسها ويُعاد التفكير للإجابة عنها من قبل الكتاب والسياسيين والمفكرين العرب في معظم ما صدر عنهم من الكتب والمحاضرات والمقالات التي ظهرت في عالمنا العربي حتى تاريخه، مسلطين عبرها ضوء التحليل والنقد للواقع العربي بكل ما يحمله هذا الواقع من رؤى وافكار وشعارات وأيديولوجيات، وبالتالي ما يعيد هذا الواقع إنتاجه أيضاً من قضايا تخلفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي حالت ولم تزل تِحول دون تحقيق النهضة أو التقدم والسير في ركاب الأمم المتقدمة. وأحب أن أشير هنا في هذا السياق، إلى أن اليسار العربي وبعض القوى الليبرالية التي تأثرت بنهضة الغرب، كانوا وما زالوا هم الأكثر نشاطاً في إعادة تقويم هذه التجربة على مستوى الواقع والفكر، وخاصة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية.

بعد كل تلك الأسئلة النهضوية، والإجابات الكثيرة التي جاءت حول ما تضمنته هذه الإيجابيات من شعارات ورؤى وأفكار، أو أيديولوجيات بتوجهاتها القومية أو الاشتراكية أو الإسلامية، تأتي أيضاً اليوم بعض الأسئلة أو التساؤلات المشروعة التي تطرح نفسها تحت مظلة ما تحقق من تحولات مأساوية في واقعنا العربي بإسم ثورات الربيع العربي التي ظهرت على ساحة العديد من الأقطار العربية، مثل: هل مشاريع الاشتراكية أو القومية أو الإسلام السياسي قادرة على إعادة طرح نفسها من جديد عبر حواملها الاجتماعيين كمشاريع نهضوية بعد فشل ممارستها في الواقع العربي خلال السنوات الماضية؟. وهل صحيح أن مشروع "الحاكمية" الذي تتبناه داعش وكل الفصائل الإسلامية المسلحة (الجهادية) والسياسية (الإخوانية) منها على الساحة العربية اليوم هي الحل، وذلك انطلاقاً من مقولة (لن تُصلح هذه الآمة بعد أن فسد أمرها إلا بما صُلح به أولها في القرون الهجرية الثلاثة الأولى)؟. أي العودة إلى النبع الصافي كما طرحته القوى السلفية الأصولية وعلى رأسها الحركة الوهابية والأشعرية والماتريدية، بعد أن فشلت كل مشاريع النهضة العربية السابقة.

إن قراءة أولية وسريعة للكثير من الإجابات التي قُدمت كحلول لأسئلة النهضة تلك منذ بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم، تبين لنا أن بعضها- أي الاجابات- يجد الحل في تبني مشروع القومية العربية، بالرغم من فشل كل التجارب الوحدوية السابقة وعلى رأسها وحدة 1958، وما تركته من سلبيات على الساحة العربية بشكل عام، والقطرين سورية ومصر بشكل خاص، فاقت كل إيجابيات قيامها. بينما نجد بعضها الآخر لم يزل يتمسك بالاشتراكية كحل لتجاوز تخلف هذه الأمة وتحقيق نهضتها، بالرغم أيضاً من فشل وانهيار معظم إن لم نقل كل التجارب الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وهناك من راح يعوّل في إجاباته كثيراً على الأيديولوجيا الإسلامية و(حاكميتها)، مع تأكيدنا بان أصحاب هذه الأيديولوجيا بدأوا يعولون قيام النهضة على هذه الأيديولوجيا منذ عشرينيات القرن الماضي مع تأسيس حركة "الإخوان المسلمون"، اولاً، ثم مع نهاية السبعينيات من القرن ذاته بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية ثانياً، إلا أنهم ألحوا على الحاكمية كثيراً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، وفشل المشروع القومي، بل وحتى المشروع الليبرالي تطبيقاً في عالمنا العربي، هذا المشروع الذي روج له المستعمر الأوربي أثناء احتلاله للعديد من البلاد العربية، وكذلك روجت له القوى السياسية البرجوازية الكومبرادورية التي استلمت السلطة بعد خروج المستعمر، وهي القوى السياسية التي لم تستطع أن تحقق استقلالاً فعلياً للبلاد بعد طرد المستعمر، حيث ظلت قوى مرتبطة بالقوى الاستعمارية وتعمل وفقاً لمصالحهما معاً وليس لمصالح الشعب، كونها قوى عاجزة في الحقيقة عن تحقيق مصالح الشعب بسبب فقدان الظروف الموضوعية والذاتية التي تسمح لها بتحقيق ذلك من جهة، ثم هي قوى لم تصل إلى مرحلة وعي الذات – أي قوى تعمل لذاتها وللشعب – من جهة ثانية، الأمر الذي أدى إلى محاصرتها وإجهاض قواها السياسية عبر انقلابات عسكرية رفع قادتها شعارات نهضوية وتقدمية وتحررية تحولت فيما بعد - هذه الشعارات - إلى أيديولوجيات أو منطلقات نظرية سياسية ربطت النضال القومي بالإشتراكي، وركزت في توجهاتها على قضايا النهضة العربية بأبعادها الاستراتيجية، حيث التفت حولها الجماهير لتعطيها أو تمنحها شرعية الحركات الثورية أو الثورات الشعبية، لاسيما بعد أن تحولت هذه الحركات العسكرية إلى أحزاب منحت نفسها صفة (الديمقراطية الثورية)، واعتبرت نفسها قائدة لحركة التحرر العربية ووصية على تحقيق نهضة هذه الآمة وتجاوز عوامل تخلفها، وهي القوى ذاتها التي حملت المشروعين المجهضين القومي والاشتراكي في الساحة العربية. هذا مع تأكيدنا في هذا السياق هنا، بأن المشروع الليبرالي بدأ يعيد طرح نفسه من جديد مع انهيار المشروعين الاشتراكي والقومي من قبل بعض الأحزاب الديمقراطية الثورية ذاتها التي حملت هذين المشروعين عدة عقود، بسبب تحول الكثير من قادتها إلى برجوازية بيروقراطية وطفيلية بدات تبحث عن منافذ أخرى لنهب الاقتصاد الوطني بإسم الحرية واقتصاد السوق الاجتماعي، ثم بسبب الضغط الذي مارسته أميركا وأروبا على السلطات الحاكمة في العالم العربي عموماً لتوسيع الهامش الديمقراطي، خدمة لمسألة اقتصاد السوق الذي يصب في المحصلة في خانة المصالح الرأسمالية الاحتكارية بعد الحرب الباردة وظهور النظام العالمي الجديد، حيث رحنا نلمس تنازلات مدروسة من قبل الأنظمة العربية بكل أشكال حكمها، لتفعيل أو قبول يعض معطيات الليبرالية التي راح العديد من المثقفين الليبراليين العرب، أو من مثقفي السلطة، يعيدون طرحها والمطالبة بتوسيع هوامشها في الساحة السياسية العربية، الأمر الذي جعل بعض الأحزاب الديمقراطية الثورية وغيرها من الأنظمة العربية المرتبطة أصلاً بالمصالح الامبريالية تخضع لهذه المطالب وتعيد تنظيم بيتها الداخلي على أسس ديمقراطية، بالرغم من أن هذه القوى الحاكمة راحت تفصل هذه الديمقراطية على قياسها أيضاً.

نعود ثانية لنقول: إن كل المشاريع النهضوية التي طُرحت في الحقيقة على الساحتين الفكرية والسياسية العربيتين بعد فشل المشروع الليبرالي بقيادة القوى الحاكمة التي ورثت السلطة بعد خروج المستعمر أولاً، أو فشل مشروعي القومية والاشتراكية الذين حملهما ما سمي بقوى الشعب العاملة، وهي قوى البرجوازية الوسطى والصغيرة ومن تحالف معهما من العمال والفلاحين وصغار الكسبة والمثقفين الثوريين وعناصر الجيش الذين وصلوا إلى السلطة بانقلابات عسكرية ثانياً، بغض النظر هنا عن طبيعة الكثير من المفردات الأساسية التي تتضمنها هذه المشاريع الأيديولوجية أو أحاطت بها موضوعياً وذاتياً، مثل الحوامل الاجتماعي لها، ودرجة التداخل الطبقي لهذه الحوامل ودرجة حدة تناقضاتها وصراعاتها، وكذلك درجة نضوج الظروف الموضوعية لتحقق هذه المشاريع، ثم البعد الأخلاقي والقيمي عموماً في بنية المجتمع العربي. وهناك أيضاً تأثير خصوصيات الواقع العربي المتخلف اقتصادياً واجتماعياً والعلاقة الجدلية بين العام والخاص والداخل والخارج، يضاف إلى ذلك حالات الجهل والأمية والتخلف البنيوي في مستويات الواقع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغير ذلك من قضايا تتعلق بتحريض الفعل النهضوي أو عرقلته لكل مشروع من هذه المشاريع النهضوية.

على أية حال، إذا كان المشروع الاشتراكي قد لاقى حتفه مبكراً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية برمتها وعلى راسها قائد هذا المشروع وهو الاتحاد السوفيتي، وذلك بسب عوامل كثيرة تأتي على مستوى داخل كل دولة أو خارجها، فإن أحد أسباب الانهيار الداخلي تتعلق برأيي في جوهر تلك المقولة العقلانية والموضوعية لماركس التي وردت في مقدمة كتابه (مساهمة في نقد الاقتصاد الساسي) التي تقول: (لكي ينتقل المجتمع من مرحلة تاريخية قديمة إلى مرحلة جديدة أكثر تطوراً، يجب على المرحلة السابقة أن تستوعب كافة التطور اللاحق لقوى وعلاقات الإنتاج، وبالتالي من صلبها تولد المرحلة الجديدة.). هذه المقولة التي تم تجاهل مضمونها العقلاني الجدلي بشكل واضح، عندما تم تبني مقولة (حرق المراحل) أولاُ، ثم عدم تمثل قوانين الجدل وفهمها على حقيقتها اثناء الممارسة ثانياً، هذا مع تأكيدنا هنا بأن هذه المقولة لا تشي في مضمونها عن فكرة الحتمية الميكانيكية المبتذلة، وإنما عن فكرة الحتمية الجدلية التي تقر بأن التاريخ يصنعه الإنسان نفسه، والإنسان بقدر ما يعيش في واقع تتحكم فيه الضرورة، فهو- أي الإنسان- حرية أيضاً حيث يستطيع أن يتحكم في الكثير من مسارات تاريخه ويسخر حركة هذا التاريخ لمصالحه بعد أن يكتشف تلك القوانين العلمية (الضرورة) التي تتحكم في سيرورة وصيرورة الواقع وآلية حركته، مع تأكيدنا هنا بأن الناس العقلاء يطرحون على أنفسهم المهام التي يستطيعون حلها على حد تعبير ماركس، فإن المشروعين الآخرين (القومي والإسلامي) لا تختلف أسباب فشلهما من حيث الجوهر عن فشل المشروع الاشتراكي.

 

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من ديرالزور- سورية

 

 

في المثقف اليوم