قضايا

كارل شميت في السياسي: العدوّ / الصّديق والعنف

علي رسول الربيعيتمثّل طروحات كارل شميت مساهمة أصيلة في الفكر السياسي المعاصر. إنّ إحدى أهمّ مرتكزاتها هي التّمييز بين مفاهيم العدوّ/ والصّديق تميـيز العلاقة بين هذين المفهومين وبين العنف. إنّ السّؤال الذي يوجّه مناقشتي هنا هو: ماذا نتعلّم منه عن العداوة والعنف لاسيما وقد مجّد الحسم لكنّه لم يمجّد أو يعظّم العنف أبدًا؟ أنّ تمييزه المشهور بين مفهومي الصّديق والعدوّ بالمعنى السّياسيّ والمعنى العقديّ ليس إقراراً بالقتل، ولكن إشارة إلى الإمكان الفعليّ للقتل فكيف إذن يمكن تميـيز العلاقة بين هذين المفهومين وبين العنف؟ أجاب شميت عن هذا بطريقة مختصرة وملغّزة المعنى قائلاً في

Schmitt,C., The concept of Political, trans. Schwab, G, Chicago, university of Chicago press, 1996.

الذي سنعود اليه دائما : "يدلّ التّمييز بين العدوّ والصّديق على أقصى درجة من درجات الاتّحاد أو الانفصال".ليس المطلوب أن ننظر إلى العدوّ السّياسيّ بوصفه شريرا أخلاقيّاً أو قبيحا جماليًّا، ولكن أن نفهم العداوة والصّداقة في معناها الوجوديّ الفعليّ الملموس، وليس في معناها المجازيّ أو الرّمزيّ". إنّ التّناقض بين العدوّ والصّديق تصنيف سياسيّ، وينبغي أن يُنْظَر إليه هكذا وليس بالمعنى الّشخصيّ، إذ لا يحتاج العدوّ بالمعنى السّياسيّ أن نكرهه شخصيًّا. "وهو يوجد فقطّ عندما يكون هناك احتمال مواجهة بين جماعة من النّاس مع جماعة أخرى". باختصار شديد فصَلَ شميت بشكل حادّ بين العداوة والصّداقة بالمعنى السّياسيّ وبينها في المعنى العقديّ الذي قد يحمله فرد لأفراد آخرين أو جماعة لجماعة أخرى .. فالعداوة أو الصّداقة بالمعنى السّياسيّ مؤقّتة، لأنّ العدوّ قد يصبح صديقا عند تلاقي المصالح، كما قد يصبح الصّديق عدوّا عند تضاربها، بينما العداوة والصّداقة بالمعنى العقديّ دائمة وثابتة لا تتغيّر بتغيّر المصالح، فالعدوّ بالمعنى العقديّ يرفع عندما تُقاتِل جماعة عقديّة جماعة عقديّة أخرى إلى مستوى الشرّ المطلق ليصبح عدوّا للإنسانيّة. هكذا يتحوّل العداء العقديّ من العداء الشّخصيّ المؤقّت بظروف تضارب المصالح إلى عداء عامّ ومطلق، ونفس الكلام يمكن أن يقال عن الصّديق أيضًا. لذلك يرى شميت أنّ هذه المفاهيم ليست معياريًّة ولا مجرّد تعبير عن تناقضات روحيّة بقدر ما هي نقائض ذات ووجود واقعيّ وفعليّ. وتأكيدا على هذا يكتب شميت: "إنّ العداء في السّياسة أكثر حدّةً وتطرّفاً، ويصبح كلّ عداء فعليّ سياسيّاً أكثر كلّما أقتربَ من نقطة التّطرّف أو الحدّ الأقصى الذي يفصل بين جماعة الأعداء وجماعة الأصدقاء". ولكن كيف يمكن تحديد من هو العدوّ ومن هو الصّديق؟ لا يوجد طرف ثالث محايد، كما لا توجد قاعدة عامّة أو مقياس يمكن الاحتكام إليه في التّمييز والفصل بين العدوّ والصّديق. إنّ المشاركين الفعليّين هم وحدهم من يمكنهم أن يميّزوا بشكل صحيح، ويفهموا، ويحكموا على الموقف الفعليّ الواقعيّ كما هو، ولهم القدرة على الوصف الحاسم أو المطابق فيما يتعلّق بالحالة المتطرّفة التي تفصل بين العدوّ والصّديق. فكلّ فرد منخرط في علاقة العداوة والصّداقة هو في موقع يدفع من خلاله برغبة العدوّ في إلغاءه وإلغاء طريقته في الحياة، ويزعم أنّه أدرى بذلك من غيره، وحفظ الوجود هو ما يبرّر به انخراطه في القتال.

ماذا يعني أن تمتلك مفاهيم العدوّ والصّديق الوجود الفعليّ، وكيف يُعبّر عن التّناقض بينها؟ يتضمّن مفهوم العدوّ إمكانيّة وقوع الصّراع بشكل دائم. فيُفهم الصّراع هنا بمعناه الفعليّ الواقعيّ. وتأخذ مفاهيم العداوة والصّداقة والصّراع معناها الحقيقيّ لأنّها تدلّ على إمكانيّة القتل، فالعداء تتبعه الحرب كنتيجة حتميّة. والعداء هو رفض وجود العدو،ّ وهو ما لا يجعل الحرب استمراراً للسّياسة بوسائل أخرى لأنّها ليست في مثل هذه الحالة هدفًا ولا غاية، وليست في حقيقتها تعبيرا عن المضمون الفعليّ ولا حتى التّقنيّ للسّياسة، وإنّما هي إمكانيّة حاضرة دائماً بحضور الذّهنيّة التي تحرّض عليها. إنّ الفشل هو النّتيجة المتوقّعة إذا لم نُـقدِّر وجود الخطورة في السّياسة وما لم نُـدرك أنّها تنطوي على إمكانيّة القتل في تلك الأوقات التي نعتقد فيها أنّ أسلوب حياتنا ووجودنا مهددا من قبل العدوّ، أقول بإمكانيّة القتل وليس بضرورته لأنّ السّياسة هي فنّ تدبير الممكن.

ويأتي ما تقدّم ذكره عن شميت في سياق الكشف عن الطّريقة التي فكر بها ومن خلالها هذا الفيلسوف فأطّرت تصوّره عن العنف لاسيما منه ذلك الذي يشمل القتل. إنّه يرى أنّ التّمييز بين العدوّ والصّديق لا يقود بالضّرورة إلى العنف، بل إنّه يمكن أن يؤدّي إلى اتّخاذ قرار ضدّ القتل وضدّ الذهاب إلى الحرب، فهذا التّمييز يشير فقطّ إلى الإمكان الفعليّ لحصول العنف. فالسّياسة والعداء لا يتطابقان في حين قد تفضي مفاهيم العداوة والصّداقة إلى العداء والصّراع الدّائمين، وفي هذا الصّدد، ميّز شميت بين أنواع عديدة من العداء، فأدان غير المحدود منه لاسيما ذلك الذي تحمله اللّيبراليّة المتوحّشة في تبرير إبادة العدوّ. و فقد وضعت غابريلا سلومب

)Gabriella Slomp) Slomp,G, Carl Schmitt and the political of Hostility, Violence and Terror, London, Palgrave Macmillan, 2009,

هذه المسألة بشكل متماسك حينما رأت أنّ مبدأ شميت في العدوّ/ الصّديق يدلّ على تصوّر للعداء المحدود، بينما رأت أنّ اقتراحه حول إمكانيّة الحدّ من العداء عبر قانون عامّ متوافق عليه ينطوي على مفارقة. ومع ذلك، أظنّها تعتقد أنّ مبادرته هذه ملهمة تحفّز البحث عن ناموس جديد يمنع انتشار العنف ويحدّ منه.

تؤكّد سلومب أنّ تصوّر شميت للعداء المحدود متين ومعقول، ولكن هل هو كذلك فعلًا؟ هل يمتلك شميت الملاذات اللاّزمة أو الوسائل المفهوميّة الضّروريّة لكشف أوجه العداء المحدود وتمييز اختلافه عمّا يدين من العداء المطلق؟ هل يمكنه القيام بهذا التّمييز في منأى عن أيّ توجّه أخلاقيّ معياريّ يسوّغ إدانة العداء المطلق؟ لست أرى أنّ شميت يمتلك تلك المفاهيم، ولا أظنّه قادرا على إبراز أوجه الاختلاف بين النّوعين، وذلك ما سأوضّح فيما يأتي من نقاش لطروحاته.

سأحاول هنا، كشف ما اعترى تفكير شميت حول العنف من تناقض داخليّ بالرّغم ممّا يدّعي من التّمييز بين "الأخلاق" وبين "السّياسة"، وما يزعم من اعتراض على الاحتكام إلى أيّ توجّه معياريّ، وما يعلن من ازدراء مسبق لفكرة اللّجوء إلى الأخلاق عند السّعي إلى فهم "السّياسيّ"، إلاً لأنّ التّوجّه الأخلاقيّ المعياريّ حاضر بقوّة ويتخلّل عمله كله. فمن مضاعفات رأيه حول القرار في السّياسة الاقتصار على النّتائج دون الالتفات إلى الأسباب ولا إلى دواعي صدور القرار وكأنّ القرار ينشأ من العدم، بالإضافة إلى التّأكيد المُبَالغ فيه على ما يدّعي صناعة القرار السّياسيّ بشكل يُبقي موقفه غامضاً فيما يتعلق بمفاتيح وأساسيّات تلك الصّناعة. لقد فشل مدمك بحثه عند التّوسّع في دراسة المسائل المعقّدة التي تحيط بأحكام الممارسة السّياسيّة التي تدمغ القرار والفعل بميسمها ما جعله يفرط في التّنبيه إلى ما يفصل بين الاحتكام إلى المعايير وبين القرارات الواقعيّة. والحقيقة أن القول أن هناك ثغرة بين المعايير والقرارات، وأن هناك عنصر مخاطرة في صناعة القرار دائما، وأن القرارات الواقعية لايمكن أن تُـستَنتَجْ من المعايير والمبادئ، تم تحريفه وتشويهه في الإدعاء الزائف بأن المعايير والمبادئ لاصلة لها أساسًا بصناعة القرارات السياسية. فبالرّغم ممّا لمذهب شميت من جاذبيّة فإنّه يبقى مذهبًا خطيرًا في النّهاية بصرف النّظر عمّن أيّده من المفكرين سواء كانوا من اليمين أو من اليسار. ومع ذلك، فإنّ وجهة نظره كانت على العموم لافتة حول الكيفية التي تحوّل بها العداء المحدود إلى عداء مطلق أصبحت معه الحرب المحدودة حربا شاملة في القرن العشرين، كما كانت إشارته لافتة أيضاً حول حرب العصابات التي لم تميّز بين قتل الجنود وقتل المدنيّين الأبرياء فلم يعد معها هدف الحرب الشّاملة هو هزيمة العدوّ ولكن تدميره.

لم يقدّم شميت ملاذا مفهوميّا يدين العداء المطلق حتى وإن قبلنا تمييزه بين العداء المتّفق عليه عُرفًا واصطلاحًا وواقعًا عداءً محدوداً وبين العداء المطلق، لأنّ شميت لا يمتلك أساساً أو قاعدةً لإدانة أيّ شكل من أشكال العنف. فخطابه عن "التّجرّد من الإنسانيّة" يبقى خطاباً فضفاضاً منمّقاً يفتقد المصداقيّة لاسيما عند أخذ آراءه في "الثّيولوجيا السّياسيّة" بالاعتبار وحمل آراءه فيها على محمل الجدّ. ورأينا في ذلك يؤيّد موقف هانرش ماير

)Heinrich Meier) Meier, H, Carl Schmitt& Leo Strauss: The Hidden Dialogue, Chicago, Chicago University Press, 1995.

الذي يعتبر إدانة شميت للعنف والعداء المطلق غير ذات أساس واقعيّ. ويرى أنّ شميت لم يقم سوى بدور المنظّرين السّياسيّين في إثبات وتأكيد صحّة المفاهيم والتحقّق منها، وهذا في الحقيقة وبتسمية الأشياء بمسمّياتها ليس سوى إبهاما لموقفه الأخلاقيّ المعياريّ وإخفاء له.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم