تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

العقل الدَّعوي واحتكار الحقيقة (5): معالم منهجيّة في طريق الدعوة

مجدي ابراهيمالمؤمن الصادق، الصادق، والداعي إلى الله على بصيرة، مع كل ما أُوتىَ من فضل الله؛ ليس يقيد وعيه المفتوح باتجاه، وليس يغلُّ شعوره بأغلال الكراهية لخلق الله؛ إذْ إن فضل الله هذا؛ ليسمح له بالانفتاح على الأخر، ومحبة الآخر، وإذكاء شعور التفاهم والتقارب مع الآخر، والبحث معه عن مجالات مشتركة ومتضامنة .. فلو كان هذا الداعي علي بصيرة ترك ذاته على ما استوعبت لكان شأنه شأن كبار الروحانيين، مفكرين وعارفين، علامة مضيئة في تاريخ البشرية لا تتعَنْصَرْ ولا تنغلق: يطلقونها وثبة حيوية علوية مباركة، ويندفعون بها إلى محبة الإنسانية كلها، قاطبة، الصغير فيهم قبل الكبير، والحقير فيهم قبل العظيم، والبعيد فيهم قبل القريب . والإسلام دين الإنسانية، وهى جزء لا يتجزأ من أصل دعوته، سماحته تتسع ولا تنقبض عن لقاء ما في الإنسانية من سماحة التعاليم، وأظهرها الرحمة بالإنسان من حيث هو إنسان .

إنّ الدعوة إلى الله يلزمها الحب ولا يلزمها العَسَف والإرهاب. هذا الحب الذي يتناغم مع أجزاء الكون كله، ومع حركة الحياة كلها، ومع نبضات الوعي الروحي الشاعر باحترام الحياة في كل حي على هذه البسيطة: احترام الحياة التي أودعها الله في الكائن الحي ولم يحرمْه هذا الحق أبداً، أعني "حق الحياة"؛ لأنه هو المخلوق على الصورة بأتقن صفات الخلق المنوطة به إدراك هذا الحق لمن يدرك عن الله ويفهم حكمه وحكمته في الأشياء والأحياء؛ ولأنه هو المخلوق بالنفخة الإلهية المُكرًّمة من قبيل الخالق جلَّ شأنه .

إن لحظة الإدراك هذه؛ لهى اللحظة الكاشفة. هذه "اللحظة" التي تمسك بالحقيقة وتقبض عليها واعية ليست لحظة تفكير عقلي ولا نظر فكري، ولكنها لحظة كشف قلبي وفتح روحيِّ مؤسس على المحبة، وعلى عشق الحياة في الكائن الحيِّ، قائم على استجماع القوى الباطنة في تذوق ما للحياة من مواهب إلهية عجيبة وليس في التحجير والتضييق بفروض ولوازم سنها العقل البشري بحدوده المنهجية ليقول للناس كافة إنها من عند الله، منهج الله، من أطاعها وعمل بها فقد أطاع الله ورضىَ عنه الله، ومن عصاها وأختلف معها فقد عَصَىَ الله وسخط عنه الله، وهى في الحق - لكونها اتجاهاً - من حصيلته العقلية وتصورات الذهن لديه على أكثر الفروض وأرجح التقديرات .

لسنا نحن المسئولون بمحاكمة "عيال الله" بمنهج الله، حتى لو كنا على الحقيقة فهمناه، ولكن المؤكد إننا نتصوَّره نحن من عندياتنا وتكشفه أنفسنا لأنفسنا على ما في نفوسنا من ضيق ووهن وغفلة وكنود وتحجير، إنما الله وحده هو المسئول، وما نحن سوى أطفال في حجره، موتى بين يديه، لا إرادة لنا إلا فيما يريده فينا، ومنا، ولنا، فالتسليم له أولى من النظر إلى النفس وإتباع حظوظها، مع اختيار مواطن قوتها ومكامن ضعفها. ولكن هل يجدي الإدِّعاء نفعاً فيما لو زعمنا امتلاك النواصي واقترحنا على الله ما تصوِّره لنا نفوسنا في أن يعطي هذا ويمنع ذاك، يعاقب هذا ويثيب ذاك، يُدخل هؤلاء الجنة ويجرَّ أولئك إلى النار، يفعل بأولئك الشرِّ وبهؤلاء الخير، إلى آخر ما تصوّره لنا نفوسنا وتزينه عقولنا المحدودة بحدود ما تدرك وما تتصور ..؟!

اقتراحنا على الله غباء آدمي لا يُفسَّر بالغيرة على منهج الله مقدار ما يفسر بالجهل بالله؛ ولو كنا في أنفسنا مع الإدعاء، من أعلم العلماء بأحكامه ومنهاجه وفروضه، ومن أقدر القدراء على توصيل هذا كله للناس.

الله غنيُّ عنَّا، وعن خزعبلاتنا، وعمَّا تصوره عقولنا باسمه تحت إعلاء كلمته وبحجة تطبيق شريعته غناه عن عبادتنا، وأعمالنا، وأقوالنا، وأفعالنا، وتوجُّهاتنا، إلا أن يكون ذلك كله، لا بعضه، مخلصاً، خالصاً لله ربِّ العالمين .. والمخلصون مع ذلك كله على خطر عظيم !

نعم ! إذْ ليس للنفس في الإخلاص نصيب؛ لأنه ليس لله إلا الدين الخالص:" قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالمَيِنَ. لا شَرِيِكَ لهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأنا أوَّلُ المُسْلِمِين" (الأنعام: الآيتان 162- 163). الله غني عن العالمين، وهو كذلك أغنى الأغنياء عن الشريك، كما جاء في حديث أبي هريرة بلفظه أن رسول الله، صلى عليه وآله وسلم، قال:" قال الله تبارك وتعالى:" أنا أغني الشُّركاء عن الشِّرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشِرْكه" (صحيح مسلم: طبعة دار الغد الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1428هـ - 2007م؛ ص 1053).

هذه النقاط المتقدِّمة ليست في جملتها نقداً للخطاب الديني؛ فكما أن لهذا الخطاب سلبياته التي ترتدُ في المقام الأول إلى أصحابها، فصحيحُ الدين كذلك هو أيضاً خطاب، لكنه خطاب إلهي، يكون من اللغط الأجوف المنفِّر أن تمتد إليه يد العبث والتخريب تحت دعوى النقد والتصحيح؛ فمقولة "نقد الخطاب الديني" هذه، قد يستخدمها الناقد وفي حوزته هدم الصحيح والزائف، وتنحية الدين برمته عن شئون الحياة، وإقصائه بالمرة عن الوجود الإنساني، وهو عندي من المستحيلات التي يتوهَّمَها أدعياء النقد لهذا الخطاب.

وقد يستخدمها الناقد ليعطي كل ذي حق حقه بميزان معتدل قائم في تقديري على ذوق البصيرة لا على غيبة المفاهيم ابتداءً، أو على محاولة طمس الحقائق الواضحة بذاتها ليصبح الدين عرضة للتشكيك الدائم كيما يكون في معزل عن حياة الأحياء !

فمثل هذا المقصد لا يقوم به إلا مخبول لا يعرف ما له وما عليه، ولكن الذي يجرِّب الدين، ويمارسه سلوكاً، وفعلاً، وحركة، ومراقبة، وموافقة، وحياة، لا يلبث في أطواء التجربة وفي خضم المغامرة المعرفية أن تنقلب الحقيقة التي يطلبها أو يزعم لنفسه امتلاكها عليه، لتقيده بمنهجه وتلزمه بنتائج مقولاته فلا يجد بداً في النهاية من الاعتراف ضمناً أو تصريحاً بأن ما ظنه "حقيقة مطلقة"، إنما هى حقيقته هو نفسه، هى هى التي أجابته وألزمته وقيَّدته وكبلته بقيودها وأغلالها؛ كما عَبَّر عن هذا المعنى أحد كبار العارفين بالله، وهو الإمام أبو المواهب الشاذلي؛ صاحب كتاب " القانون في علوم الطائفة" حيث قال:

مَثِّل لنَفْسَك بَيْتاً أَنْتَ سَاكنِـَـــهُ مِنْ المرَايا وَأثبِتْ قُطبَ مَرْكَزَكا

وَقُلْ لَهُ يَا أنَا هَل كُنْتُ قَطُ أنَا فمَا يُجيِبَكَ إلَّا أنَـتَ عَنْـــكَ بـِكَ

ومن هنا؛ فتصور امتلاك الحقيقة أو القبض عليها هو من الأوهام الشديدة التي لا يستطيع أحد الفكاك منها مهما أُوُتى من جهد الممارسة والتتبع والتحليق. من أجل ذلك؛ جاءت هذه النقاط السابقة في جملتها ليست نقداً لذات الخطاب الديني الذي يحمل الحقيقة في مصدريها الرئيسيين: الكتاب الكريم والسنة النبوية المشرفة، ولكنها معالم في طريق هذا الخطاب؛ يضعها "الداعية" في اعتباره لو أراد، إذْ ليس بمقدر أحد أن ينزِّه نفسه عن الخطأ والنقص والقصور، ليدَّعي على الغفلة أو الجهالة امتلاك الحقيقة المطلقة بمقتضى هذا الخطاب أو ذاك، فضلاً عن تنزُّهها عن" التظاهر بالدعوى"؛ فإن أشدَّ ما تلاقيه النفس بعداً عن الله تظاهرها بالدعوي.

والمقصود بالدعوى هنا هو كل ما للنفس فيه من حظ وفتنة وهوى، فهى تشمل كل ما ليس لله فيه حق: حق ينبغي أن ترعاه ولا ترعى غيره من حظوظها وأهوائها؛ إذْ الدعوى علامة حجاب، وكل مدَّعي محجوبُ بدعواه عن شهود الحق؛ لأن الحق شاهدٌ لأهل الحق، فكيف بالدعوى من قِبل الخلق؟ .. ولماذا؟!

إن معرفة الله تقتضي مواجهة دعاوى النفس بقوة، وبعنف، وبإخلاص يلزمها الحياء من ربِّ العالمين؛ وأهم سنن الحياء إخلاصاً: إخراج الخلق عن معاملة الرَّبِّ، ومن عَرَفَ نفسه عَرَفَ رَبَّه، واستحيا منه حق الحياء: خرسه لسانه عن التظاهر بالدعوى. وبناء على ما تقدم؛ فإذا نحن أردنا تصوّر الخطاب الديني فضلاً عن تمثله حتى الرمق الأخير، فإننا هنا لا نستطيع أن نتنبَّه إلى الأخطاء التي تلاحقنا في طريقها من جانب أنفسنا ما لم نكن في أنفسنا أعرف بأنفسنا من غيرنا، وأقدر على مواجهتها بما يكرهها على استقامة الطريق لتصبح ملاحقة أخطاؤنا من جانب أنفسنا هو أقوى ما في الداعية من عناصر العزم والتصحيح، بُلْه الإخلاص. فإذا لم يكن هذا الجانب فيه واضحاً وبارزاً، سقطت آثاره وانعكاساته فضلاً عن سقوط جانب القوة فيه بدايةً، وملاحقة نفسه، وغيره، بما يقرِّبُه من الخطأ ويبعده عن الصواب .

الخطابُ الديني ليس مقدَّساً؛ وإنما المقدَّس هو الخطاب الإلهي. وحين يكون الخطاب الإلهي تفكيراً وتعبيراً على ألسنة الناس وأفكار البشر؛ لا يصبح مقدَّساً، ولا يجوز- من ثمَّ - لأحد أن يقدَّس فكراً وتعبيراً جرى على ألسنة البشر. بيد أن البشر أنفسهم هم الذين يضْفُون عليه طابع القداسة، يقدِّسون أنفسهم بأنفسهم، ويحولون الخطاب المقدس الصادر عن الله إلى خطاب مقدس صادر عن البشر؛ ليس فيه قداسة ..!

قد تهدي الخطابات البشرية إلى ما هو إلهي .. نعم! وقد يستشعر "المتلقي" فيها ما يمسُّ شعوره القلبي، ويعجب لذلك، ويملأ أحاسيسه روعة بالإيمان، ويعجب لذلك. ومع ذلك، فإذا هو افترض فيها القداسة خرج عن نطاق الإيمان ودخل من حيث لا يشعر في دائرة الشرك، لم يتنبه إذْ ذَاَكَ وهو في حمية الشعور ودفقة العاطفة بوجوب التفرقة الحاسمة بين حق الله تعالى وهو (المقدَّس)، وحق البشر وهو (الإعجاب) الذي لا يخضع للقداسة، ولا ينبغي أن يخضع بحال .

هنالك فرق؛ وفرقُ كبير، بين الاحترام والتقدير من جهة؛ وبين التقديس الذي لا يحق لمخلوق أن يمنحه لأحد إلا للخالق عز وجل، من جهة ثانية. الاحترام أو التقدير قد يجيء بغير شك للعالم ولغير العالم من خلق الله، لأنه أدبُ يتحلى به المؤمن المتأدِّب بأدب الإسلام. أما التقديس؛ فهو ليس للأشخاص، ولا لما يَصْدُر عن الأشخاص من أفكار وتعابير أو رؤى واتجاهات، وإنما هو لله سبحانه وتعالى. وإذن؛ فالمساحة التي تسمح بالاختلاف؛ وبالنقد، وبالاستدراك من خلال إثارة محاور النقاش لمجموعة من القضايا لا يمنعها الاحترام ولا يحجبها التقدير للأشخاص، فأنا أحترمك، وأعزك، وأقدِّرك، بيد أني لن أقدسك، لكنني أناقشك وأختلف معك، لأنني لا أؤمن بك إيماناً مقدساً؛ فهذا الإيمان المقدس إنما هو للخالق العزيز، لله وحده الواحد الأحد الذي منعني بموجب هذا الإيمان نفسه أنْ أقدِّس غيره ممَّن خلق، وإلا أشركتُ به. فلا قداسة من ثم َّإلا لله الواحد الأحد دوناً عن سواه. فهل يبقى - من بعدُ - أحد يحتكر لنفسه خطاباً ليعبر عن "الحقيقة المطلقة"، فضلاً عن إدِّعاء تملكها ثم تجهيل غيره - إنْ لم يكن تكفيره!- إذا هو لم يأخذ برأيه فيها، ولم ينهج منهجه في سبيلها، ناهيك عن تكفيره وخروجه بالمرة عن الملة ؟!

والجواب: نعم ! يبقى ما دامت هنالك غيبة في العقول، وحُجْبَة عن المعارف، وغلظة في الأفهام، وكزازة في الطباع، وبلادة في المدارك، وظلمة في التصورات، وغفلة في الضمائر والقلوب .

 

د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم