قضايا

خطاب التطرف

منذ بداية هذا القرن، ولأسباب عدة، موضوعية وذاتية على حدّ سواء، انتشرت موجات من التشدد والتطرف في العديد من بلدان العالم. أفراد وجماعات وحركات وتنظيمات، ركبوا جميعا موجة من الغلو في التفكير والتشدد في إبداء الرأي والتطرف في الحوار، ثم اللجوء للعنف، على خلفية من استحضار المعين الديني، أو من خلال امتطاء ناصية تأويل جاف لمضامينه وأحكامه. إنه حالة ذهنية، ثم موقف ثم سلوك ينشد التكفير والعنف، ولا يتوانى في ليّ عنق النص المقدس لخدمة إيديولوجيا الإرهاب التي تعتنقها، هذه الجماعة أو تلك، جهارة أو بالمضمر. إن الشخصَ المتطرف على استعداد أن يضحي بأثمن ما عنده (بلده، أسرته، حريته، وظيفته،...)، ولاسيّما حياته، وفي كثير من الحالات حيوات الآخرين أيضًا باسم فكرة، سواء أكانت فكرة دينية، أو سياسية، أو أيديولوجية،...، تكون لديه اعتقاد جازم بصحتها وجدارتها، إلى درجة لا يساورها الشك. بيد أنه على الرغم من التشدد الظاهر، الذي تبديه هذه المجموعات، فكرا وممارسة على الأرض، بإزاء مظاهر العصر والحداثة، فإنها لا تتوانى مع ذلك، في استخدام وتوظيف ما استجد منها، لا سيما على مستوى ما أتاحه الإعلام الفضائي العابر للقارات وما مكنته الشبكات الاجتماعية ذات النزوع الافتراضي الواسع، وذلك من أجل التمرير "لرسائلها"، ثم الترويج "لمنظومتها الفكرية"، لا بل ولاستقطاب "جمهور متعاطف" معها، متبنّ لطروحاتها في هذه الجهة من العالم أو تلك. ولذلك، فإن المدخل الأساس لمواجهة تطرف هذه المجموعات، لا بل وغلوها ثم العنف والإرهاب الذي تتبناه، إنما يمر عبر تقويض ذات المنظومة في بنيتها وبنيانها، وزعزعة خلفياتها وتعرية نمط تفكيرها وتمثلها لذواتها وللآخرين. كذلك وجوب العمل على تفكيك خطاب التطرف الفكري، وبيان مدى ضعفه، وهذيانه وعليه، فإن مواجهتها، من الناحية العملية على الأقل، إنما يجب أن تتم من بين ظهراني معاقلها المفضلة: بالمساجد والبيوت، بالمدارس ونوادي الشباب، ولكن أيضا وبالتحديد على مستوى الفضائيات وبشبكات الإعلام الاجتماعي، حيث تتجذر هذه التيارات وتجد المجال فسيحا لبث سمومها وانحرافاتها.والعمل على إعلاء القيم الإنسانية السامية، وخاصة كرامة الإنسان وحريته، إن التطرف يبدأ بالفكر وبأدمغة الناس، ثم يسري ويتدرج في أفق استباحة منظومات قيمهم، ثم يتطور ليتحول إلى رفض للآخر، ثم إلى إخراجه من الملة وتكفيره، ثم إلى استباحة دمه وعرضه، ثم إلى إفساد الضرع والزرع جملة وتفصيلا. لذلك، وجب فهم آليات اشتغاله قبل العمل على مواجهته بأرض الواقع وعلى مستوى الإعلام. ثم إن التطرف لا يضع تمييزا بين هذا وذاك، مسلما كان أو غير مسلم. إنه سلوك أعمى، يكون صاحبه قد أدرك مراتب عليا في الغلو (بالمدارس أو بالجامعات أو من خلال الإدمان على فضائيات التطرف)، فلا يبدو له الإنسان كغاية، خلقه الله لإعمار الأرض، بل كهدف لا يستقيم الغلو في ظله إلا بالاستباحة والقتل والتدمير. على الرغم من القوانين والقواعد التي تفرضها حياة المجتمع على الأفراد، وكذا التنازلات التي عليهم تقديمها، إضافة إلى طاعتهم وتبعيتهم لمتطلبات الجماعة والمجتمع، فإن هذا لا يعني، أبداً، أن يكون الفرد خاضعاً وتابعاً بالمطلق؛ فتمت أمور عديدة على الإنسان أن يكون فيها مستقلا وحراً، يتخذ قراراته حسب قناعاته الشخصية، وليس تبعاً لما تمليه عليه جهة من الجهات، ودون أن تمارس عليه الوصاية من أي طرف أو سلطة

 

احمد حامد

 

 

في المثقف اليوم