قضايا

فرانز فانون ومبادئ خطابات المناهضة الثقافية

محمد كريم الساعديجاءت نظرية ما بعد الكولونيالية كردة فعل اتجاه الخطاب الثقافي الكولونيالي الذي أصبح الخطاب السائد في المجتمعات التي خضعت للاستعمار، وذلك لما يمتلكه من مزايا قوة ناتجة عن سياسات ثقافية واقتصادية مدعومة بالجوانب الفكرية والفلسفية والتكنلوجية لمفكري وفلاسفة الغرب من أجل إخضاع كل ما هو خارج المؤسسة الثقافية الغربية، لذلك ولّدَ هذا الخطاب عدد من الكتابات المناوئة له والتي تبنت المواجهة من أجل كشفه وتفكيكه من خلال فضح ملامح السيطرة ضد الشعوب. حيث مؤلفات (فارنز فانون) من أولى الكتابات التي دخلت في البدايات الفعلية لخطاب ما بعد الكولونيالية، وجاء ت في صدارة ما بعد الاستعمار، وفانون" يعد منظراً كبيراً للثورة في (العالم الثالث)، كتب (جان بول سارتر) قبل ما يزيد عن الأربعين عاماً في مقدمته للترجمة الفرنسية لكتاب (معذبو الارض) (مناشداً) لتكن لديكم شجاعة قراءة كتاب (فرانز فانون) لسبب رئيسي وهام، إلا وهو انه سيجعلكم تشعرون بالخجل، ولأن الشعور بالعار إحساس ثوري.

استطاع (فانون) من خلال عمله في ميدان الطب النفسي معايشة الجزائريين، وتعرف على قسوة تعامل المستعمرين الفرنسيين معهم، وأثاره النفسية والجسدية عليهم، كاشفاً بذلك عن النظرة الاستعلائية للأستعمار ضد أبناء الشعوب التي وقعت تحت السيطرة، حيث دفع هذا التصور (فانون) إلى الانخراط في الثورة الجزائرية وأصبح عضواً في مقاومة الفرنسيين، حيث يرى في هذا السياق إن المستعمر لا يكتفي بأن يصف المجتمعات المستعمرة بأنها خالية من القيم، وأنها لم تعرفها قط، إنما هو يعلن إن السكان الأصليين لا سبيل لنفاذ الأخلاق إلى أنفسهم، وان القيم لا وجود لها عندهم، بل إنهم أنكار للقيم، أو قل أنهم أعداء القيم.

تركزت خطابات (فانون) في مناهضة الخطاب الكولونيالي على عدد من المفاهيم التي أثر بها على منظري خطاب ما بعد الكولونيالية وكان لها صداها في داخل الحراك الثقافي بين الخطابين (الكولونيالي وما بعده)، وأولى هذه المفاهيم التي بنى عليها أسلوبه في مواجهة الخطاب الغربي هو مفهوم (العنصرية) وعلاقته بالثقافة السائدة التي أراد المستعمر أن ينشرها بين أبناء الشعوب المستعمرة. إذ يرى في العنصرية بناءً ثقافياً بامتياز في داخل العقلية التي يمارسها ضد الشعوب والتي تحاول أن تجدد نفسها بصورة مستمرة، ولا تستطيع أن تتوقف عند حد معين فهي منظمة، في إطار من الهيمنة الفكرية هدفها التميز عن الآخر وإلغاء ملامحه الثقافية، وهذا المفهوم هو ليس الكل إنما العنصر الأكثر ظهوراً على وتيرة يومية، فهي باختصار شديد العنصر الأشد فظاظة أحياناً داخل بنية محددة. وان دراسة علاقة العنصرية بالثقافة تعني التساؤل حول تأثيرهما المتبادل على بعضهما البعض. وإذا كانت الثقافة مجموع التصرفات المحَركة والذهنية الناشئة عن التقاء الإنسان بالطبيعة وبنظيره الإنسان، فلا بد من القول أن العنصرية هي عنصر ثقافي بامتياز، ويخضع في تكوينه وتطبيقاته على السلطة التي تنفذه في داخل الحيز المكاني والزماني، ويعتمد على المجموعة التي تزود هذا المفهوم بمعلومات من أجل استمراريتها في المجتمعات المطبقة عليها.

كذلك أوجد (فانون) مفهوم آخر هو (الاستلاب) وما يسببه من عقدة نقص لدى أبناء القارة السوداء وتأثيره على واقع الشعوب في ذلك الجزء من العالم، إذ حاول (فانون) من خلال دراسته لأوضاع (الأسود) في عالم ابيض تقديم تفسير نفسي مرضي، وكذلك أضفى عليه الطابع فلسفي في أن لواقع الاستلاب : يجعل الأفريقي امام مصير واحد هو أن ينتمي للثقافة البيضاء، وهذا ما دفعه إلى أن يوظف هذه الصورة في كتابه (بشرة سوداء وأقنعة بيضاء)، حيث يتذكر كيف كان يتعامل مع احد المرضى وهو اسود ويعاني من عقدة النقص، وفي نهاية المطاف يعمل على تخليصه من مصدر المرض الذي يقع خارج المريض وليس في داخله، وذلك لطمأنة المريض، وتشجيعه على أن يعاود حياته كما كان، وبهذا سوف يكون علاجه معادلاً لرسالة المستعِمر في تحفيز الوعي عند الشعوب الأفريقية اتجاه أفعال المستعمر الأبيض.

ان هدف الاستلاب، بحسب الفكري النقدي لفانون، يرمى الى جعل المواطن الأصلاني يعيش حالة من الاغتراب عن موطنه، فينشأ نوع جديد من التعامل مع كل ما هو (محلي وأصلاني) يٌقّيم على أساس الثقافة الجديدة والشكل الثقافي (المهجن) الذي يأخذ مكان الثقافة الأم، والثقافة الغربية تأخذ مكانها في الأفكار والرؤى والأطروحات الجديدة في شكل مفهوم آخر يكون فيه هو الأصل والأصل يكون مغرب، وبهذه الصورة يقدم (فانون) مفهومه الثالث الذي أطلق عليه اسم (الإغرابية Lexotisme). وهكذا يؤكد بأن المحتل يهدف الى إنتاج ثقافة جديدة تتلاءم والواقع المفروض على الآخرين، من أجل إيصال الشعوب إلى مرحلة ثانية من اليأس، حيث يرى (فانون) في هذه المرحلة بأن المستعمر يفرض سيطرته بواساطة حجج مختلفة تجعل العرق الأفريقي ينفي نفسه ويشارك العرق المتفوق الأبيض معتقداته وعقائده. وبعد تصفية نظمهم وانهيار البنى التحتية الثقافية لديهم. لم يبق أمام السكان الأصليين سوى الاعتراف مع المحتل بأن (الله لم يعد إلى جانبهم) وبأن العنصر الغربي المتفوق في خطابه وأدواته سيكون هو العنصر المفضل وهو الشعب المختار من قبل السماء.

وفي المقابل عمل (فانون) على تحفيز الشعوب الإفريقية من خلال النهوض بثقافتهم القومية والعمل على العودة إلى الجذور ومقاومة طمس الثقافة المحلية للشعوب، وفضح الأساليب التي عمل عليها المستعمر في خطابه الكولونيالي، داعيا إلى توضيح معنى الثقافة القومية، التي يرى بأنها ليست فولكلوراً ولا شعبوية مجردة تؤمن بأنها يمكن أن تكشف طبيعة الناس الحقيقية، إنها ليست مؤلفة من البقايا الخاملة للأفعال غير المبررة. أي الأفعال المرتبطة بدرجة آخذه في التناقص بحقيقة الناس الحاضرة على الدوام، الثقافة القومية هي كل مجموعة المجهودات التي يبذلها الناس في مجال الفكر لوصف وتبرير والثناء على الفعل الذي من خلاله خلق هذا الشعب نفسه ويحافظ على وجوده .

دعا (فانون) - في ضوء مفهوم الثقافة لديه - الى العودة إلى الماضي من أجل إعادة إحيائه وبث الروح في كل ما يمت لثقافتهم من صلة وبذلك أراد من السكان الأصليين ان يبحثوا عن ثقافتهم ويواجهوها بدلاً من تغيبيها وأبعادها ورأى في تلك المواجهة \عملية حريه بالتبجيل والمباغتة إلى درجة إنها لا تسمح بأي إخفاق، ولا يمكن لأي تغيير مبتكر أن يحجب الوضوح الجديد : فالغطس في لجة الماضي هو شرط للحرية ومصدر لها.

لقد اسهمت مفاهيم (فانون) من خلال مؤلفاته المختلفة التي جاءت في مواجهة الخطاب الكولونيالي، في تفاعل عدد من السائرين في مجال المجابهة، حيث وسع (سيزير وميمي) هذه المقولات التي كانت أشبه بالبذور، الأول بإرساء مفهوم (الزنوجة)،والثاني بإرساء مفهوم (الوعي المؤلم)، رأيا أن هوية (المستعَمر، في المحصلة النهائية هي من اختراع المستعمِر، من خلال موقف عنصري بالغ العمق، محوراً الجملة الشهير التي قالتها (سيمون دي بوفوار)، كتب الأديب (الكيبيكوا الهايتي) الأصل (داني لا فيريير) في نفس الخط (لا نولد زنوجاً، بل نصبح كذلك).

 

الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

 

في المثقف اليوم