قضايا

"الكلمة".. مغزاها ورسالتها وتفسيراتها الاجتماعية

محمد العباسيرب كلمة تقال في غير مكانها فتكون سبباً في نشوب حروب طاحنة ومصائب وويلات خلافات بين الأمم.. وقد قيل فيما مضى "لسانك حصانك.. إن صنته صانك".. ويبقى السؤال عن سر هذه الكلمة التي تسمى "كلمة".. وربما نتفق على أن أقوى كلمة على الإطلاق هي كلمة "كن" التي خلق بها الله "آدم" ومنه خلق البشرية جمعاء.. ويسمى "عيسى ابن مريم" عليه السلام بـ "كلمة الله" كما هو مذكور في الإنجيل والقرآن: "إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ" (النساء 171).

لكن لنتمعن هذه الكلمة بفلسفة لغوية وننظر إلى مدلولاتها وما تنطوي عليه من معاني واستخدامات ومكنونات.. فيقال عن الرجل الحق أن كلمته لا تنزل الأرض.. وأنه صاحب كلمة.. أي أن رجولته ومصداقيته مرتبطة بالكلمة التي يتقولها.. إذا وعد أوفى وإذا هدد نفذ تهديده وإذا عاهد لم يخلف وإذا شهد كانت شهادته لا ريب فيها.. وفي المقابل يقال في ذم الرجولة أن فلاناً لا كلمة له.. أي لا اعتماد عليه في قول أو فعل.. فقد كان بين الأوائل الخيرين معاهدات وتجارات كلها تتم بكلمة.. وتكون تلك الكلمة نافذة لا تحتاج إلى اتفاقيات مكتوبة ولا شهود ولا عقود مختومة ومبصومة.. بل تكون الكلمة هي التي تفصل بين المتعاقدين.. وهي كلمة شرف واتفاق بين الرجال.

ويقال عن المرأة أن كلمة تبكيها.. وكلمة ترضيها.. وبكلمة تتم الزيجات.. وبكلمة يتم الطلاق.. ونقول عن الشخص الضعيف الشخصية أن " كلمة توديه وكلمة تجيبه".. فما هذا المفهوم الذي نختصر تعريفه في كلمة "الكلمة"؟  ما هي؟.. كيف تكون وتتكون؟.. يبدو لنا أن سر الكلمة عميق ويزداد عمقه كلما كانت ذات الكلمة الواحدة لها مدلولات متعددة، رغم أن كل كلمة في حد ذاتها تتكون من مجموعة من الأحرف أو بالأحرى من الأصوات.. يتم شبكها وتركيبها معاً في بوتقة معينة لتخرج لنا بشكل مقصود وبنغمة منتقاة لتعطينا مدلولاً ما، يعني بها المتحدث شيئاً معيناً ليس سواه.. لكن أحياناً تكون الكلمة مبهمة وغريبة وقد تحمل في طياتها معانٍ عدة تختلف حسب نطقها ونبرتها ونغمتها وما قبلها وبعدها من كلمات أو أصوات أو حتى إيحاءات جسدية.

الكلمة في أساسها هي تلك المنطوقة، وليست مجرد إيحاءات أو حركات عشوائية.. وهي المصدر الأول لتكوّن اللغات وكافة أدوات التواصل بين البشر.. وربما باتت لغة الإشارة بين الصم والبكم تعتمد على حركات تعكس الكلمات التي يعجز أصحابها بسبب الإعاقة من إصدار الأصوات المناسبة أو سماعها.  وفي هكذا حالات تكون الكلمات غير منطوقة.. لكنها تبقى لغة في حد ذاتها وأداة تواصل بذات الفعالية.. وقد تكون الكلمة مكتوبة أو منقوشة أو محفورة أو مطبوعة، وتحتفظ بذات الخاصية للكلمة المنطوقة بكل ما تنطوي عليها من معاني.. لذا ترك تاريخ القدماء لنا كلمات ونقوش خالدة عبر العصور.. وربما نجد كلمة منقوشة على جذع شجرة تعكس لحظة رومانسية ترك لنا أثرها عاشق ولهان.  وقد تكون الكلمة مرسومة بشكل فني زخرفي أو كلوحة فنية كما هو الحال عند الخطاطين والرسامين.. وقد ينقشها شخص ما على رمال شاطئ ويأتي المد ليمسحها عن الوجود للأبد.

ولا بد للكلمة أن تتكون من تلك الحروف أو الأصوات التي في شكلها وطريقة شبكها تعكس قيمة معنوية متفق عليها بين أصحاب لغة ما ومجتمع ما.. ولن تكون مجموعة الأصوات المنطوقة أو المكتوبة ذات قيمة إن لم تعني شيئاً لشخص ما.. لذا قد يتفق البعض على التواصل بلغة خاصة فيما بينهم كما هو الحال مع عمليات التجسس أو في حال الشفرات الخاصة المستخدمة بين الجنود والقيادات العسكرية للحفاظ على سرية التعليمات والمعلومات.. وهكذا كنا في فترات من سنوات المراهقة نتفق بين الأصحاب على كلمات وأصوات للتواصل فيما بيننا للحفاظ على سرية وخصوصية بعض الأحاديث.. لذا طالما كان للأصوات المنطوقة أو الحروف المكتوبة معني ولو بين شخصين فقط، يمكن اعتبارها لغة، وإن كانت استخداماتها محدودة.

وإن نطق شخص بأصوات لم يعي أحد (من البشر) لها معنى فهي لا تكون كلمة ولا لغة.. بل هي مجرد أصوات عشوائية.. كما الطفل الرضيع حين يصدر أصواتاً نحاول أن نفسرها ونجد لها معنى.. قد تكون محاولات في مسار اكتساب الطفل للتعبير ولكن تخونهم القدرة اللغوية التي لم تنمو بعد.. لكنها لن تكتسب الحق في تسميتها بالكلمات حتى نربط تلك الأصوات بمعاني معينة.. وكذلك قد يجادل البعض في الأصوات التي ترددها بعض الطيور المقلدة مثل الببغاوات مثلاً.. فهل هذه الطيور تردد كلمات مقصودة أم أنها مجرد أصوات؟  وهل يمكننا أن نعتبر الأصوات المكررة والذبذبات والنعيق والنهيق والصهيل والعويل والصفير والعواء عند الحيوانات والطيور هي كلمات ولغات بين الكائنات الأخرى، ولم نعي أسرارها بعد؟

و أحياناً قد نلجأ للتعبير عن حالة معينة بخلق "كلمة" جديدة بشكل عفوي حين يعجز اللسان أو الذهن من إيجاد التعبير الصحيح لموقف معين بالسرعة المطلوبة.. وإذا فهم البعض تلك الأصوات في حينها وأدت المعنى المطلوب منها، يمكن اعتبارها "كلمة" لحظية، فتكون عندها "كلمة" وينتهي دورها باستنفاد غرضها وينتهي مفعولها ولن تعود بعد ذلك كلمة معترف بها.  أما في الحالات الاعتيادية، فلكل كلمة متفق عليها أصل وجذر لغوي تنشأ منه الكلمة، ويمكن خلق كلمات عديدة من كل جذر.. وعادة قد يكون جذر الكلمات ثنائياً أو ثلاثياً وفي أحيان رباعياً.. وفي اللغة العربية يكون الجذر الثلاثي هو الأكثر شيوعاً على الإطلاق.

ففي في اللغة العربية مثلاً نأخذ الجذر (ق ت ل) ومنه نشتق ونستخرج كلمات حسب التشكيل وإضافة حروف وأصوات ونغمات لخلق كلمات تدل على الفعل والفاعل والمفعول به والصفة والمذكر والمؤنث والفرد والجمع والحاضر والماضي، وهكذا، مثل: قَتَلَ، قَتَلت، قُتِلت ، قُتِل، قاتَل، قاتِل، يقتل، قتيل، مقتول، قِتال، مقاتِل، تَقاتل، مقاتَلة، اقتتال، قتلوا، قاتلوا، وكلمة جامعة مثل سيتقاتلون، والأمثلة لا تنتهي.. ولو أردنا ترجمة كلمة مثل "سيتقاتلون" إلى اللغة الإنجليزية فلا بد لنا من كتابتها في جملة طويلة، تحتوي على فعل وفاعل (جمع) ومفعول بهم ودليل قيام الفعل في صيغة المستقبل!  وأحياناً نستخدم كلمات مستعارة من لغات أخرى ولا يكون عندنا في العربية حروف تدل على بعض أصواتها، فنضيف على حروفنا القريبة منها نقاط.. فنضع ثلاث نقاط على حروف مثل (ج) و(ز) و(ف).. أو نضيف حرف (ي) قبل الـ (ش) لتصبح (تشـ) لننطقه (ch-) أو خطاً فوق الـ (ك) لننطقه (g-).

يقول الأستاذ "سعيد سليمان" على موقع (أسارير مصرية): "اللغة بمفهومها العام تتركب من حروف تتكون منها أصول الكلمات ومعظم لغات العالم تتكون من جذور الكلمة ومقاطع لغوية أخرى ذوات دلالات محددة تضاف إلى تلك الجذور فتتكون منها المشتقات من جذر الكلمة.  ونحن في العربية لا نقول جذر الكلمة ولكننا نقول مادة الكلمة.  فكلمة ’اختبار‘ مادتها (خبر)، وكلمة ’توراة‘ مادتها (وري)، وكلمة ’إسماعيل‘ مادتها (سمع).  ونحن أيضاً لدينا بدلاً من المقاطع ما يعرف باسم الزيادة وهي أيضاً تتكون منها مقاطع تراكيب المشتقات؛ وهي حروف قليلة العدد عظيمة الأثر".

ولو عدنا لمصطلح "كلمة"، فنجد أن هذه الكلمة قد تعني خطاباَ حين يقول خطيب ما "سألقي عليكم كلمة".. فيلقي علينا محاضرة لها أول ولا يبدو لها آخِر.. ويقال هو "صاحب الكلمة"، فيكون الشخص المقصود هو صاحب الرأي والقرار الفاصل.. ويقال كلمة أخيرة وكلمة بريئة وكلمة جارحة وكلمة قوية وكلمة شرف وكلمة سر والكلمة العليا وكلمة مسموعة وكلمة جامعة وجوامع الكلم.. ويقال كلمة في مكانها وكلمة نهائية وكلمة لها ألف معنى وكلمة مبهمة وكلمة خادشة وكلمة نافذة .. وأيضاً يقال يتلاعب بالكلمات وانتظرنا منه كلمة وأعطيناه الكلمة الأخيرة والكلمة الطيبة صدقة.. بل قد يقول شخص "لدي كلام كثير لكنني عاجز عن إيجاد الكلمات".. ويبقى خير الكلام ما قلّ ودلّ.. وتبقى كلمة "كلمة" غنية بالمعاني الشيقة والاستخدامات المشتقة من جذرها الثلاثي (ك ل م).

وخير الكلام والكلمات هو كلام الله.. وفي القرآن الكريم كلمات كثيرة لا جذور لها، مثل أسماء بعض الأنبياء والملائكة والأماكن.. وتبدأ بعض السور في القرآن بحروف تبدو بدون نظام ظاهر في إطار علمنا الدنيوي.. وقد بقي معنى هذه الحروف مجهولاً منذ نزول القرآن الكريم.. فهي في اعتقاد البعض صفات لله، وفي اعتقاد البعض الآخر "لغة يوم الحساب أو الجنة".. لكن الذي لا شك فيه هو أنها اقترنت منذ نزول القرآن بالرموز وأنها تتضمن رسالة ربانية.. ويبقى معرفة معنى هذه الرموز وفك أسرارها يناسب عند المسلمين انتظاراً له علاقة، في آخر الزمان.. والغريب المعجز أن هذه الحروف مكتوبة في شكل كلمات.. والعلم عند الله.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم