قضايا

لماذا نكتب؟

وليد كاصد الزيديتلقيت رسالة من صديق يطلب فيها مساعدته بإبداء النصح والمشورة في تأليف كتاب، فسألته بداية: هل سبق لك وان كتبت مقالة أو بحثاً، أو حتى خاطرة ؟ فأجابني بالنفي. قلت له: حسناً، كم كتاباً قرأت، فرد بأنه لم يقرأ كتاباً بأكمله بل قرأ أجزاءا من عدة كتب ولم يكمل أحدها، مبرراً ذلك بأنه أنهى دراسته الأولية تواً ولم يكن لديه الوقت الكافي للقراءة.

فقلت له: ياصديقي لن تستطيع تجاوز كل عتبات السلم بقفزة واحدة لتصل الى العتبة الأخيرة. نصيحتي لك هي أن تقرأ كثيراً لكي يكون لديك أولاً خزين معرفي وفكري، ثم تبدأ بكتابة مقالة لترتقي بعدها عتبات سلالم الكتابة الواحدة  تلو الأخرى، حينها قد تصل الى مرحلة تأليف كتاب كما تطمح اليوم.

وذكرت له كيف أن أحد الشعراء الجاهليين أرشد شخصاً جاء يسأله كيف باستطاعته أن يصبح شاعراً لامعاً، فأجابه :  إذهب واحفظ قصائد المعلقات ثم إرجع لي بعد ذلك، فلما عاد اليه وقد حفظها عن ظهر قلب، قال له إذهب ثلاث سنوات وأنس ما حفظت ثم عد إليّ، فلما عاد اليه ونفذ ما أمره به، قال له باستطاعتك الآن أن تذهب لتكتب الشعر.

ليس هناك كتابة تأتي من فراغ، كل الكتابات العالمية ولاسيما المشهورة أُسست وبُنيت على تراكمات معرفية وانجازات فكرية سابقة. معظم الكتابات وُلدت من تراكم الثقافات ولا شيء ظهر من لاشيء.

 الكتابة لا تأتي من فراغ، فهي بحاجة الى قراءات واسعة، هذه الاخيرة أشبه بادخار رصيد في بنك، والكتابة هو ما تسحبه من الرصيد، فإذا لم يكن لديك رصيد كاف في مصرف مالي فإنك لن تستطيع سحب المبلغ الذي تحتاج اليه، اما اذا استمريت بالسحب فستجد نفسك مفلساً في يومٍ ما. هكذا هي الكتابة خزين فكري يسطره الكاتب على الورق.

وإذا ما ذهبنا الى سؤال: لماذا الحاجة الى الكتابة؟ سنجد أن دار نشر غاليمار في باريس كانت تتلقى قرابة عشرة آلاف مخطوطة  للنشر في السنة قبل عدة عقود، وهذا يعني أن هناك كمٌ كبيرٌ من البشر يشعرون بالحاجة إلى الكتابة، فما هي دوافعهم؟

لم يتوانَ الشباب لويس أراغون وأندريه بريتون وفيليب سوبو، في مجلتهم التي أسموها على سبيل التورية الساخرة (أدب)، عن إعداد استبيان سنة 1921، بعنوان: " لماذا تكتبون؟" كانت الاجابات إما استفزازية، أو مبتذلة، أو خالية من أي معنى.

أما ج.ب. بونتاليس، ذو الموقف التقليدي أكثر، فقد ذكر في حوار له مع مجلة اللحظات الأدبية بالأهداف الرئيسة: " لكي أكون محبوباً بحسب رأي فرويد، ولكي أحظى بالنجاح لدى النساء كما يريد موباسان، ولشدة محبتي لفاليري، كل هذا ليس له مصداقية كبيرة. نجد الإجابة الخامسة لدى سامويل بيكت: "لا أصلح لغير ذلك" أي لا أصلح إلا للكتابة.

وفي نفس السياق والتساؤل، نجد رولات جوسلار يقول : " يبدو أن هنالك أناساً يكتبون في البداية من أجل ذواتهم، لأن هذا يتيح لهم التنفس بشكلٍ أفضل".

وبالنسبة لفولكنر، تبدو الكتابة ضرورة لا يمكن تفسيرها ولا تقبل الجدل في موضوعها: " الأمر الأول، هو أن يقع الكاتب تحت سلطان شيطان الكتابة، والآخر أن يكون مجبراً على الكتابة دون أن يدري لماذا، وأحيانا قد يرغب في التملص من هذا العمل إلا أنه يجد نفسه مكرهاً ".

في حين يقول روجيه غرييه لم أكن وحيداُ لأجبر على الكتابة، بل أنني بحثت عن الوحدة لكي أكتب. أما الشاعر الألماني الفذ غوته يفسر سبب حاجة المرء الى العزلة التي توفر أجواء الكتابة بقوله :" لا بد للمرء أن ينعزل لمدة من الزمن لكي يسبر أغوار نفسه".وعندما يحصل ذلك يتجه الى الكتابة إذا ما إمتلك مقوماتها.

وفِي نفس سياق الكتابة في ظل الوحدة ولكن بتوجه مغاير، يقول أورهان باموك:"...أكتب لأكون وحيداً ".

خلاصة القول ان الكتابة ليست قراراً مزاجياً يتخذه المرء فيذهب ليكتب، بل الفكرة التي تولد من رحم المعاناة هي من تستدعيه غالباً للكتابة . وهو ما يقوله روجيه غرينييه في نفس كتابه (قصر الكتب): " مجرد الشروع في الكتابة يتطلب وجود سبب ينبع من أعمق أعماق الكاتب. ولابد لي أن أذكر هنا فلوبير أيضاً الذي يتكلم عن الحزن الذي دفعه للشروع في كتابة سالامبو".

لذا فلا غرابة أن نجد أفضل كُتاب الرواية والقصة كتبوا من المعاناة وإتون قسوة الحياة مثل ماركيز وديستوفسكي وكامو وكافكا وشوبنهاور وغيرهم.

أما أنا، فأكتب أولاً لكي أدون أفكاري المتزاحمة في عقلي على الورق، وثانياً لكي أشارك - ولو بشكلٍ متواضع- في تغيير الواقع المزري الذي نعيشه منذ خمسة عقود، وذلك عبر إيصال أفكاري الى القارىء، وإن لم تُغير شيئاً كبيراً، فهي على أقل تقدير ستكون بمثابة رمي حجر في بركة ماءٍ راكد، وما لا يدرك كله لا يترك جله.

 

د. وليد كاصد الزيدي

 

 

في المثقف اليوم