قضايا

أدْلَجَة النّص الصوفي

مجدي ابراهيمكثيرون من المنظّرين، أصحاب الرؤى والاتجاهات الفكريّة والمعتقدات العلميّة، يعرضون للتصوف قدحاً، وعلى غفلة، فيتعرّضون؛ في زعمهم، لأخطر ما فيه، فلا يرون منه - مع ما فيه من خطورة - إلا ما يشبه الهوس؛ يُحلق صاحبه بعيداً عن واقعات الحياة وفروضها، مع أن هذا الشيء الخطر ليس من التصوف في شيء، هو فقط من أدمغتهم، تحليلاً وتخريجاً : ومن أبخرة عقولهم الملوثة بلوثات الفكرة الأرضية.

فتارة ينسبون إليه ضعف التوجّه، وينعتون صاحبه بفقر القوة على ملاقاة الحياة الصاخبة بمتطلباتها اليومية، وتارة يضفون إليه الحيل الهروبية والانسحابية لهزال نفسي يمس تكوين الشخصية، وتارة يقارنون بينه وبين الابتكارات العلمية بغية إخضاعه عنوة إلى تطبيقات المنهج العلمي مع أنه ليس بعلم، وتارة يصفونه بالمرض العصابي يلم بأشخاص فقدوا تحقيق رغباتهم الدنيوية، فتمكن منهم المرض العضال فلم يجدوا سوى التصوف يريحهم من عناء الأزمات، وتارة ينسبونه إلى مصادر غير إسلامية : يونانية أو فارسية أو هندية أو مسيحية كما فعل قادة الفكر الاستشراقي، مع فارق في التخريج غير قليل، في نسبة الإبداع الفكري الإسلامي برمته إلى مصادر غير إسلامية؛ وهكذا دواليك : حالة غربية من الإسهال النظري المُدْلج لمعرفة كُنه الحقيقة الروحيّة بغير طرقها ومناهجها وأدواتها ووسائل الاتصال بها.

أقول، إنّ هذا الشيء الخطر هو توهم كشف حقيقة التصوف مع إن ما كانوا تعرضوا له ليس بتصوف، لأن الكلام عن التصوف شيء وحقيقة التصوف شيء آخر، وكذلك تجئ الكتابة عن التصوف شيء، والاتصال بالحالة الصوفيّة شيء آخر؛ تماماً كحلاوة العسل أو تجربة الحُب، أو لذة الجماع، كلها أمور مهما وصف لك الواصفون من شأنها، فلا تستطيع أن تتحقق منها ما لم تحصّلها بنفسك : تتذوقها، وتباشرها، وتعايشها حياة خالصة، وتجرّبها بنفسك غير خاضع فيها لرأي سالف ولا بمعرفة نظريّة سابقة على التجريب.

وهذا هو الفرق الفارق بين القراءة الأيديولوجية للنصوص الصوفية كونها مجرّد كلمات خاضعة لمشارط التحليل والنقد والتنظير، ثم لمناهج تستنها مدارس فكرية بعينها وتوظّفها توظيفاً حسب مقتضياتها وأهدافها فيما تراه، وبين التصوف في ذاته؛ كونه سلوكاً له قواعده النظرية غير أنها موقوفة على الاستشعار والاستبصار، والاستغراق في قلب هذه القواعد إلى حياة محققة في الواقع الفعلي.

فلن تكون متصوفاً مهما قرأت ألآلاف ألآلاف المصنفات الصوفية، أو كتبت في هذا الميدان بما لا يُحصى عدّه من المؤلفات، لن تكون متصوفاً على الحقيقة ما لم تضرب نفسك بأقدم حذاء وتتجرّع مرارة الصبر في غير تعبيس، وتأخذ الحقيقة من أهلها لا من عقلك أو من نفسك! أما العنجهية الفكريّة والصَلَف المعرفي والأيديولوجيات النظرية، فهى تخريج بليد فاسد ممجوج؛ يفسد أذواق النصوص الصوفية ويلقي بها في متاهات الأوهام.

كل ما كتب في التصوف أو عنه ليس بتصوف، إذا نحن عددنا التصوف هو :" الأخذ بالحقائق"، على حد تعبير معروف الكرخي المتوفى عام ٢٠٠ من الهجرة، والحقائق لا تدوّن في كتب، ولا ينظّر لها، ولا تكشف للباصرة النظريّة، أو للمعوان العقلي، ولكنها مع ذلك تكشف. إنما تكشف بتجليات باطنة تتجلى فضلاً من عون الله على قلوب الأتقياء، لذلك كان التصوف أمراً باطناً، لا يُطلع عليه، هو علاقة خاصّة مخصوصة بين العبد وربّه، هو الإخلاص وكفى.

مَن يودْلِج لهذه العلاقة دون أن يعرفها أو يشم منها رائحة، يضرب في واد غير ذي زرع، ثم لا يخرج بشيء إلّا كما يخرج غربال من بئر.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم