قضايا

الوجود الروحي.. والثقافة الفلسفية

مجدي ابراهيممخطئٌ هو من يظن إن الفلسفة في جملتها اتجاه واحد يجمع خيوط الاتجاهات المختلفة والتيارات المتعارضة في نسق فكري واحد يكون بدوره هو الأصلح في ظنون الباحثين لتقويم الفرد ونهضة المجموع. وإنما تكمن شناعة الخطأ في أن الحياة الفكرية منذ أن بدأت تفرزها عقول المفكرين قائمة على نظام واحد ثابت لا يتغير تدور عليه عقائدهم ورؤاهم. لكنما هى في الحقيقة تتعدّد وتتلوّن بتعدد أنفاس أولئك المفكرين وتلوّن عقولهم واختلافها باختلاف المنطلق الفكري الذي ينطلقون منه، ويعتقدون بناءً عليه أن نقطة الانطلاق هذه إنما مَرَدّها إلى أسلوب في نظام الحياة الفكرية هو عينه الذي يتفق مع الثقافة العريضة والدراسة المتخصصة ما لم يكن يتفق في البدء مع طبيعة التكوين واستعداد الملكات.

مكنُ الخطأ في تصور الفلسفة تصوراً يردها إلى اتجاه واحد، هو أنها ليست بذات اتجاه. فلربما وجدت رهطاً كبيراً، وكبيراً جداً، من الفلاسفة، ينكفئون على الواقع، ينطلقون منه ولا يتجاوزونه إلى ما بعده، ويتفاوتون فيما بينهم على اختلاف المنازع والاتجاهات : تجريبيون ووضعيون، وماركسيون، وعلميون برجماتيون ونفعيون وتحليليون، أتباع التجريبية (الوضعية المنطقية) وأشياع الفلسفات الوجودية كخصوم للمثالية التقليدية ... وغيرهم ... وغيرهم إلى كثير مما لو تعقبناه لطال بنا التعقيب.

ولنسوق تبياناً على ذلك أمثلة خفيفة على هذا الرهط من الفلاسفة، فنقول : ظل أصحاب النزعة التجريبية (Empiricism) يؤمنون بالواقع ولا يتجاوزن الحسّ والتجربة في حقائق المعرفة والأخلاق، فما بعد المحسوس إنْ هو إلا وهم وأنداء خيال.

فالقيم والواجب عند أشيع دعاة هذه الفلسفة، ولتكن النفعية (Utilitarianism) مثلاً إنما هى سذاجة دونها سذاجة الأطفال، ولكن المنفعة عندهم أصل الأخلاق ومبدأ لها. واستبعدت الفلسفة الوضعية (Positivism) من مجال البحث فكرة "المطلق" بقدر استبعادها للتفكير الفلسفي بعد ظهور العلم التجريبي، فأضحت "القيم" والعلوم المعيارية على وجه العموم عندها نسبية متغيرة وتهدمت بذلك فلسفة الأخلاق في جملتها.

ولا تقوم للفلسفة قائمة عند دعاة (الوضعية المنطقية Logical Positivism) أو الفلسفة التحليلية أو التجريبية العلمية على اختلاف المسميات في معناها إلا بتحليل العبارات والقضايا لتوضيح ما يكشف عن مضمونها من مفهوم يُزال به اللبس الناشئ عن الغموض والتخليط. وإمام هذه الفلسفة التحليلية ومنشئها غير منازع هو (فتجنشتاين Wittgenstein) الذي كان يقول : ليس في العالم قيمة، وإذا وجدت كانت غير ذات قيمة". وإمام هذه الفلسفة في مصر والعالم العربي غير منازع أيضاً هو الدكتور زكي نجيب محمود، مع تغيير في بعض الفروع بين الإمامين.

كذلك .. ربما وجدت رهطاً كبيراً من الفلاسفة يتعالون على الواقع ويرتفعون عن أوْهاق المادة الصماء، ويؤمنون بالمثل الأعلى الذي لا يخضع للزمن ولا يرتبط بمكان لخروجه عن حدود الزمان والمكان، وإنه لا يختلف باختلاف الظروف القائمة ولا الأحوال العارضة، وإن من أخص خصائص المبدأ الخلقي لديهم وضوحه بذاته في غير حاجة إلى إقامة برهان للتدليل على صدقه؛ لأنه يحمل في باطنه الشاهد الأصيل على وضوحه، وبمجرد أن يفهمه الإنسان يسلّم بصدقه لما يرى فيه أنه يتجه بالخطاب نحو جانب يمثله وهو "العقل". وأنه لا يستقي من التجربة، لأن الصفة الضرورية القبْليّة أوجب من استقائه من التجارب واستيراده عن الحواس، وبدونه لا يستقيم فهم الأشياء أو تعقلّها.

ولأجل ذلك فهو "مطلق" غير قابل للجدل ولا للتردد ولا للشك ولا يحتمل نقيضاً، لأن النقيض، إنْ صَحَّ، يستحيل أن يكون قاعدة لسلوك إنساني ناطق. وهؤلاء هم المثاليون منقسمون على أنفسهم إلى حدسين وعقليين، يجعلون للمبدأ الخلقي خصائص وأشراط ويقولون جميعاً مع أرسطو :" إن من يعيش منعزلاً بغير مثل أعلى يدين له إمّا أن يكون إلهاً حقق في حياته أقصى مطالب الكمال، فاستغنى عن الإيمان بمثل أعلى تجرى بمقتضاه حياته، وإمّا أن يكون حيواناً لا يستطيع بحكم طبيعته البهيمية أن يعلو على واقعه في ظل مبدأ أسمى يدين له بالولاء". 

وكل اتجاه من هذه الاتجاهات المختلفة، يغلب على تفكير أمة من الأمم في حقبة زمنية معينة ما لم يكن هو الاتجاه الأغلب على الروح العامة لحضارة معينة من حضارات الأمم والأقوام : سادت الفلسفة التحليلية وفلسفة العلوم بلاد الإنجليز، وفي الولايات المتحدة الأمريكية تغلغلت الفلسفة البرجماتية النفعية، وغلبت المثالية الميتافيزيقية المتعالية على الفكر الألماني، وسيطرت النزعة المادية الجدليّة على شرقي أوروبا، في حين سادت الفلسفة الوجودية غربي أوروبا. وفي فرنسا بذرت ونمت وترعرعت اتجاهات عقلية صارمة، وتمكنت من بلاد الشرق الأقصى : الهند والصين وما جاورهما، النزعات الروحانية البحتة. فالثقافات الفلسفية موزّعة ومنوّعة باختلاف طبيعة العقلية التي تفرزها، وباختلاف المشارب والأذواق التي تكرع من معينها، وتستحسن منها الأنماط التي تتفق مع مقوماتها الحضارية.

وكل من أراد الله له أن يتتبع تطور المذاهب الفلسفية لا يمكن أن يحكم بسيادة اتجاه واحد من هذه الاتجاهات فيصبح هو وحده الروح الثقافية العالمية مهما كانت الثمار التي تجنى من ورائه رطباً جنياً، وكائنة ما كانت التطبيقات التي تطبق لأفكاره وتحقّق منجزاته. لكل أمة، ولكل حضارة ثقافتها ومعالم اتجاهاتها؛ فمتى تصبح هذه الثقافات ثقافة واحدة؟ ذلك هو السؤال الآمل الذي ترجوه فئات تدعو اليوم إلى ما يسمى بالعولمة  (Globalization)خصوصاً العولمة الثقافية منها، وهى انصهار الثقافات السائدة المتعددة في ثقافة واحدة هى الثقافة السائدة لأقوى الدول العالمية، وهى بالطبع الثقافة الغربية انطلاقاً من اعتبار أن العالم أضحى " كوكبة" صغيرة. وحين نقول إنّ العالم أصبح في عصرنا قرية عالمية ((Global Village صغيرة، أو مجتمعاً واحداً اختصرت التكنولوجيا مسافاته، فلا مجال لثقافات متعددة كانت سائدة في مجتمعاتها وفي أممها أن تحقق وجودها إزاء ما يسمى بالعولمة : التيار الكاسح والمدمّر لكل ثقافة يُراد لها أن تكون وعى أمتها، ولكل اتجاه مفترض فيه أن يؤدي رسالة.

هذه العولمة الفارغة إنما هى ضرب من التخليط يعكس حكم الطبيعة البهيمية، لا يقرّه أحد يفهم ما للإنسان من كرامة ووجود واستقلال وعقيدة وخصوصية؛ فإنّ هذا المسخ المتحلل من مقومات الحضارة، لا يؤدي إلى الشعور بالتعبْة تجاه كل شاعر بوعيه الروحي، ولا يؤمن به إلا نفرٌ شجبوا هُويّتهم ودهسوا الوجود الروحي بما فيه من قيم ودين وأخلاق، وعلوم وعقائد وآداب، بل بما فيه من مجموعة النظم المعرفية والأعراف السائدة والتقاليد المرعيّة والتي لا زلت تسود رغم نعيق الناعقين وحذلقة المتحذلقين.

إذا كان من حق هذه العولمة أن تركز على حرية الفرد بحيث يصبح متحللاً من كل القيود والأعراف المرعية، متحللاً من الدين وصولاً به إلى مرحلة العدميّة؛ ليكون الفرد أسيراً لكل ما يعرض عليه من مطالب مادية، ولكل ما تلاحقه به الشركات العالمية الكبرى التي تستغل حرية الفرد أسوأ استغلال بما تنتجه من سلع استهلاكية أو ترفيهية لا تدع للفرد مجالاً للتفكير في شيء سواها؛ لتصيبه بالخواء الروحي والجدب الخلقي والهزال المعرفي.         

أقول؛ إذا كان من حق هذه العولمة أن تفعل بالفرد أفاعيل القرود، فمن حقنا نحن أن نفرّق بين تلك العولمة الكاسحة المدمرة للفرد وللمجموع وبين العولمة في ظل حضارة الإسلام، وأن يكون تفريقنا قائماً على هدى من دعوة الإسلام. وليس من الواجب الديني في شيء أن نقف إزاء تلك التحديات مكتوفي الأيدي، دون مشاركة فعالة ومؤثرة، تتصدى لكل وجوه تلك العولمة المدمرة لجوهر الإنسان الروحي والمادي على السواء، وألا نعمل على تعديل مسارها وتقويم توجهاتها بما يضمن مصلحة الإنسان العليا بصفة عامة.

ومما لا خفاء به؛ إن الإسلام دعوة عالمية إلى الأخوة الإنسانية وإلى التسامح بين الأمم والشعوب في كل زمان ومكان. فالناس جميعاً إخوة، وإذا هم كانوا مختلفين في أجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم، فإنهم على الرغم من ذلك كله فهم ينتسبون جميعاً إلى أصل إنساني واحد :"يا أيُّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" (الحجرات :13). ولكن هذه الاختلافات في ضوء الوحدة الإنسانية الراسخة من شأنها أن تكون منطلقاً للتعارف والتآلف والتعاون لا للتنازع والتخاصم والشِّقاق.

ومن هذا الوجه، يستوعب الإسلام مفهوم العولمة الحقيقية كما يستوعب مفهوم المواطنة، وكلا المفهومين (العولمة والمواطنة) بالنظر إلى تعاليم الإسلام يهدفان، من تعميق النظرة، إلى نشر القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية، والحفاظ على كرامة الإنسان في كل زمان ومكان، ولكل البشر بغير استثناء، وتأكيد حق كل إنسان في الحرية والمساواة وحماية الأنفس والعقول والمعتقدات، والأموال والأعراض، وإقامة موازين العدل بين الناس وصيانة مؤسسة الأُسر، واحترام حقوق المرأة، ومنع الظلم والاستغلال والعدوان في كل أشكاله وصوره، وكلها مما يندرج تحت مقاصد الشريعة الإسلامية.

إننا لنؤمن ونقر ونسلّم بوحدة المعرفة البشرية في العقل العربي؛ فلئن كنّا نؤمن ونقر ونسلم بسيادة فلسفة بعينها في أمة من أمم العالم، فإنه لا يفوتنا إيماناً وإقراراً وتسليماً بأن العقل العربي كان حَوىَ صنوفاً من الاتجاهات، فجمع عدة أنماط تلاقت في إنتاجه وإسهاماته، كان أولاها وأهمها هو الوجود الروحي بما يتضمنه من قيم ودين وعقائد وآداب ومعاملات.

وكان ثانيها وأخصّها هو الثقافة الموسوعية وشمولية المعرفة أو ما نطلق عليه بوحدة المعرفة البشرية في إطار قيم الوجود الروحي. ومن ها هنا جاز لنا أن نقول، مع مفكرينا، إنه لا تعارض بين التقدم العلمي والأخلاق بالمقدار الذي لا تعارض فيه بين ثورة الوجود الروحي في بواطن الإنسان ودخائله وبين انجازات العقل البشري العلمية وإسهاماته في مجال التقدُّم التكنولوجي والتقني. وإنه؛ إذا قلنا بأن هناك غزواً ثقافياً آتياً إلينا من الغرب يجب أن نصم آذاننا ونعمي عيوننا عنه كما يحلو لكثيرين أن يقولوا به؛ فسينهض من واقع العقل العربي في ثقافته الموسوعية الشاملة شاهدٌ يكذب هذا القول ولا يثبته بل ينفيه.

فإنّ الانفتاح على ثقافات الأمم في التراث الإسلامي واضح للعيان، ولا يحتاج منا إلى مزيد تكرار وترديد. وإنما الإشكال الشاكل هو التنكر للماضي في جملته. والعولمة الفارغة من مضمون يحفظ للعقل العربي هُويّته وبصماته في جسد الحضارة الإنسانية، ويتشدق بها كثير من المتشددين والمتندرين، قد أخذت طرفاً واحداً من أطراف قضيتنا الكبرى : الأصالة والمعاصرة، والتي استغرقت جهود أكابر المفكرين طوال سنوات مضت؛ لتمده مداً مستفزاً يستخف بقدرات العقل العربي أيما استخفاف، ثم تغذيّه بروافدها وتطرق عليه بمطارق من حديد حتى ليتسع وينفرج ويستطيل، فإذا هو أمامك فاغراً فاه في جنون يسلبك أخص خصائصك وأدق مقوماتك وأقومها. 

ومن أخص خصائص الفلسفة، وفيما نراه نحن، هو استشراف المستقبل بحكمة معقودة على التوسط والاعتدال، حتى إذا ما سألنا أنفسنا عن الحكمة، أجابتنا عقولنا بأنها أخذ الأطراف المتباعدة ثم نسجها في نسيج واحد، يرفع عن جملة هذه الأطراف التي تبدو متباعدة كل تناقض واضطراب. فالحكمة من وجهة نظر العقل هى الأمر الذي يجيء وسطاً بين إفْرَاطَيْنِ يمثل بدوره اعتدالاً مشروعاً يجيزه المنطق المقبول، ولا يلفظه سوى أمرين : أحدهما يقع موقع التهور الذي يقودُ إلى التدمير. والآخر : يقع موقع الضعف والخنوع والاستسلام؛ فالرجل الذي يتنكر للماضي من التراث في جملته، هو عينه الرجل الذي يقع موقع التهور؛ ليطمس الهويّة ما لم يكن مُراده الفجاجة والتدمير. والذي ينظر إلى الماضي نظرة الإجلال والتقديس يظل طوال حياته ضعيفاً خانعاً ذليلاً مستسلماً لسلطان أسلافه الأقدمين، ولا يعرف له سلطاناً في عصره يلوذ به، ويقضّ مضجعه الخنوع والمذلة والضعف والاستسلام، فلا يقوى على المجابهة والتحدي في كافة الأحوال. أما أخذ الخيط المنسوج نسيجاً جديداً من طرفيه فهو من الحكمة التي نعالج بها أحلك الظروف.

وإذا أنت سألت قلبك عن الحكمة .. ما هى؟ أجابك بأنها الشيء الذي استقر في أعماقه قرارة اليقين، ووافق إشارة العقل، فما يقرُّه العقل من حكمة يتقبّله القلب إذا هو أراده، ورأى من واجبه قبوله وتصديقه ما دام الأمر أمر اتفاق بينهما (العقل والقلب) وموائمة من حيث لا تعارض ولا شقاق. وإذا اختلف الباطن في قرارة القلب مع الظاهر فيما يقرّه العقل، هنالك يقر الظاهر والباطن معاً ضرورة "الإحالة" إلى مرتبة أعلى لا يقع عليها فيما بينهما خلاف، فما تحكم به هذه المرتبة العليا حق سواء كان هذا الحكم لصالح العقل أو لصالح القلب.

تلك المرتبة هى البصيرة. والبصيرة : هى لب لباب الوجود الروحي في أصل عنصره الرفيع. والبصيرة ترادف الوعي المستنير، وما القيم والعقائد والآداب والأخلاق إلا قبس من نفس البصيرة الهادية والوعي اليقظ المستنير. ولأجل هذا؛ شاع في الفلسفة المثالية والروحية الإيمان بالروح الإنساني الأعلى الخالد، واعتبار الأمثلة العليا من أخص خصائص الفلسفة، والفكر، والتاريخ.

كان "ديكارت" يؤكد على أن : الفلسفة هى وحدها التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين، وأن حضارة الأمة وثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها. ولذلك؛ فإن أجَلَّ نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هى أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. وبهذه المثابة تصنع الفلسفة الفكر وتبني صرح التاريخ الذي تناط به أمجاد الأمم  من حيث ذاكرتها الواعية، ولا نعدم في عصور التاريخ وحضارات الأمم ثقافة روحية تكون هى السائدة وتقدر فيها أنشطة الوجود الروحي بمختلف جوانبها علمية كانت أو فلسفية أو أدبية أو فنية؛ فإن سيادة هذه الثقافة في أمة من الأمم مدعاة لإيمانها بقيم الوجود الروحي من جهة، ومن جهة أخرى مرهونة بارتفاع وجودها الروحي بين فئاتها أفراداً كانوا أو جماعات : في الفكر الشرقي القديم، مصر والهند وفارس والصين، ظهرت الفلسفة فشاع فيها تقدير الوجود الروحي والثقافة الباطنة.

وفي الحضارة اليونانية بلغ التفلسف ذروته بعد مرور عصور الديانة التي كانت متأثرة إلى حدِّ كبير بثقافات الشرق الأقصى. فالعقيدة اليونانية، من حيث تصور إله واحد وما يتفرّع عن هذا التصور من إيمان بعقائد البعث والآخرة، كانت أضعف العقائد التي عرفتها الأمم الشرقية بغير استثناء. فلم تكن مسائل الإيمان مطروحة من ضمن مبدعات العبقرية اليونانية؛ لأن اليونان، قبل ظهور الفلسفة، كانوا أخذوا المسائل الدينية عن الأمم الشرقية وعقائد الآسيويين والمصريين القدماء، ولم ترقْ بهم الفلسفة التي انفردوا بها، بعدُ، إلى تصور إله واحد يدينون به دوناً عن الوثنية.

إذا نشط فينا حضور الوعي بوجودنا الروحي عصب الثقافة الفلسفية كان ذلك علامة حسنة على يقظة الروح ونهضة الضمير وعلى نضج العقل وفتوة القلب، وهو كذلك علامة حسنة على الرجولة الحقة من وراء المظاهر والظواهر والأعراض بمقدار ما هو علامة حسنة على معدن الإيمان بما هو أخفى من المظاهر وأدق من الأشكال والأعراض.

ولا سبيل إلى حضور الوعي فينا غير ثورة الروح الباطنة من الداخل إيماناً منّا، فيما لو أردنا أن تقوم لها في حياتنا قوام؛ بأن أول أشراطها هو الاعتقاد بالقيم الباطنة، أعنى بالقيم الروحية الفاعلة والمحركة لوجودنا الروحي قبل المادي، والاعتقاد بالمبادئ الأخلاقية وفضائلها، وإنّ وراء هاته الشحوم واللحوم قوة حقيقية عظيمة، هى الإنسان على التحقيق، تحرك فينا كثافة الجسد وتوقظ شعورنا، إذا أردنا له اليقظة، بما هو أعلى وأرفع من أباطيل الاهتمامات.

وإننا إذا أردنا أن نكون بحق نافعين لا مضللين أن نقرن النظر بالعمل، وأن نبدأ بأنفسنا لا بالآخرين، وأن يكون سلوكنا شاهداً على ما نحمل من فكر أو ندِّون من تنظير. يوم أن تنشط فينا يقظة الروح فذلكم هو بعينه استنارة الوعي أو الوعي المستنير.

ولما كنتُ قلتُ إنّ أول أشراط هذه الثورة هو الاعتقاد بالقيم الروحية والمبادئ الأخلاقية وفضائلها، فإنما أردت أن أقول إنّ في قولنا باقتران النظر بالعمل فهماً للفرق بين "المبدأ الأخلاقي" و"الفضيلة الخلقية"، فقد نعلم جميعاً مبادئ الأخلاق، لكننا لا نأتي بفضائلها، ولا نتوخى على الحقيقة تطبيقها على أنفسنا، فإذا افترضنا أن صحة المبدأ الخلقي كامن في ذاته وهو أمر نظري مردّه إلى عقل العاقل حين يعقل من النظر ويفهم من التجريد، فإننا لا نفترض على الإطلاق صحة الفضيلة بغير تطبيق "المبدأ" وهو شيء مردّه إلى العمل وضوابط التسليك.       

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم