قضايا

بين الحرية والقانون

محمد العباسيكما أسلفنا في مقالات سابقة، "الحرية" كلمة لها دلالات وتفسيرات متفاوتة عند كل فرد.. البعض يرى الحرية كحق واجب ولا ينبغي لأي جهة كانت أن تضع لها شروطاً ولا تتدخل في الحد منها.. البعض يراها عملية مكتسبة، أي يكتسبها أي فرد بحسب جهده ومقابل عطاءه ونتيجة لمستواه الفكري والعلمي وضمن منظومة إجتماعية ينتمي إليها.. والبعض قد يجد أن حريته في أفعاله حق موروث، كونه نشأ في بيئة أعطته كل شيء وميّزته عن باقي أفراد المجتمع فقط لأنه إبن الوالي أو حفيد السلطان أو قريب لصاحب شأن في البلد، أو وزير أو نائب أو صاحب رتبة عسكرية عالية.. أو حتى يكون ذو مكانة دينية رفيعة.. فيكون مصاناً من المحاسبة والقانون.. لذا يفعل ما يشاء بلا حسيب ولا رقيب.. ولذا فله الحق في حرية مطلقة.

يقول الدكتور "محمد فاروق النبهان" أن الحرية المطلقة تقود إلى الفوضى المطلقة، ولابد من وجود ضوابط صارمة لممارسة الحرية بالطرق الصحيحة.. فالحرية لا تعني الانفلات.. والمجتمعات المتخلفة لا تحسن في الغالب ممارسة الحرية بالطريقة الصحيحة.. ولابد من وجود قيود قانونية وأخلاقية لضبط الحرية. فالديمقراطية الغربية نجحت في المجتمعات الغربية، لكنها فشلت في معظم المجتمعات الأخرى وأدت إلى الفوضى العارمة وفشلت في تحقيق الاستقرار الاجتماعي.. ونمت في ظل الحرية الغربية المستوردة الصراعات الداخلية والدينية والطائفية والقومية.. وضُعف سلطان الدولة.. حتى أصبح الولاء للفئة الحاكمة أو للعشيرة أو للطائفة أو المذهب هو الأقوى.. ونمت النزَعات الانفصالية في ظل الحرية المستجدة.. كما أدت الحرية الفكرية الغير واعية إلى شيوع أفكارٍ منحرفة تهدد الاستقرار الاجتماعي.

فهناك بون شاسع بين ممارسة الحرية الشخصية المتعلقة بالخيارات الخاصة لممارسة الحياة اليومية، وبين ممارسة الحرية في الشئون المتعلقة بحياة الآخرين وحرياتهم وممارساتهم وحقوقهم.. فلا بد من إيجاد صيغة مقبولة وعادلة لحماية الحرية العامة والحفاظ عليها، وفي الوقت ذاته حماية "الحرية" من خطر تلك الحرية التي يمارسها البعض بطريقة خاطئة.. فالحرية لأجل الإنسان وليست للإساءة للإنسان.. الحرية يجب أن تكون لأجل الاستقرار الاجتماعي وليست لتهديد الاستقرار.. بخاصة في الدول التي تملك قابليات لممارسة الحرية بطريقة خاطئة.. فالحرية ممارسة لحق وليست سلاحاً ضد الغير.. وبخاصة المجتمعات "المتخلفة" حضارياً التي يمكن للأقوياء فيها من شراء الحرية وبخاصة في الصحافة والإعلام.. حيث لا يملك الضعيف أن يمارس حريته إلا في ظل دولة قادرة على حمايته.. ولا يجب السماح تحت مسمى "الحرية الاقتصادية" مثلاً أن تتحكم مجموعات معينة في مدخرات الدولة ونهب أو إضاعة المال العام.. فهذه تكون بمثابة ممارسة حرية الأقوياء ضد الضعفاء.. حرية أصحاب الأموال والنفوذ ضد المجتمع كله.. حينها يحل الفساد الناتج عن مثل هذه الحرية الاقتصادية المعطاة بيد ثلة من أصحاب النفوذ، وهكذا فساد لا يمكن السيطرة عليه حيث يسيطر أقلية من أفراد المجتمع على مصائر الغالبية من المجتمع.

الحرية تحتاج إلى دولة قوية وحكومة رشيدة تضع نصب عينيها المصلحة العامة التي تشمل الجميع ولا تستثني المقربين فقط وتمنحهم كافة الصلاحيات دون مراقبة وبلا محاسبة.. نعم، ربما يجادل البعض بأن كل مجتمع له مكوناته وخصائصه.. وأن كل مجتمع يجب أن يختار نموذجه الخاص به، ويحقق المصالح المرجوة من الحريّة وهو أقدر على اختيار الحرية التي تصلح له وليس هناك نموذج وحيد لهذه الممارسة الديمقراطية.. وليس هناك مفهوم واحد للحرية.. لكن يجب أن تبقى الحرية مبدأً مقدساً ويجب احترامه. غير أن بعض الحكومات تبدو ضعيفة في سيطرتها على مقدرات الدولة وبالتالي تحارب كل من ينتقدها وتمارس الضغط والقمع والإسكات القسري على كل من يمارس حريته في انتقاد عدم الانضباط والفوضى وضعف الدولة في ممارسة العدالة المجتمعية.. وتكون النتيجة الحتمية للدول الضعيفة أن تنهار في ظل الحرية غير المنضبطة في إحقاق عدالة مناسبة تحفظ حقوق الجميع دون استثناء.

وتشرح "شبكة القانونيين العرب" بأن علاقة الحرية بالقانون ليست على يرام دوماً.. فالحرية تريد فضاءً واسعاً لتسبح فيه بحرية من غير شروط تعجيزية أو من دون قيد أو شرط.. القانون لا يسمح للحرية بما يخالف النظام العام والآداب العامة، ويضع شروطاً لكل منهما مما يعطل نشاط الحرية الطبيعية للإنسان في ممارسة حياته بصورة طبيعية غير معقدة.. رغم أن أي منا لن ينكر ضرورة وضع القوانين لكل مسارات الحياة، غير أن عملية فرض القانون في حد ذاته قد يكون متعارضاً مع مبدأ ممارسة الكثير من الحريات الفردية.. لذا يبقى نوع من الاحتراب قائما ما بين الحرية والقانون.. فتارة يشب نزاع باسم القانون ضد دعاة الحرية.. وتارة باسم الحرية ضد سلطان القانون.. فكما هو الحاجة للقانون أمر مطلوب، كذلك هي ممارسة الحرية، فهي حق مقدس لا يجوز المساس به.

والحرية تعيش حالة من الهيستريا الجدلية دون ان يعي أحد القيمة الفعلية للممارسة الحقيقية للحرية.. ولسنا هنا بصدد اعادة المقولات الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى عن الموجبات التي انجبتها المطالبات الشعبية للحريات بكل انواعها على مر التاريخ ولاسيما في مطقتنا العربية في الآونة الأخيرة، حيث تحول مفهوم الحرية وصناعة القرار والاستقلالية والتحرر من الامبريالية والشعوبية والدكتاتورية الى محطات ذات فواصل كارثية بحق الشعوب.. فلا المعارضة السياسية هي معارضة تمارس الحرية وفق منطقها الممنهج المؤدي الى خلق التغييرات الإيجابية المرجوة، ولا الساسة "الأشخاص" استطاعوا ان يحدثوا بمقولاتهم وتصريحاتهم وآرائهم تلك المساحات الممكنة لخلق ابواب تفضي الى الخروج من الأزمات.. وهذا بالضبط ما يمكن أن نسميه اللعنة التلازمية التي سترافقنا لعقود اخرى طالما لا نجد الوسائل المناسبة لكسب الحرية المطلوبة، وللأخذ بالافكار التي تخدم العدالة والحقوق، دون اللجوء الى العنف اللفظي أو التخريبي المؤدي الى خلق شقاق وتفرق وصِدام بين تنفيذ القانون المفروض وممارسة الحرية.

يقول الأستاذ "حسن بن سالم" (الحياة): "قد لا يكون من المبالغة القول إن التاريخ الإنساني كله عبارة عن صراع طويل من أجل تحرر الإنسان وكفاحه كي يكون سيد نفسه، وتحرره من قيود استعباد البشر وحرمانه له من حقوقه وإجباره على أن يعيش ويفكر وفق نمط خاص يفرض عليه.. فالتجارب الإنسانية في مختلف العصور هي دليل قاطع على أن تقدم الإنسان وازدهار مستقبله وتطوره مرهون بتحرره من القيود التي تكبل حريته وفكره وحركته، وربما لم تخلُ حقبة على امتداد التاريخ البشري من جدل حول الحرية.. دعوة إليها أو اعتراض عليها، أو صراع بين المطالبين بها والمعارضين لها.. وذلك لأنها تقع في قلب الحركة التاريخية، وهي محور التجاذب بين الإنسان والإطار الاجتماعي الذي يعيش فيه وقوانين الدولة التي يخضع لسلطتها".

يمكن القول إن الحرية مبدأ له مفهوم ثابت ينصرف عند الشرح والتوضيح إلى معانٍ وتطبيقات مختلفة، بعضها مطلوب ومحل اهتمام في جميع الأحوال والأوقات، وبعضها الآخر يبرز في ظرف معين من دون غيره.. ففي بعض الظروف قد ينصرف المفهوم إلى التشديد على الحريات والحقوق المدنية، وتارة على الحريات السياسية، وتارة على التسامح الديني وهكذا.. فالاهتمام ببعد معين من أبعاد الحرية، أو على عنصر محدد مما ينطوي عليه مفهومها، يمثل تعبيراً عن ضرورات أو إفرازات الحركة الاجتماعية في حقبة ما ونتيجة ظروف وأحداث معينة.

الحرية هي المناط الذي يتيح للإنسان في جميع شؤون حياته حق الاختيار الحر من دون خوف أو طمع أو نفاق أو مصلحة أو إكراه من أحد.. وعلى النقيض من ذلك المجتمعات التي تصادر حرية الفرد وتنازعه وتشاركه في حق الاختيار الشخصي بوسائل الإكراه والتخويف، فإن تلك المجتمعات ولغياب مظاهر الاختيار والحرية الفردية تستشري فيها غالباً مظاهر النفاق والرياء والكذب.. فيمارس الإنسان فيها أهواء ورغبات الأكثرية وليس اختياراته ورغباته الشخصية!   فالإنسان الحر هو القادر على اختيار أسلوبه وطريقته في الحياة، وهو غير المرغم على اختيار ما لا يريد اختياره. وقد يردد البعض "أنه لا توجد حرية مطلقة، لا بد من قيود على الحرية وإلا انقلبت إلى فوضى وعبث"، وهي إحدى أبرز الحجج التي يُكثر من تكرارها أعداء الحريات والمعارضون لها، وتكمن خطورتها أنها لا تنطلق ابتداءً من الإقرار بالحرية كقيمة عليا، وهي غالباً ما تؤول في مضامينها إلى تهميش قيمة الحرية!

و كثيراً ما نسمع بما يُعرف بالحقوق الطبيعية، وبالحقوق الدستورية أو التعاقدية، باعتبار الفرد مواطناً في المجتمع المدني.. فمرجع الصنف الأول من الحقوق والحريات هو قانون الفطرة، وهو أعلى من كل قانون يضعه البشر.. بل هو مرجع كل قانون بشري وحاكم عليه.. الحقوق الطبيعية - تبعاً لهذا المبدأ - فوق كل القوانين الوضعية وحاكمة عليها، بمعنى أنه لا يجوز للمجتمع أو الدولة إصدار قانون يخرق حقوق الأفراد الطبيعية لأنها جزء من جوهر إنسانيتهم وضرورة لها، ومن ذلك الحريات المرتبطة بالضمير كحرية الاعتقاد والدين، وحرية التفكير والرأي والتعبير، والحرية في اختيار نمط المعيشة وأساليب العيش.

أما ما يُعرف بالحقوق الدستورية أو التعاقدية، فهي حقوق يحددها القانون وترتبط بالوصف القانوني للفرد، أي كونه مواطناً أو عضواً في مجتمع مدني، وأبرز ما يدخل ضمن هذا الصنف هو حق المشاركة المتساوية في الشؤون العامة للجماعة، بما فيها حق الوصول إلى المناصب العامة أو انتخاب الغير لها.. ومنها أيضاً حق الاستفادة المتساوية من الموارد العامة المادية وغير المادية.. ومن هذه الزاوية فإن الصنف الأول سابق للقانون و"حاكم عليه"، أما الصنف الثاني فهو تابع للقانون و"خاضع له".. وبطبيعة الحال لا يمكن التمتع بالحرية ما لم يكن ثمة قانون يحمي ممارستها، كما لا يمكن تصور حرية من دون قانون يضع حدوداً لما هو مقبول وما هو ممنوع، لأن الحرية المطلقة تعني أيضاً حرية الإنسان في أن يخترق مساحات الآخرين.. وهي قد تقود إلى فوضى اجتماعية، تضيع معها فائدة الحرية.. إنما المبرر الوحيد لهذا التقييد هو العدالة، فالبديهي أن الحرية حق متساوٍ لجميع الأفراد، وتقتضي العدالة أن يتمتع كل فرد بالقدر نفسه الذي يتمتع به غيره، وهذا يؤدي بالضرورة إلى تقييده، والطريق المتبع في المجتمعات المتقدمة في ذلك هو بتقسيم الحياة إلى مجالين: مجال شخصي: يتمتع فيه الفرد بالحرية المطلقة، ومجال عام: يطبق فيه القانون بالعدل.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم