قضايا

القوة التدميرية لدى الجماهير المتظاهرة بين فكر غوستاف لوبون وواقعنا العراقي

وليد كاصد الزيديما جرى قبل أيام قلائل من تدمير وحرق في مدينة البصرة لممتلكات عامة وخاصة بينها مؤسسات حكومية خلال تظاهرات لجموع واسعة من جماهيرها، هو سلوك ليس بجديد لا على العراقيين ولا على غيرهم من شعوب العالم - على الرغم من شرعية أهداف هذه التظاهرات قبل أن تنحرف عن مسارها الصحيح - وقد كتب عن ذلك مفكرون وكتاب محليون وعالميون، لعل من بين أبرزهم المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي (غوستاف لوبون)، ولاسيما في كتابه "سيكولوجية الجماهير" الصادر عام 1895، إذ تحدث فيه عن عادات وطباع الجماهير ولاسيما الغاضبة وقت الاحتجاج والتظاهر والثورة، ومدى تأثير قوتها التدميرية، فهو يؤكد على أن الفرد لايقوم بأفعال وحشية مدمرة إذا ما كان لوحده، ولكنه يصبح أسداً مفترساً لو كان ضمن جماعة: "إنّ غرائز التوحش الهادمة هي عبارة عن بقايا العصور البدائية النائمة في أعماق كل منا وسوف يكون من الخطر إرضاؤها أو إشباعها بالنسبة للفرد المعزول هذا، في حين أنّ انخراطه في جمهور ما غير مسؤول يجعله قادراً على إتبّاعها لأنه يعلم عدم تعرضه للمسائلة والعقوبة".

ولا يمكن أن توصم الجماهير دوماً بأنها تقوم بالتدمير والحرق والتخريب عندما تكون ضمن مجاميع وليس أفراداً، بل تتسم بعض تصرفاتها بالتضحية وحسن التعامل احياناً، وهو ما يؤكد عليه لوبون، بالقول :" إذا كان الجمهور قادراً على القتل والحرق ومختلف أنواع الأفعال، فانه قادر أيضاً على أفعال التضحية والنزاهة الاكثر مثاليةً بكثير من تلك التي يقدر عليها الفرد الواحد، فأرذل أنواع الاوغاد يمكنهم أن يتحلوا بمبادى أخلاقية معتبرة بمجرد أن ينخرطوا في الجمهور".

يؤكد ذلك عالم الاجتماع الفرنسي (تين)، عندما لاحظ أن الذين قاموا بمجازر سبتمبر – التي كانت موجة من عنف العصابات إستولت على باريس في أواخر صيف 1792 أثناء الثورة الفرنسية - جاؤوا بمَحْفَظات النقود والحلي والجواهر التي وجدوها في جيوب ضحاياهم وسلموها للجان الثورية، وكان من السهل عليهم أن يسرقوها دون أن يعلم أحداً بذلك. ومثال آخر، ما كان عليه الأمر فيما يخص الجمهور الهادر والبائس الذي هجم على (قصر التويلري) بباريس أثناء ثورة 1848، إذ لوحظ أنه لم يسرق أية تحفة ثمينة من تحفه في حين كانت واحد منها فقط كافية لإطعامه عدة أيام.

وعودة الى واقعنا في العراق، نجد أن السرقات والتدمير والحرق عندما تكون الجماهير ضمن كتل ومجاميع تعم أرجاء المدينة ولايسلم منها شيء فتصعب السيطرة عليها إلا بعد إحداث فوضى ودمار وخراب واسعة. لن نعود بعيداً في أغوار التاريخ، ولكن نُذكر بما حدث في ما سُمّي بــ (لفرهود)، وهي أعمال عنف ونهب وتدمير نشبت في مدينة بغداد، استهدفت سكان المدينة من اليهود في حزيران 1941، خلال إحتفالهم بعيد الشفوعوت اليهودي، وقد وقعت هذه الأحداث بعد الفوضى التي أعقبت سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني خلال إنقلاب 1941، قبل أن تتمكن القوات البريطانية من السيطرة على المدينة.

ولم تحدث بعد هذه الحوادث أعمال مشابهة على نطاق واسع حتى جاء عام 1958، حيث جرت عمليات قتل وسلب ونهب وتدمير واسعة بعد الانقلاب على الملكية. وبعد 33 عامأ، أي في عام 1991، حيث أعقب خروج القوات العراقية من الكويت، حدوث حالات نهب وتخريب لممتلكات عامة وخاصة لدى خروج الجماهير بانتفاضة واسعة في أغلب مناطق العراق، الى أن جاء عام 2003 حيث دخلت القوات الامريكية والقوات المتحالفة معها العراق، فسادت فوضى واسعة أدت الى حدوث حالات نهب وتدمير وسرقات واسعة في عموم العراق طالت المتحف الوطني العراقي وبنوك ومؤسسات حكومية وممتلكات خاصة وغيرها، حيث صرح في حينه الناطق باسم البيت الأبيض (آري فلايتشر) في 12 نيسان 2003 بالقول : " إن ما نراه هو نوع من التعبير عن الإحباط الذي عاشه العراقيون على مدى ثلاثة عقود على يد النظام".

وكما أسلفت، فإنّ القوة التدميرية والتخريبية للجماهير تزداد كلما كان الأفراد ضمن كتل جماهيرية واسعة، فتزداد همتهم ويختفي الخوف من العقاب عن أذهانهم، فيتسابقون في النهب والتدمير والتخريب، وفي بعض الاحيان يحدث ذلك دون هدف أو وعي لدى عدد كبير منهم.

يروي لي أحد الاشخاص المثقفين، وكنت قد التقيته عام 2010، يقول: كان عمري 13 عاماً عندما أُسقطت الملكية في إنقلاب عام 1958 العسكري، وكنت حينها أسكن منطقة الشماسية في شمال شرق بغداد - سُميت بهذا الاسم نسبة الى رجال الدين المسيحيين (الشماسين) الذين كانوا يسكنون فيها، والشماس هي رتبة لرجل الدينال مسيحي- وقد شاهدت مجاميع كبيرة من الجمهور تسير نحو صوب الكرخ حيث موقع قصر العائلة المالكة، فسرت معهم دون وعي – وكأنه ريشه جرفها تيار ماءٍ هادر- وطوال الطريق كنت أشاهد عمليات سلب ونهب وتخريب، وعندما وصلنا القصر وكنا متأخرين، لم نجد فيه شيئاً يؤخذ أو يُحطم ! ذلك أنّ الجماهير الأقرب الى القصر كانت قد عبثت في غرفه وأروقته بما فيه الكفاية، وأخلته من كل محتوياته. يردف شاهد العيان : " فقلت لنفسي كيف أعود ولم أفعل شيئاً كما فعل غيري من جموع الناس – على الرغم من أنني كنت فتىً صغيراً- فصعدت الى سطح القصر، ولم أجد سوى ماكنة قص عشب حديقة - ويبدو أنها كانت عاطلة فرُكِنت في إحدى زوايا السطح – عندها طلبت من شخص كان يقف بجانبي أن يحملها معي، فقمت برميها من أعلى السطح على الأرض، حينها أصبت بنشوة، وعدت متباهياً وأنا أشعر بأنني قد أنجزت شيئاً ما، وقمت بمشاركة الآخرين بما قاموا به.

عندها قاطعته: هل كان لديك موقف سلبي من النظام الملكي؟ فأجابني على الفور: أبداً، لم أكن أفقه شيئاً في السياسة يومذاك، ولكنني فعلت ما قامت به أغلب جموع الجماهير !!

ولدى رجوعنا الى ماهية هذ الفعل الذي دفع هذا الشخص للقيام به عندما كان ضمن جماعة، نجدها ترتبط بــ "السلوك الجمعي" الذي ينتج عن العقل الجمعي وهو عبارة عن سلوكيات يقوم بها الشخص دون أن يشعر بتلك التصرفات، تفقده الهوية الذاتية ضمن الجماعة، وهو ما قاد هذا الشخص الى أن يقوم بهذا العمل رغم عدم وجود هدف أو قناعة مسبقة لديه للقيام بما قام به .

يسلّطَ (غوستاف لوبون) الضوء على مثل هذه الأفعال لدى تشخيصه لحالة الجماهير عندما تخرج ثائرة، ومحتجة، وغاضبة ضمن مجاميع تفقدها السيطرة على سلوكها المعتاد وعلى تركيزها العقلي والذهني السليم، في حين لو أن فرداً منها خرج وسار لوحده لما فعل ما يفعله عندما يكون بين جموعها. إنها القوة التدميرية الجامحة للجماهير التي تخرج جماعات وكتل بشرية تذوب فيها هويات افرادها، فتتشابه فيها تصرفاتهم وسلوكياتهم دون خوفِ أو خشية من مسائلة أو عقاب.

 

د. وليد كاصد الزيدي

 

 

في المثقف اليوم