قضايا

حوارات مع جاري الملحد (5): النظرية الداروينية ونفي وجود الإله

وليد كاصد الزيديكنت أنا وجاري متفقان على أن نتحاور هذا اليوم حول نظرية داروين، وهل أثبتت عدم وجود خالق للكون؟

كان جاري مسروراً في أن يقدم حجج داروين في نفي وجود إله، متوقعاً أنني لن أستطيع ردها مطلقاً. فبدأ بالحديث، متسائلاً : "لقد دحضت جميع النظريات والشخصيات التي تثبت أن الكون بكل ما فيه ليس من خلق إله، وإنما كما قلت لك هو نتيجة الانفجار العظيم، فهل ستدحض اليوم ما جاء به داروين من نظرية أثبتها علمياً وصدقّها العالم الغربي المتقدم بأسره ؟"

أجبته: كما قلت لك في حوار سابق بيننا، أن الكثير من النظريات تظهر وتنتشر بشكل واسع ثم ما تلبث أن تتداعى مفاهيمها وتتلاشى مصداقيتها بعد أن يظهر علماء آخرون يدحضونها ويفندونها. إذا ما رجعنا الى ديننا وكتابه - رغم عدم إيمانك بكل الاديان السماوية وكتبها - فنحن لا نؤمن بأية نظرية تتحدث عن أن الانسان لم يخلق سوياً وقويماً، فالله تعالى قال في القران الكريم :"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ "، أي منذ خلق الانسان الأول مرة، كان قويما وسليما ويمتلك العقل وكل الصفات والخصائص البشرية والانسانية التي لايمتلكها في الكون غيره، ولم يُخلق على هيئة قرد أو حيوان آخر ليتطور في ما بعد الى إنسان، كما يدعي داروين.

قاطعني جاري بسرعة وقد بدا الإمتعاض على محياه، قائلاً : " أرجوك، منذ حوارنا الاول طلبت منك أن لا تعطيني مثلا أو قولاً من كتاب ديني، بل دعنا نتحدث بمنطق العقل والحجة والبرهان العلميين".

قلت له : " حسناً وأنا متمسك بهذا الاتفاق، ولكنني فقط اردت أن أوضح لك ما جاء به كتاب الإسلام، بل وحتى المسيحية واليهودية جاءت بأقوال مماثلة، وقبل أن تقاطعني وتعود لتكرر قولك بأنك لا تؤمن بهذه أو تلك من الديانات وكتبها"،  دعنا نتحدث عن كيفية منافاة الداروينية للعقل الذي تحرص على سيادته على كل شيء.

لذا فانني أوجه لك هذا السؤال : كيف يمكن لقرد ان يتطور بمرور ملايين السنين ليصل الى ما وصل اليه الانسان من عقل وكمال في الفهم والدراية والادراك ؟  فاذا ما تطورت وتغيرت اشكاله فليس من  المنطق أن يتطور عقله، ثم لماذا هذه القرود التي تعيش بيننا اليوم بقيت تمتلك عقول لايمكن مقارنتها بعقول البشر ؟

هذه النظرية تتنافى مع المنطق والحجة في أن  تجعل أصل الإنسان يعود الى كونه قرداً، وأن كل الأنواع من أصل  واحد، كما أن الحلقة الرابطة بين القرد والإنسان مفقودة باعتراف داروين نفسه، ورغم تأكيده على الإلحاد وإنكار الخالق، إلا أن النظرية تسرد عكس ذلك في الكثير من مثاباتها الرئيسة.

عاد جاري ليكرر ما يقوله في كل مرة، بأن العالم المتقدم طالما انه آمن بالنظرية الداروينية فيكفي بأنها قد اثبتت صحتها، ولأنها نفت وجود خلق الهي للانسان منذ أن وُجدت الخليقة، فهذا يكفي لإنكار وجود خالق. وكأن لسان حاله يقول : من أنتم في العالم الثالث - إن بقي ثالثاً- لتنكروا ما جاء به عالم غربي مثل  داروين، ثم صدقه معظم الغرب المتقدم ؟

وقد استشفيت ما كان يدور في ذهنه، عندما ردّ علي بالقول : هل قرأت عن النظرية من وجهة نظر غربية أم من وجهات نظر وردت في كتب الشرق ولاسيما الاسلامي والعربي ؟

فأجبته : أولاً قرأت منذ سنوات طويله كتاب داروين  " أصل الأنواع" The Origin of Species " الذي أصدره سنة 1859  والذي كان داروين متردداً في أن يحمل هذا العنوان، وقد رأى ان يعنونه عنواناً آخر  The Preservation of Favoured Races In The Struggle For Life". ورغم أنه كتب  أكثر من عشرة كتب أخرى، كما تابعت  بالقراءة ، كيف أمضى داروين سنوات طويلة في اجراء بحوثه على  النباتات والحيوانات وعظامها، حتى انتهى إلى نظرية "الانتقاء الطبيعي" Natural Selection أو " البقاء للأصلح " Survival of the fittest.

وقد قرأت للطرفين - الغربي والشرقي - ولكن كان الحكم هو العقل الذي أنت تؤمن به أكثر مني ربما.

فرد علي: وماذا كانت النتيجة ؟

رددت عليه: توصلت الى نتيجة مفادها أن لا تطور لحيوان مثل القرد أو غيره ليقارن بالانسان أو يضاهيه في عقله وإدراكه وسلوكه وغيرها.

إنها نظرية لايقبلها العقل والمنطق وسترى في قابل الايام كيف ستُدحض كما دُحضت بالامس العديد من النظريات العلمية الشهيرة، رغم ما تتحدث عنه من إنتشارها في الغرب المتقدم.

ودعتُ جاري وكلاً منا يبدو انه لم يقنع الآخر بفكرته وما يؤمن به.

وبعد عامين على إعادة قراءة مسودة حواري مع جاري  الباريسي لمراجعتها قبل إرسالها للنشر في صحيفة المثقف التي تصدر في سيدني بأستراليا . قرأت وجهة نظر ستيڤن هوكينغ حول النظرية الداروينية وهو الذي يعد أحد  كبار العلماء في مجال العلوم الفيزيائية  في العقود الأربعة الماضية، إن لم يكن أهمهم وأشهرهم، وله نظريات مهمة، من أبرزها نظرية الأكوان الموازية، التي توحي بتوجهات إيمانية لا تبعث كثيراً على الإلحاد.

وفي ظل داروين ونظريته في التطور ذهب هوكينغ ليناقض مسألة الإلحاد الدارويني، مع انه يعترف بأن دوره جاء ليكمل ما بدأه  داروين عندما قال :" من الصعب علينا أن نفسر لماذا نشأ الكون أصلا بهذه الطريقة، باستثناء أنه عمل الله الذي أراد خلقه وخلق كائنات مثلنا". وفي وقتٍ لاحق، عاد ليقول :" لقد طرد داروين الإله من البيولوجيا، ولكن الوضع في الفيزياء بقي أقل وضوحاً ".

ولعل ما تم التوصل اليه بهذا الصدد، هو العلاقة الترابطية بين نظرة داروين لنفي وجود الاله من خلال الطبيعة والتطور البشري وبين نظريات هوكينغ الفيزيائية التي ينفي فيها الاله مجدداً ولكن ليس من خلال البيولوجيا وإنما من خلال الفيزياء.

لذلك، لا نستغرب عودة هوكينغ في تغيير فكري ملفت للانتباه، عندما قال :" ان داروين قام بطرد الله من البيولوجيا وأن دوري طرده من الفيزياء الكونية"!

ولعل تناقضات هوكينغ يكشفها قوله في كتابه (تاريخ موجز للزمن) :  " إن توّصل العلم لقوانين الفيزياء لا يعني أن هذه القوانين هي التي أنشات الكون".

وقبل شهر من قراءة هذا المقال، كنت قد إطلّعت على ما نشره كاتب بريطاني يدعى (أندريو نورمان ويلسون)، وهو كاتب وصحافي يكتب عن موضوعات في مجالي التاريخ والدين، حيث فنّدَ ما قاله داروين في نظريته وعبّرَ عن ذلك بالقول :" إن الوقت قد حان لتنحية داروين ونظريته المتناقضة من مكانته العلمية المقدسة". وذكر ويلسون في مقالة نشرتها صحيفة "Evening Standard " اللندنية، التي كان يكتب عموداً ثابتاً فيها، وبمناسبة صدور كتابه: ( تشارلز داروين: صانع الأساطير الفيكتوري) . إنّ "الحقيقة الكبرى حول التطور التدريجي كانت سائدة على مدى خمسين عاماً على الأقل قبل أن يبدأ تشارلز داروين أعماله العلمية".

وطالب ويلسون أن يُزال تمثال داروين الذي يتصدر قاعة المتحف التاريخ الطبيعي مثلما أُزيحت صورته من على ورقة عشرة جنيهات إسترلينية النقدية التي وضعت عليها حديثا صورة الكاتبة (جين أوستن). وذكر الكاتب أنه عكف على البحث على مدى خمسة أعوام للإعداد لكتابه الجديد.

وتحدث الكاتب كيف أن انصار داروين يمجدونه ولا يقبلون بأي اعتراض حول نظريته وآرائه، قائلاً "إنهم يعظمونه كما عظم مناصرو ستالين زعيمهم المستبد".

ويدعي الكاتب في مقالته الموسومة: "حان الوقت لفضح تشارلز داروين بوصفه عالماً مزيفا"، أن الداروينية ليست علماً كما هو الحال مع علوم الجينات التي أرساها مندل، فالداروينية نظرية لا تزال تحتاج إلى دعم مجموعات من العلماء حول العالم، وتساءل: " لماذا نشخص بأبصارنا نحو داروين الذي ارتكب أخطاء كثيرة بدلا من مندل؟ وأجاب أنه توجد إجابة بسيطة لذلك هي أن الداروينية الجديدة كانت تتكون من جزء علمي فقط، وجزء ديني أو لا ديني، ومن الصعب على أنصار النظرية أن يمجدوا مندل لأنه كان قساً كاثوليكيا".

وأضاف داروين فكرتين لنظريته يعتبرهما أندريه ويلسون فكرتين مزيفتين. الأولى: أن الارتقاء يتم رويداً رويداً وأن الطبيعة لا تحدث فيها طفرات. ويورد الكاتب آراء عالمين أميركيين مشهورين هما (ستيفن جي غولد ونايلز ألدريج) اللذين صرحا قبل ثلاثون عاما بأن هاتين الفكرتين باطلتان. وقد أثبت علم المتحجرات أنه لا توجد حلقات مفقودة مثل تلك التي تؤمن بها النظرية الداروينية. وكان العالم غولد قد صرح أن عدم وجود مراحل انتقالية متدرجة هو "واحد من أسرار مهنة علم المتحجرات". وبدلاً من تلك الانتقالات التدريجية فقد أظهرت الدراسات على المتحجرات وعلى العظام وجود سلسلة من القفزات والطفرات.

بعد مغادرتي باريس، وإطلاعي على هذين الرأيين، أرسلتهما اليه، لكي أؤكد له قولي السابق بأن النظريات العلمية غالبا ما تظهر لتشتهر ويؤمن بها كثيرون، ولكنها تواجه في ما بعد اكتشافات علمية جديدة تهدمها من الاساس .ولكنه لم يرد سوى بعبارة  ( merci mon cher ami).

 

د. وليد كاصد الزيدي

 

في المثقف اليوم