قضايا

حوار مع جاري الملحد (4): نشأة الكون / الانفجار العظيم Big Bang

وليد كاصد الزيديبعد انتهاء حواري السابق مع جاري حول العلم والإيمان، إستكملنا في حوار اليوم نقاشنا حول دور العلم في التوجيه نحو الإيمان كما هي حجتي، أم الى الإلحاد كما يدّعي صاحبي.

ابتدأ جاري الحديث بعد أن تناولنا قهوتنا وأخذ هو بإشعال سيكارته التي يلف تبغها بورق شفاف بيديه، ثم يضع في أحد طرفيها زبانة صغيرة، وهو يخاطبني: هل انت مستعد لنتحاور حول نشأة الكون وقانون الصدفة كما اتفقنا في المرة السابقة؟

أجبته: بكل تأكيد، ولكنني أرجو أن تمتلك المزيد من الصبر في حوار اليوم . وكنت قد عززت معلوماتي السابقة بقراءة عدة مصادر جديدة حول نشأة الكون ونظرية الخلق حتى قبل ظهور الأديان السماوية الثلاثة، أغلبها كتبها غربيون وبعض منها فرنسية المصدر لأنني أعرف جاري جيداً لا يعترف بأي مصدر إسلامي أو عربي ولا يتقبل حججه، فضلاً عن انه لا يحب أن استشهد له بما ورد في الكتب المقدسة لأنه لا يعترف بها أصلاً!!

وقبل ايام من الحوار الجديد اعطاني جاري عدد حديث من صحيفة اللوموند الفرنسية متضمنا دراسة موسعة في صفحة كاملة عن الانفجار الكبير، قال لي: اطلع عليها، فيها معلومات جديدة ومفيدة. وكنت في احد الايام اسير في منطقة منبرناس الجميلة والراقية وسط باريس بعد خروجي من مكتبة أدريه مالرو التي غالبا ما أقضي فيها اغلب النهار وحتى السابعة مساءً، اذ وجدت احد اكشاك الصحف المجلات يعرض مجلة فرنسية وضعت على غلافها الاول صورة عن الانفجار الكوني وعنوان (La théorie du Big Bang)، اقتنيت المجلة وتصفحتها بشكلٍ سريع نظراٍ لضيق الوقت لدي حيث كنت مشغولا بكتابة بحثي لما بعد الدكتوراه، وأيضاَ لما احتوته المجلة من بحوث ومقالات بلغة علمية عالية، جعلتني مجبرا للعودة الى القواميس اكثر من مرة، ولكنها لم تخلو من فائدة لأنني استعنت في ماورد فيها كحجج لدى محاورة صاحبي مستقاة من مصدر علمي حديث.

بدأنا الحوار بالقول لجاري: الجدال والنقاش حول الإيمان والالحاد - كما تعلم- قديم قدم الأديان، ولكنكم أنتم اللادينيون تكررون مقولاتكم عبر الزمن ونحن نقول لكم " وإن عدتم عدنا ". فقل ما لديك.

في حين بدأ صاحبي بالهجوم قائلاً: عجبي أنكم لا تزالون تؤمنون بأرباب وأديان في عصر العلم الحديث الذي اكتشف أن الكون نشأ ليس بقدرة خالق كما تدعون، بل هو نتيجة الانفجار العظيم ( Big Bang) الذي حدث قبل اكثر من 13 مليار سنة واكتشفت علمياً قبل حوالي تسعين سنة، مردفاً وبسرعة: لنعد الى نظرية الانفجار العظيم، هل تؤمن بها؟ وقبل ذلك هل تعمقت بالقراءة عنها؟

رددت عليه: لدي معلومات كافية عن ما تتحدث عنه، وأود أن أصحح لك: في عام 1926 اكتشف إيدوين هايل أن الكون يتمدد، أي يزداد كبراً، وهو ما دفع جورجي ليمتريه ان يستنتج من نظرية هايل ان الكون بمجمله مضغوطاً في ذرة واحدة من المادة اسماها "البيضة الكونة" بالانكليزية Cosmic egg وكان ذلك في سنة 1930. قاطعني جاري - والتوتر يبدو عليه بسبب استرسالي بمعلومات كنت قد جمعتها وهو لم يكن ليعلمها - بالقول: أرجوك أن لا تسرد لي تأريخاً، حدثني في صلب موضوع الانفجار العظيم .فرددت عليه: يا جاري العزيز، ألم أقل لك منذ البداية، أن عليك ان تتحلى بالصبر في الحوار والنقاش، دعني اختصر لك لكا أصل الى من، وكيف اكتشفت نظرية الانفجار العظيم؟

استرسلت: وأول من اكتشف هذه النظرية هو الاوكراني جورج غاموف المولود في 1904 والذي هاجر الى امريكا في 1934 ليكمل دراسة وتحليل نظريات من سبقه في هذا المجال بعد ان حصل على درجة البروفيسورية في الفيزياء النظرية بجامعة جورج واشنطن، ووقد توصل الى اطلاق مصطلح الانفجار الكوني لأول مرة بحسابات فيزيائية وكيميائية وقبلها حسابية عن طريق تطويع الرياضيات في دراساته، ولاسيما باستخدام معادلات آينشتاين في النسبية العامة . فتوصل الى انفجار البيضة الكونية التي اكتشفها وتحدث عنها من سبقه من العلماء.

ثم، أضفت: إنكم انتم الملحدون تجادلون وتنكرون وجود خالق هذا الكون العظيم لمجرد المناكفة والمعارضة، وتريدون القول بأن العلم الحديث يناقض الإيمان بالله مستندين الى علوم الطبيعة والاحياء والفيزياء وغيرها كما تزعمون، رغم اقتناعكم ببعض ما نقول ، فهل ولد هذا الكون بسبب ما حدث من انفجار كوني، لو صدقنا به؟

وقد قال أحدكم: " من المستحيل ان يوجد هذا النظام الكوني بمحض الصدفة وهو المتصف بالدقة المتناهية ولا بد من وجود إرادة تديره ولكن ذهني غير مستعد لنقبل الفكرة".

قاطعني مستفهماً: أين ورد ذلك الكلام؟

أجبته: ذكره الكاتب الهندي وحيد خان في كتابه (الاسلام يتحدى.. مدخل علمي الى الإيمان)، بامكانك الرجوع الى نسخته الانكليزية، وإن لم تجدها فسوف أرسلها اليك.

ولكننا نبقى نجادلكم كما قال الله في كتابنا: " ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ".

قاطعني صاحبي: بعد كل الذي قرأت وسردته لي، ألا تزال غير مؤمناً بهذه النظرية العلمية وبأنها تناقض ما جاء في الكتب السماوية والنظريات الدينية المختلفة؟

أجبته: قبل أن ندخل في النقاش حول مدى صحة هذه النظرية من عدمه، فإن كثيراً من النظريات العلمية التي سادت العالم لفترات معينة، ما لبثت ان نسختها وفندتها نظريات لاحقة ظهرت بعدها، لذا ونحن نتحاور، أرجو أن لا تجعل من هذه النظرية نصاً مقدساً غير قابل للنقد، ولكن دعنا أن نضخعه للقل أيضاً الذي أنتم طالما ترجحونه على كل شيء ونحن نرجحه على جزء كبير منها.

أود أن اقول لك: كيف بامكانك أن تتصور بأن انفجار كوني يخلق وينشأ كواكب ومجرات تدور في فلك ضمن نظام كوني غاية في الدقة، وما حركة الأرض والشمس والقمر وتناسق دورانهم إلا ادلة أكثر واقعية ومنطقية وقرباً الى عقولنا وحواسنا وإدراكنا وهي علامات تدل على وجود خالق عظيم ينظم عملها بدقة متناهية، فاختلاف الليل والنهار والمحافظة على درجات حرارة لكي لاتبلغ زيارة كبيرة فتصهر وتحرق كل ما على الارض، أو على العكس تنخفض الى درجات تؤدي الى إنجماد الارض ومن عليها وغير ذلك الكثير.

قاطعني مرة اخرى: الطبيعة هي التي تنظم ذلك والانفجار الكوني العظيم هو من نتاجات هذه الطبيعة .

قلت له: دعنا نبسّط الأشياء ونأخذها بالعقل والمنطق: هل أن انفجار سيارة او بناية او غيرهما ينتج عنه فيما بعد مكونات مادية منتظمة الشكل وتعمل بدقة وإنتظام كما هو حال النظام الكوني القائم؟

رد صاحبي بابتسامة تخفي نصراً اعتقده لأول وهلة: وهل تظن ان مفردة انفجار تعني ما تعنيه بالنسبة لانفجار سيارة او بناية أو أي جسم آخر؟ أبداً يا صديقي، المقصود به وباختصار: عملية انزياح أدت الى تكوين جسيمات أولية وبعدها ذرات ومنها تولدت نجوم ومجرات .

فسألته: ومن أطلق وأدار ونظّم هذه العملية التي أنتجت هذه المكونات؟

أجابني: الانفجار العظيم .

فقلت له: عدنا اذن الى الانفجار العظيم مرة أخرى، وكأننا ندور في فلك جدالي بيزنطي عقيم، لا مخرج منه: هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة؟

رد جاري، محاولا التخلص من المأزق الجديد: إنه قانون الصدفة ، فأحد فلاسفة القرن الماضي أوجد نظرية تسمى نظرية (القرود اللامحدودة او المتناهية)، و أعطى مثالاً: اذا وفرنا لمجموعة من القردة عدة آلات كاتبة وتركناها تضرب عليها بشكلٍ عشوائي لمدة طويلة فسيكون لدينا حصيلة لما تضمنته قصائد شكسبير من أحرف وكلمات وهذه الفرضية هي مماثلة في محتواها ومخرجاتها لما حصل لدى نشأة الكون؟

ضحكت في داخلي ولكنني لم أكن أرغب باستفزاز صاحبي، فرددت عليه: ولكن هل امتلكنا من جراء ما قامت به القردة المعاني والاحساسيس لما ورد في روائع أشعار شكسبير، يمكننا قراءتها والتمتع بروعة كلماتها كما هو الحال عندما نقرأ ما كتبه هذا الشاعر الكبير؟

أكملت حديثي مفنداً قوله: إن ما أنتجه تطبيل القردة على الاَلات الكاتبة حسب فرضية الصدفة لم ينتج سوى أحرف وكلمات متناثرة لا قيمة لها، ولو طبق هذا المثال على الكون لكان عبارة عن دمار ولانظام منفلت تتصادم فيه الكواكب وتحترق فيه النجوم والمجرات وتنطبق فيه السماوات السبع بعضها على بعض ويغلب الليل النهار ويسبقه،أو يطغى النهار على الليل وغير ذلك من فوضى لا حدود لها.

ان الادعاء بأن الطبيعة هي من أوجدت ونظمت الكون أمر مثير للضحك بل وللسخرية في آن، أليس العلم يقول بأن الطبيعة صماء والمادة جامدة فكيف لهما أن يصنعا أجراماً ونظاماً لا متناهياً غاية في الدقة، وكوكبا أرضياً بليله ونهاره وجباله وسهوله ووديانه وسمائه وماءه وجماله وبهائه؟

عاد صاحبي ليمتطي صهوته من جديد ويعيد أسطوانة ليس لديه غيرها مع اننا نعتقد بها ولكن بشكل معكوس عما هو يؤمن به، بقوله: ان العلم أثبت صدق فرضية الصدفة وصحة نظرية الانفجار الكوني ومن كشفها علماء لا غبار عليهم، وأنا وملايين نؤمن بها وهي تفند ما جاءت به الأديان، وتدعم عدم ايماننا بكل ما هو ديني.

فأجبته مختتماً الحوار: يا صديقي لا تتعكز على مفردة (العلم) لتبرر عدم إيمانك، فنحن نتكلم ايضا عن العلم ونستشهد بالكثير من دلائله لإثبات صحة ومصداقية ايماننا وعدم صدقية الحادكم، وكما قلت لك في بدء حوارنا: أنتم ترفضون الحقائق وان صدّقتم بها لمجرد البقاء في دائرة الإلحاد وهذا خياركم، وكما جاء في كتابنا " لكم دينكم ولي دين".

غادرت الحديقة الصغيرة أمام دارينا التي جلسنا على أرائكها الجميلة وأنا أودع جاري العجوز بالقول: الى لقاء آخر والى حوار جديد .

 

في المثقف اليوم