تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

أَلْقِ عَصَاكَ .. فهذا جانبُ الوادي ..!

مجدي ابراهيم"في صلاة الحب، تكفي ركعتان، ولكن الوضوء الذي يجعلهمـا مقبولتين، ينبغي أن يكون بالدَّم ..".

هذه عبارة قلبت تفكير أحد المستشرقين رأساً على عَقب وحوَّلت حياته كلها من النقيض إلى النقيض وأوْقفت نظره على مباشرة أذواق صاحبها يوم أن عَرَفَ لها معنى ومدلولاً، فأتحد بقائلها اتحاد عاشق، ثم لم يفنى فيه ويكتفي بالفناء بل توارى خلفه باحثاً منقباً عن آثاره ليظهر أسراره ويكشفها للذائقين .. العبارة للحسين بن منصور الحلاج؛ المتصوف الشهيد. أما المستشرق الذي حَوَّلت عبارة الحلاج حياته كلها فهو المستشرق "لويس ماسينيون" (1883- 1962) الذي غَرَمَ بالحلاج غرام الوالهين، فكتب عنه كتابة روح وبمداد جدٌ وكريم ..

وجد ماسينيون في عبارة الحلاج هذه، مُفَارقة غير أنها مفارقة بدت في نظره ظاهرية : فالدم العادي نجسٌ خصوصاً عند المسلمين، ولكن دم الشهيد ليس كذلك. الشهيد عند المسلمين يُدفن كما هو دون غسل، الشهيد لا يغسّل، فدَمَه طاهر؛ لأنه دم الروح، ودم الروح شهادة باقية ببقاء تلك الروح تحيا الحياة الأبدية.

إنّ شهادة الدم لدى المتصوفة ولدى أهل السّنة هى هى شهادة الحياة؛ حياة الروح .. وفي حياة الروح يجود الرجال بدمائهم قرباناً إلى تلك "الأقانيم العلوية" من فرط ما اشتعل في قلوبهم من محبة خالصة فلا يبالون إنْ لاقوا فيها حتفهم ومثواهم الأخير.

فمن كان على شاكلتهم أحبهم، وأحبَّ فيهم هذا التَّبتُّل العميق واكتفى بالسعادة التي ينتظرها على موعد من محبتهم، فإن محبتهم لهى السعادة عند من يحبهم، ويجد في هذا الحبّ وصلة وقُربة إلى الله.

فمن أوْصَلك إلى الله تعيّن عليك محبته. والذي يقرأ كتب الصوفية بعقل وتنكر لا يفهمها مطلقاً على حقيقتها، وإنْ فهمها فهو فهم من حيث الظاهر البرَّانيِّ لا من حيث العمق الجوَّانيِّ : أعني الظاهر الذي يعطيه العقل لا الباطن الذي يعطيه الذوق. والعقل حجاب، والمحجوب محروم. والمحروم لا يجدي نفعاً لنفسه، فما بالك بغيره أو لغيره؟

العقل شك وإدعاء ومعرفة نظريّة، العقل عكَّاز العاطلين، هو لا شيء بالنسبة إلى الطريق؛ لأن الطريق لسان صدق؛ والعقل كاذبُ، مفتعل، صاحب حيلة، أناني؛ يرى نفسه وتحجبه نفسه عن مواجهة "الحق" الذي ينشده الصوفية.

جوهر التصوف قائم على الحبّ، والحبّ عطاء وبذل وتضحية، وهى أمور لا تعرفها حسابات العقل. لا عقلانية ولا معقوليّة في الطريق ومواجهة الطرق بالعقل تفسده، ولكن المواجهة تكون بالتسليم لا بالإنكار، بالإقرار لا بالرفض، بالإذعان لا بالتأبِّي، بالخضوع والانكسار لا بالتكبر والاعتداد في غير موضع لاعتداد النفس ورؤية الأنا.

الطريق تكون "بالتّعرُّف" قبل النقد. وهل يصحُّ في منطق العقل نفسه أن ننقد شيئاً قبل أن نعرفه؟ هل يجوز في حكم العقل أن نضرب بالعقل في طريق لم يقم أساساً على العقل والمعقول؟!

الطريق لسان صدق، وبين العقل والصدق حدود وسدود وحواجز وقيود.

قد يقال : إننا نعرف الطريق حين نقرأ عنها، وها نحن أولاء قد قرأنا عنها الكثير فلم نستسغ ما فيها فرفضناها رفض العارف لا الجاهل ! وهذا غير صحيح؛ لأن القراءة وحدها لا تعرّف الطريق ولا تجعل منه مادة حياة ولا تبيّن مداخله ومساربه ومواطن قوته ومجاري التفكير فيه. ولو أنك قرأت التصوف من مجرِّب بعد أن تأخذه تجربة وحياة لتذوقته، وأحسست به وشعرت شعور الشاعرين بمدى صدق رجاله في كلماتهم الدالة على أحوالهم، عندها يظهر لك الفرق الفارق بين باحث يدرس التصوف من الخارج وهو معزول عن "النور" يتبدّى الذي يدرسه ظلمة ولو كان مغرماً بشذور العارفين، وبين يقين متحقق ذَاَقَ الطريق واستبان له نورها على يقين من ذلك النور.

التعرّف لمذهب أهل التصوف لا يتأتى بالمقروء وكفى، ولا تكفي القراءة فيه أن تجعل من القارئ عارفاً، هو علاقة لا قراءة؛ ولأن كتب القوم أحوال قلوب، وأحوال القلوب حياة، وحركة، وفعل، وإيجابية، وتلقي، وإلقاء، ولقاء بالحقيقة لقاء مباشراً يتعانق فيه الصوفي مع المطلق؛ ومعانقة الصوفي للمطلق، حبّ، وتبتل، وانقطاع، وشعور دائم بالمعيّة؛ وليس هو من قبيل إدعاء العقل بالمعرفة فما المطلوب إذن؟ ولماذا كل هذه التقريرات الصارخة بما يكشف عن معاداة العقل البشري المكرَّم سلفاً من عند الله؟

من الواضح أننا لا نعادي العقل ولا نخاصمه لمجرد المعاداة والمخاصمة، وكيف لمثلنا أن يعادي النعمة الإلهية الممدوحة من عند الخالق، جل وعلا، لكننا نفرِّق هنا بين عقليين: عقل منطقي استدلالي نظري محدود. وعقل غريزي عملي فطري مفتوح.

الأول؛ بإزاء التصوف مرفوض لأنه عاجزُ لا يَدُّل إلا على عاجز مثله. والثاني؛ مقبول لأنه يحيل إلى ما بعده، وإلى ما فوقه من مراتب الوعي والإدراك. الأول : ينكر التجربة الروحيّة ويسخر منها ويتندَّر عليها.

والثاني : يصدقها ويعمل على شرحها وتحليلها وبيان فوارقها في منبت الشعور وقرارة الضمير. المطلوب إذن أن تعرف شيئاً عن علوم القوم؛ فإذا عَرَفْتَ فألْزم : ألزم العمل، ودع عنك الجدل، وأدخل - إنْ أردت - هذا الرحاب العلوي الكريم بأدب الافتقار، والتسليم، وذُقْ مَذَاق القوم ثم انظر ... ماذا ترى ..؟

ألق عصاك وأترك عكازك : نفسك أو عقلك، ألق عصاك، فهذا جانب الوادي.

هذا الطريقُ مبنيٌ على أركان لا يتخطاها إلى عبث العقول : عبث العقول قد ينفع كثيراً في إفساد الحياة الدنيا، في ألاعيب السياسة والوصول إلى المناصب، في تحصيل الأموال وتكنيز الحطام، في التعالي على خلق الله والاغترار بالزائل من الدنيا، في أذيّة الناس وتدبير المكائد لهم بين دسيسة ووقيعة، في رؤية النفس وممارسة حظوظها؛ في كشوفات الشرِّ وتطبيقاته واختراع الأسلحة التدميرية وتغير خلق الله، في اغتصاب الأراضي والحقوق والشعوب، في حرق شعوب بأكملها واستعبادها ونهب خيراتها، وسلب حرياتها، وإبادتها إبادة جماعيّة. في العنف، في الإرهاب والإسترهاب، في ضيق الأفق وسطحية المفهوم، في التعصب للمذاهب والأفكار، في المصائب والكوارث الآدمية. في الغباء الإنساني والمطالب الترابية؛ في كل شيء .. كل شيء إلا طريق الله لا يصلح معه العبث من عقل أجوف فارغ من المطالب العلويّة وبليد!

العقل عكاز الغافلين .. وهذا الطريق العلوي الأكرم مبنيٌ على الحب، وعلى الوجدان، وعلى معاناة التجربة : سأل رجل أحد الأولياء أن يقرأ عليه تائية ابن الفارض، فقال له : دع عنك هذا! من جاع جوع القوم، وسهر سهرهم، رأى ما رأوا ...!".

ولما كتب ابن عطاء الله السكندري كتابه "التنوير في إسقاط التدبير"، تلوَّنت عباراته فيه بألوان الأدب الرفيع فجادت أنفاسه بكلمات حرة طليقة عبرت عن نفس المعنى السابق تقريباً حيث قال :" فإذا أردت الإشراق والتنوير، فعليك بإسقاط التدبير، وأسلك إلى الله كما سلكوا، تدرك ما أدركوا، أسلك مسالكهم وأنهج مناهجهم، وألق عصاك فهذا جانب الوادي ..".

ألق عصاك .. فهذا جانب الوادي ..! إنها لجملة مقطوعة قطعاً من نفس صاحبها : قطعة معاناة خالصة، فكأنما كتبها بكل ألوان المقاساة فيه، بكليته الإدراكية والروحية، بالدم لا بالمداد، تدعو إلى خوض غمار التجربة وتذوق علوم الحال وتفريغ المحل لما ينبغي أن يحل؛ إنها تعبير دقيق عن حياة الروح : الحياة التي يجود فيها الشهيد بروحه؛ فكما أن الشهيد يبذل دمه قرباناً لتك المعاني الوجودية الكبرى : معاني الفداء بكل معانيه؛ فكذلك المتصوف يبذل نفسه كلها وحياته كلها حين يخوض التجربة ليواجه عالم الروح قرباناً لمن يحبُّ ويدين له بالولاء.

حقاً .. إنّ بقاءنا كله إنْ هو إلا مجرَّد "لحظة" يتَّحد فيها المرء مع من يعشق، وما عليه مطلقاً إذا تجرَّد التجرُّد كله لينال حظوة البقاء في هذه اللحظة الكاشفة .. تلك اللحظة الخاصة المُخَلّصة التي تصيب جوهر الحقيقة لتقدر الزمن حق قدره، لا .. بل لترفع الزمن لتتواصل فوق حدود الزمان والمكان باتجاه السرمدية .. اللحظة التي ينفعل فيها الباطن الحي وتنشط فيها الحماسة الروحية إلى غايتها لهى هى اللحظة التي يبقى فيها الكيان الآدمي موصولاً بالملأ الأعلى من طريق التجربة ومواهب التوفيق .. ألق عَصَاكَ .. فهذا جانب الوادي؛ ففي الوقت الذي تدخل فيه وادي الأبرار، أنت لست في حاجة إلى عكاز العاطلين.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم