تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

الملكات الجائعة !

مجدي ابراهيمماذا يَعني مفهوم الملكات الجائعة؟

حقيقةً وقفتُ أمام هذا التعبير قليلاً كيما أحاول، فيما أتصوَّر، رَدّه إلى أصله، وأصله عندي هو أن في النفس البشرية رغائب وحاجات لا حصر لها، ولكن أقربها هى حاجات المحسوس المُشاهد القريب من مباشراتنا الحسيّة؛ كالمأكل والمشرب والمنكح والتغذية والترفيه والثراء والجاه والمناصب والنفوذ والسلطة والزعامة والغرور وكل ما في أطواء النفس الخفيّة والجليّة، الظاهرة والكامنة ..

وتحقيقُ هذه الرغبات والمطالب يحتاج إلى مهارات تقف وراؤها جهود جبارة؛ فالحصول على الثراء مثلاً يتطلب جهوداً ليست هيّنة، والوصول إلى الجاه والسلطان يقتضي ضريبة قد لا تقدر عليها النفوس السويّة، وبخاصّة فيما لو كانت تلك النفوس لا تجيد فنون الشطارة والحنجلة والطرق الملتوية التي يعرفها الواصلون من ذوي الخبرات الطويلة العريضة في فنون النفاق والتطبيل. والزعامة وما أدراك ما الزعامة! لها طعم يُذاق كالشهد المُصَفّى في شغاف القلوب، حدّث عنها إنْ شئت بلا حرج، فهى مطلب العالم والجاهل، والكبير والصغير، ومن له شأن ومن خَلَى من مؤهلات الزعيم، وقلُ الشيء نفسه في كل ذي سلطان، في النفوذ والسُّلطة والمنصب والوجاهة ثم وراء هذا كله من استبداد وسطوة وتسلط ..

ومع فرض تحصيل المرء أعلى ما في وسعه من تلك المظاهر، وأهمها مظاهر الزعامة والسلطة والنفوذ (إرادة العلو) بالتعبير القرآني الدقيق (تلك الدارُ الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً) ناهيك عن المطالب والرغبات التي هى أقل منها في الدرجات : المأكل والمشرب والملبس وما يجري مجراها وما يدور في فلكها. أقول؛ مع فرض تحصيل المرء لكل ما تقدّم واستفراغ الطاقة كلها فيه، تظل في نفسه ملكات باطنة جائعة لا يملئوها إلا الإيمان بالله، ويظل الإيمان بالله مُجرَّد دعوى من قلب مدّعيه ما لم يستقر اليقين فيه، ويظل طلاب اليقين على خطر عظيم. صدق إمام العارفين عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه حين قال :" علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضلٌ على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك".

فهنالك طرفان: الأول، حياة صاخبة بالمطالب، صارخة بالحاجات والرغائب تستدعي تجنيد الطاقة العاملة كلها لتحقيقها على أرض الواقع لمن يريدها ويتمتع بما يحقق منها مُشبعاً غروره كفايةً وفوق الكفاية، ثم في المقابل طرف آخر فيه الحياة الآخرة بالمفهوم القرآني، جعلها الله للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.

لاحظ أن الآية الكريمة ذكرت العلو كما ذكرت الفساد، ولم يكن مجرّد ترادف في الآية ولا تقابل، ولكن لهذا معنى حقيقي ولذاك معنى حقيقي أيضاً، وهما معنيان غير متصوران ذهنياً وكفى، كلا ، لكنهما بمثابة حقائق ثابتة، لهما بواقعنا المشهود نسبٌ وصلة.

هذا العلو يعني : النظر إلى النفس. أمّا الفساد؛ فيعني النظر إلى الدنيا، والأمن من المكر والكبر والعجب. وأصلُ ذلك كله من الجهل؛ فمن آمن من المكر والكبر والعجب وفتن الدنيا، ظاهرة وباطنة، أقفرت ملكاته وأصبحت موقوفة معطلة لثقتها بهذا الأمان، ولجهلها بحقيقتها الذاتية، أعني جهل النفس بنفسها وبربِّها.

بالطبع؛ ليس الجهل هنا جهلاً بالعلم، كلا، فقد يكون الإنسان عالماً ولكنه في هذا الموطن هو من أجهل الجاهلين؛ قد يكون عالماً ومحدّثاً بارعاً لكنّ حديثَه فضلٌ على علمه، ولم يتق الله في حديث غيره كما جاء في إشارة الإمام علي، نعم! هو عالم لكن علمَهَ هذا مُجَرّدٌ عن الإيمان؛ لأنه مجرَّد عن معرفة النفس .. الجهلُ جهلٌ بالنفس؛ ثم جهل بالله, مع كون الجاهلُ هنا عالماً من حملة الشهادات البرَّاقة واللافتات العلميّة الكبرى, غير أنه يعدُّ جاهلاً مادام علمه لم يتحوَّل إدراكيَّاً إلى علم بالجهل. فالعلماء بالله على هذا، هم علماء بجهلهم؛ أي هم الذين يدركون جهل أنفسهم عن أن تصلَ إلى الحقيقة، ناهيك عن احتكارها أو امتلاكها، فضلاً عن التعبير عنها بعد العلم بها بوجه من الوجوه.

فأمّا الذين يعلمون ويقولون مع شدّة الادِّعاء إننا علماء فهم جهلاء على التحقيق، وعن الجهل يكون الكبر وطلب العِز في الدنيا وفي الناس، والعلو في الأرض، والتلهُّف على السُّلطة والاستبداد بها.

وطلبُ العز في الناس هو الذي يتولّد منه العُجْب. فالوصولُ إلى قرب الله تعالى، وإلى مراتب دنوِّه كما نبَّه عليه سبحانه في الآية الكريمة، لا يكون مطلقاً لمن له حب "الزعامة" : رياسة، وجاهاً، وسلطة، ومنصباً، ونفوذاً، وأترك لك أن تعدِّد أنت أنواع الزعامات التي تلاقيها في نفوس البشر ممَّن يحيطون بك وألوان الاستبداد بها ..! وهو كذلك لا يكون مطلقاً لمن تمكن حُبُّ هذا كله أو بعضه من قلبه وإنما يكون لمن حذف هذه الآفات المُمْرضة عن قلبه، ولم يباشر حظوظ نفسه وهواه، ولم يخضع لمصالحه ومطامعه وأغراضه فيما يتوجَّه به إلى خالقه، هنالك يَخُصُّه الله بالدرجات الشريفة والسعادات الدائمة بعد أن يملأ قلبه بمعرفته فلم تعد تأتي منه إذْ ذاك أفعال الخبيثين.

خُبْثُ الدخائل مرضٌ في الأنفس المريضة الجائعة يبطل معه عطاء الملكات ويفسد معه التّوجُّه على التعميم.

فالفسادُ نظرٌ للطرف الأول فقط، أي نظرٌ للحياة الدنيا واستفراغ الطاقة كلها في سبيل تحققها لتحصيل الزعامة الموبوءة والسلطة المَرَضِيّة والنفوذ المستطيل، ومن وراء هذا كله؛ نفخة كذَّابة تظهر على السّطح تعبيراً عن خواء، تحتها فراغ نفسي أجوف كالطبلة تفرقع بالصوت إذا قرعها بيمينه طبّال، وليس في جوفها إلاّ الهواء الفارغ، طحنٌ بلا دقيق، جوعٌ في ملكات النفس ليس يشبعه إلّا طول المعاناة والصبر على اسْتواء المجاهدة. وبغياب دم المجاهدة في المجاهدين غابت منظومة "القيم الغوالي" عن المجتمعات العربية والإسلامية وتغير ترتيبها فأصبح أعلاها درجة في أسفلها دَرَكَاً، وأصبحت الدركات هي العليا والدرجات هى الدنيا.

مثِّل لنفسك أمة غارت عنها "القيم" وانطمست الهويات فأصبح البديل الوحيد لكل ما هو جميل وجليل اضمحلالاً وإسفافاً وهواناً على الذات بل وأموراً كلها مدْعاة للسخرية وذريعة للوصول السريع الذي لا تعب فيه ولا مجهود؛ فإذا "الجمال" ينقلب من فوره إلى متعة رخيصة وتشهي حقير وملهاة مبتذلة وتسلية عابرة وفارغة؛ وإذا "الجلال" أدب بعيدٌ بعيدٌ، معزولٌ عن دنيا الناس ليست لهم طاقة على فهمه أو استيعابه. صوِّر لنفسك أمة سادها شعور التشاؤم من وجوب الإصلاح وتفشىَ فيها التواني عن أن تقوم بين أصلابها عملية "التحوِّل الباطني" من الضعف إلى القوة، ومن السطحية إلى الجديّة، ومن الفوضى والتسيُّب إلى الاتزان والاستقامة، ثم أسأل نفسك : ماذا عَسَاهُ يكون من وجدانها غير الخراب والدمار والعبث اللعين والاستخفاف على الجملة بمفعول القيم الفاعلة ..؟!

ولكن هل تنتظر ألّا يكون لهذا كله أو ما يشبهه فسادٌ مُحقق مشهود؟

مادام الأصلُ في التّوجهُ قلباً فاسداً فلابد أن يكون الفرع اللاحق عليه من جهة العمل أفسد منه وأكثر فساداً. غير أن الفساد في الأرض شئٌ آخر هو من جهة النظر إلى الدنيا، فلئن كان العلو نظراً من جهة النفس، فالفساد نظر المرء إلى جهة الدنيا. تفسد الدنيا قطعاً بالذين يريدون علواً فيها، وقلوبهم شتى وأرواحهم متفرقة لا يضمُّها توحيد. وتسألني عن علة ذلك كله من أين جاءت؟ والجواب هو : من جهة فقر الملكات الروحيّة والنزوع المَرَضى إلى حبّ التّملك والسيطرة والاستحواذ والتكنيز، وإذا اجتمع العلو في النفس والفساد في الدنيا، فقُل على الإنسانية - معنى ودلالة وإمكانيّة - سلام الوداع.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم