تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

العقل الدَّعوي واحتكار الحقيقة (4): الإيمانُ.. عقلُ القلب

مجدي ابراهيمليس من شك عندي إنّ للنفس الإنسانية إشعاعات نورانية يلمسها حسن التوجُّه إلى الله، ولكنها مع ذلك سرعان ما تنطفئ مع حالات القبض التي يعتروها .. ونقصان الوعي الباطني ينسحبُ منها ويتسرَّب. وقطرات الإيمان تتقطر رويداً رويداً حتى لكأنها تنقطع وتتلاشى بالمرة فلا تكاد تفيض! إنما الإيمان يُعْطي ولا يتعاطي؛ يصدر عن القلب في كافة الأحوال مجرَّداً عن اللواحق والعوائق والصور التجريدية والواقعية في كل ما تلمسه واقعات الحياة، ويظل مع الاعتبار والتفكر واليقظة مفتوحاً بمقدار انفتاح القلب على الجهة العلوية، ولا يقبل الأوشاب والأخلاط مما قد تصوره الشهوات العقلية وأهواء التفكير فيما يصنع الإنسان أو فيما يدع .

فالكدورة التي تصل إلى القلوب هى من تصورات العقول وشهوات الأذهان .. والصفاء الذي تنصقل فيه القلوب لهو في محاربة أوهام العقول المحدودة بتصوراتها، المكبلة بمقولاتها الفكرية والمنهجية، المرهونة بمحدودية إدراكها، المقيّدة بمحددات أحكامها وفروضها؛ فلا يصفو قلبُ مطلقاً ممْجوج بتصوِّر مغلق غير مفتوح .

وليس للمرء في كل الحالات مثل هذه الفيوضات ولا تلك الإشراقات، لكنه على القبض تارة، وعلى البسط تارة أخرى، على الإيمان والإيقان تارة وعلى الكفر والضلالة تارة أخرى، على المنهج تارة وعلى خلافه تارة أخرى، وعلى اليقين الصادق تارة، وعلى الزعزعة والارتياب تارة أخرى. والقول "الثابت" في كل الأحوال منالُ عظيم لا يعرفه إلا المؤمنون حقاً بتوفيق الله وهدايته؛ أولئك الذين سلَّموا له أمرهم ولم يعارضونه إذْ اسقطوا معه التدبير وتأدبوا بآداب العبودية ولم يشركوا به أحداً من خلقه. القلوب لا ريب تتقلب، وثباتها ليس في مستطاع أحدٌ من الخلائق. والطريق لسان صدق؛ لم يعرفه أحدٌ بعقله المحدود ولا باتجاهه النظري، ولا بمجرد الرؤية الفكرية التي يتولّاها عقله القاصر المحدود بحدود ما يفكر فيه. وفهمنا عن الله لو كان صادقاً وصحيحاً لشاءت إرادة الله تطبيقه فعلاً وحركة في هذه الحياة الدنيا الصاخبة بغريب الأقوال بُله الأفعال !

أي نعم ..! حتى في هذه العبارة عسف وتخريج بليد! مَنْ نحن حتى نفهم عن الله ما يريد أو نكون أهلاً لكي نفهم عن الله إرادته فنطبقها فعلاً بحذافيرها على حياتنا اليومية؟! ما نحن سوى آلات لأنفسنا؛ مجرَّد آلات مصنوعة تترجم عن أنفسنا وتصور ما تراه أنفسنا وتتوَّهم - على الجهالة أو ظنون اليقين!- ما من شأنه أن تدركه ولو زعمت مريضة أنها تفهم عن الله، فيقينها في هذه الحالة يقين وهم تعَشْعَش فيها ! إنها فعلاً على يقين، غير أنه يقين جهالة عمياء، وليس هو باليقين السالم من الجهالة والعماية .

"عقل القلب" وحده هو الذي يخلّص الإنسان من الجهل ومن العمى: عقل القلب وليس "عقل العقل". "والقلب العاقل" وحده هو الذي يسمع خطاب الحق فينظر بنظر الله .

وعقل القلب والقلب العاقل هما في الحقيقة عين البصيرة الإنسانية التي ترى بنور الله ما لا يراه المبصرون المحجوبون في نفس الحال: المُبصرون بحاسَّة البصر كجارحة، والمحجوبون بحجاب النفس الظلمانية عن نور البصيرة؛ إذْ ليس افتقاد البصر قياساً إلى افتقاد البصيرة حجاباً ولا عَمَى:"أَفَلَمْ يَسِيروُا فِي الأرْضِ فَتَكُوُن لهُمْ قلوبُ يَعْقِلُوُنَ بِهَا أوْ آذانُ يَسْمَعُونَ بِهَا، فإنَّهَا لا تعْمَي الأبْصَارُ وَلكنْ تَعْمي القلوُبُ التي فِي الصِّدُورِ" (الحج: آية 46).

مَنْ ذَا الذي يسيطر على نفسه ويقبض عليها العنان بالكلية ليلزمها الطاعة الدائمة في غير عوج والتطبيق السليم من غبش الانحراف .. مَنْ ..؟! ثم من ذا الذي لو أحسن الفروض وأحكامها أن يتحرَّر منها مع التطبيق ليتجرّد كل التجرد؛ بعضه أو كله، وما هو بمستطيع؟ أو بعبارة أخرى: من هذا الذي يقتدر على التحرُّر من عمله، ومن عبادته، ومن فهمه ليتجرَّد لله مطلق التجرد ليكون بتجرده عبداً خالصاً كيما يجيء إخلاصه علامة على تجرده، وما هو في الواقع بمستطيع ؟

إنّ استطاعتنا على أنفسنا ضعيفةً؛ ودرجة وعينا بأنفسنا ضئيلة جداً، وتلقينا لمنهج الله بمقتضى تلك النفوس وحدها، شيء أدنى إلى مرض الخيال العاطل؛ ذلك الخيال الذي لا يقول به إلا ضعفاء التحقيق .

الطريقُ إلى الله مفتوحٌ وليس بمغلق، لكن الغريب الداعي إلى الدهشة إنه مفتوح من قِبَل الله سبحانه، في حين يغلقه البشر بتصوراتهم المحدودة ترتد في أول ما ترتد إلى حظوظ النفوس لديهم، وإلى شهوات العقول فيهم، وإلى تخريجات الأذهان فيما خرَّجته على قدر تصوراتها وفيما سمحت به استعداداتها فيما عساه تسمح؛ ثم إنهم لا يكتفون بغلقه على أنفسهم من جانب هذه التصورات، ولكنهم يُلزمون غيرهم بتصوراتهم، وبحدود تفكيرهم، كما لو كانت مثل هذه التصورات هى هى عين الطريق إلى الله بل هى في نظرهم عين الحقيقة التي يجسدها هذا الطريق، وكما لو كانت مثل هذه المحدودية الفكرية هى هى الحقيقة ولا شيء سواها، وكما لو كان الطريق في الوصول إليها هو هو الطريق الأوحد ولا طريق سواه، غير أنه من جهة أخرى الطريق المغلق المحدود وكفى !

نكررها كما كررناها في السابق: حديثُ الله للبشر لا شك شيءٌ، وحديثُ البشر عن الله سبحانه وتعالى شيءٌ آخر. كلُّ ما يكشفه الله من منهج على لسان البشر هو حديث البشر؛ ومن هنا جاز من أجاز لنفسه أن يصوِّر أن حديثه عن الله إنما هو حديث إلهيِّ، أو يتوهم ذلك، واختلط الحابل بالنابل عند كثيرين فرأوا أن من يتحدَّث منهم عن الله؛ وعن منهج الله، لكأنما يتحدث في الحقيقة عن الله لا عن نفسه. ولو أنه سبحانه كشف الحقيقة لمخلوق لاحترق من فوره، ولسلبَ عنه قوله، وفعله، وتصوراته هذه المزعومة، فضلاً عن كيانه كله، فلا يرى ولا يسمع ولا يفكر ولا يقول ولا يعمل بل يغيب كما المجذوب .

فماذا عساه يكون كل هذا الذي تراه من تصورات البشر، وتنظيرات البشر، وتعاليم البشر، ودعوات البشر، وحكمة البشر، وسخافات البشر؟ إنها .. لا شيء! من البشر تصدر وإلى البشر تعود. إنها تصورات بشرية ليس إلّا؛ مُجرَّد حديث بشري عن الله ليس مُلزماً لأحد، ولا من حق أحد أن يفرضه بالقوة قسراً على أحد. ليس فيما يفهمه البشر عن الله يجيء بالضرورة ملزماً لعباد الله كإلزام شرعه هو، أو كإلزام سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وردت بالتواتر في غير انقطاع، لأن إلزام الوحي ليس كإلزام البشر، وإنما الوحي روحٌ إلهي معصوم لا ينطلق من وهم البشر ولا ينطق عن الهوى بل يعلمه شديد القوى .

بمجرَّد أن يتحوَّل "التلقي" إلى أذهان بشرية يخرج عن منطقة الإلزام، ليسمح بالخلاف الفكري، مهما كان المتلقي ذا شأن وذا سلطان، وبمجرَّد أن يتصوَّر المتلقي منهج الله ينصبغ بنفسه ليصبح في الغالب هوى ترتاح إليه النفوس وسمادير تتيه فيها تصورات العقول، وتنظيمات وتقريرات ومقولات وتطبيقات وإرشادات، لا تعطي ذات الحقيقة على ما هى عليه بل تعطي ذوات نفوس أصحابها .

والحقائق ! وما أدراك ما الحقائق؛ لا تدوَّن في كتب، ولا تسطر في صفحات: الكتب والصُّحُف والأوراق قد ترشد إلى الحقيقة، لكنها لا تعبر عنها، ولا تستوعبها أبداً، ولا تحصلها أبداً، فهى دوماً فوق مُستطاع التعبير البشري فضلاً عن التفكير والتقدير. إنّ التوفيق في إصابة المزاعم والادِّعاءات وصياغة الحقائق من تلقاء النفوس أمرٌ لا شك مرهون بوعي باطنيِّ جوَّانيِّ من تقدير وتكييف القدرة الإلهية في أول وآخر مقام، لكنه مع ذلك ليس محتوماً برؤية شخصية تقوم على هوى صاحبها، ولا ينبغي أن يكون مقصوراً باتجاه معين، أو على اتجاه معين يسودُ ويترأس ويتفرَّد وحده بامتلاك الحقيقة المطلقة؛ لأن هذا الاتجاه نفسه قصورٌ في الوعي العام والوثبة الكلية؛ وتجزُّؤ لشمول النظر يفرضه تناقض العقل المحشور حشراً فيما لا يعنيه .

وإدخال العقل فيما لا دخل للعقل فيه هو ضد عمل العقل نفسه؛ بل ضد عمل الوعي بالكلية، إذْ الوعي أعمُّ من العقل، وأشمل من التحجير والتضييق. الوعي تعبيرُ عن اتساع الرؤية القائمة على شمول الإدراك؛ ولأن شمول الإدراك هذا، هو من التمكن من أصالة الشعور وبواطن السريرة بحيث لا يُقيِّده إدراك العقول المحدودة باتجاه معين ولا تغلقه على توجه معين ولا تكيفه بتكيُّف بعينه يُلزِم الجميع تحت سطوته وسلطته، وعلى شرطه هو وعلى شرط سلطانه؛ لا على شرط الله الذي يدعو الداعي إليه زاعماً امتلاك الحقيقة المطلقة وحده دوناً عن سواه، الأمر الذي يسيء بفعله وقوله إلى الدعوة فضلاً عن الإساءة إلى المنتسبين إليها.

لا ينشأ الصراع حول العقائد والأديان فضلاً عن صراع المؤمنين بالدين الواحد إلّا حين يتصوّر المتصارعون إنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة تفكيراً وتعبيراً، ويروجوّن لفكرة التملك بوسائل العنف الداعي لعدم احترام الآخر المختلف معهم في العقيدة والدين، ناهيك عما يوحي به إزراء الدين الذي ينتسبُ إليه المتصارعون باسم الزعامة أو السُّلطة، المفتقرون إلى القلوب العاقلة عن ربها، العارفة عنه مقررات الوعي بهذا الدين أو ذاك.

سيدنا رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، كان نبياً ولم يكن صاحب سلطة دنيوية، لم يكن باللَّعَّان ولا بالشَّتَّام ولا بالغَدَّار ولا بالطمَّاع ولا بالصَّخَّاب في الأسواق ولا بالمنفّر خلق الله من دين الله، ولا بسيئ الخلق بل كان خُلقه القرآن، حتى لقد وصفه رب العزة بقوله:"وإنّك لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيم".

ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - طالب دنيا ولاجاه ولا منصب ولا رياسة ولا مُلك، ولنتذكر قوله لعمر:" مهلاً يا عمر أتظنها كسرويّة ؟! إنها نُبوَّة لا مُلْك"، ثم قال لأصحابه: " أنتم أعلم بشئون دنياكم"؛ مشيراً بذلك إلى أن تصريف الشئون الدنيوية مما يكن للبشر أنفسهم أن يسيروا فيه وهم على وعي من تخطيط أنفسهم بمثل هذا المسار بعيداً عن سخف التَّمَسُّح بالدين .

قضى رسول الله على حكم الكهنوت، ولم يدع سُلطة بين العبد وَرَبّه سوى سلطة الضمير التي لا سُلطان فيها لأحد على أحد، واجتهد المسلمون من بعده بالإجماع بما اشتمل عليه من قياس واستحسان أو مصالح مُرْسَلة، لم تتقيد بحكم خاص ولم يرد فيها نص ولا سبقتها فيما تقدم سابقة .

ومن هنا قال الإمام محمد عبده، خصوصاً مما يَلزم الإشارة إليه على الدوام وبغير انقطاع:" ليس في الإسلام سُلطة دينية، وأصلُ من أصوله: قَلْبها والإتيان عليها من أساسها، والخلافة هى بالسياسة أشبه، بل هى أصل السياسة ! والخليفة حَاكم مَدَني من جميع الوجوه" . وهو حين يقول الخلافة هى بالسياسة أشبه؛ أي يريد أن يقدح في تفكير الذين ينادون بالخلافة الإسلامية ويوجهون النداء إلى خواص المسلمين؛ لأن وجوب هذه الخلافة كوجوب السياسة، والسياسية مصلحة مرسلة، والخليفة بالأساس حاكم مدني وليس ديني. ولنذكر أنه كتب كتاب "الإسلام دين العلم والمدنية"، شرحاً لأصول الإسلام، ودرءاً للتعارض بين العلم والدين، وَرَدَّاً على من يتهمون الإسلام بما ليس فيه: العداء للعلم وللحكم المدني أو التَّسَلط بالدين على ضمائر الناس .

 

د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم