قضايا

نهاية الايديولوجيا وموت المثقف

احمد شحيمطيمنحنا خطاب النهايات في الفكر المعاصر رؤية جديدة للمعرفة لانبثاق معطيات أخرى تتجاوز فلسفة الأمس عن الإنسان والنزعة الإنسانية في النظر للذات كوعي وحرية وإمكانيات الكائن الإنساني في قدرته على الفعل والتغيير . صورة نمطية مستمرة من اليونان وعصر النهضة والأنوار وأخيرا نزعات الفكر الفلسفي والتاريخي في الوجودية والماركسية والمثالية نحو اختزال الإنسان في طابعه الايجابي الذي يعني القدرة والفعل والحرية وصناعة التاريخ . هذا الكائن المميز ليس سوى صورة جديدة وانعطاف في تاريخ الفكر. يتلاشى بفعل الحتميات والبنيات المتحكمة في خطابه . عمره يقاس باللحظات المفاجئة والعابرة والتي ترسم ملامحه من جديد . ليس كائنا منفعلا أو صورة سلبية بل ذات تتلون بألوان العصر وفلسفته . خطاب النهايات يعكس صورة عن أفول النزعة الإنسانية وتشخيص للواقع الإنساني يعيد تكرار فكرة "موت الإنسان " ونهاية التاريخ والأيديولوجيا والمثقف والدولة ...

خطاب النهايات يعلن عن الاكتمال ويفتح افقأ جديدة للتفكير في ميلاد الإنسان برؤية أخرى . منتج الأدوات والأشياء ومحاط برموز وعلامات يجيد توظيفها في منح الدلالة والمعنى للعالم , ويصبح في قلب السؤال عن محدودية هذا الإنسان إزاء أفكار جديدة تجرفه نحو ما ترمي إليه من مرامي وأهداف.  فالايدولوجيا التي تعتبر نتاج الوعي المزيف في ظل هيمنة النظام الرأسمالي وفق تأويلات ماركس للعالم المادي مصيرها الزوال والتلاشي لأنها أضحت منفتحة على فلسفة جديدة شاملة الغايات والنوايا. والإعلان عن موت الايديولوجيا بمثابة النهاية للفكر الطوباوي والتصورات الحالمة . وان كانت الايديولوجيا في سياقها العام أفكار وتمثلات وتصورات سائدة في لغة السياسة والقانون والاقتصاد والفن والأخلاق أو تطابق بين البنية التحتية والبنية الفوقية في تعريف كارل ماركس فان الأفكار في نسبيتها لا تعبر بالشكل المطلق عن الواقع أي قابلية الفكر للتطبيق والممارسة أو يمكن أن تعكس الأفكار عالما مثاليا في تحديد النهايات كما في النماذج الحالمة من التصورات الخاصة بالقرون الوسطى عن الدولة المثالية في فلسفة القديس اوغوسطين(مدينة الله) وكامبانيلا (مدينة الشمس) أو المدينة الفاضلة في تصور أبو نصر الفارابي في الفلسفة الإسلامية. وجمهورية أفلاطون العادلة . نماذج لما يمكن أن يسعى إليه الفكر الإنساني في إقامة العدالة وتخليق السياسة ونزع الشر والحروب من العالم .

فرانسيس فوكوياما يترك للقارئ الانطباع من الوهلة الأولى أن نهاية الايديولوجيا يعني بداية عصر جديد للفكر المنفتح , وهيمنة الفلسفة الليبرالية في شقها السياسي والاقتصادي والثقافي يعني نهاية الحروب والصراعات وعولمة النموذج الممكن في التقليل من التوترات والحروب والزيادة في قدرات الدول وتمكينها من استلهام الفلسفة الليبرالية في خلق مناخ ديمقراطي وتوسيع مجال الحريات . يتشبع فوكوياما كثيرا بالفكر الغربي من ميادين متنوعة في فلسفة هيجل وسوسيولوجيا ماكس فيبر عن الفعل الاجتماعي والبيروقراطية والسلطة العقلانية الشرعية في تكريس بعد دينامي للممارسة والحكم ويفند آراء كل من نيتشه وكارل ماركس وما يتعلق بالفكر المضاد لليبرالية أي يلتمس جذور الفكرة من التراث الفلسفي والاجتماعي ويعتبر نهاية الايديولوجيا بداية اعتراف العالم بالحاجة للثقافة الجديدة التي تنقل العالم نحو الأمان والسلم دون صراعات وقلاقل . فالقراءة المادية للتاريخ والواقع ينهي الايديولوجيا الليبرالية وينعي الرأسمالية كنهاية حتمية . وعند فوكوياما نهاية التاريخ يعني القبول بالليبرالية كفلسفة في منتهى الإبداع لأجل الرفاهية والحرية وتخليص الشعوب من نيرالأنظمة الفاشية.

فالعالم مطالب أن يختار بين الخير والشر , إذن الديمقراطية الليبرالية انتصرت أخيرا والدولة الليبرالية وليدة عصارة أفكار الفلاسفة ورجال القانون من طوماس هوبس وجون ستيوارت مل وهيجل وجون لوك وماكس فيبر. أفضل عالم ممكن للعيش في سلام بمبادئ الديمقراطية الليبرالية. وإذا كانت النهايات حتمية بالنسبة للتاريخ والأيديولوجيا . فكيف يمكن الإعلان عن موت المثقف واختفائه؟ هل النهاية حتمية أم مجرد توسيع هامش الثقافة في عصر العولمة؟ يبدو أن صورة المثقف الحقيقي ذاك  الذي يحمل قضايا تخترق الحدود والحواجز . يدافع عن الإنسان ويطالب بالحرية في كل مكان يحس فيه الكائن الإنساني بالغبن والحيف . فالفيلسوف الوجودي سارتر في فرنسا تعاطف مع الثورات في العالم . في الجزائر كمثال ونقده الشديد لبلده فرنسا وشجبه للاستعمار والاستغلال في كتابه "عارنا في الجزائر " موقف يثمن المبدأ وثقافة الرفض للظلم . مواقف الفيلسوف سارتر استمرت بالفعل حتى في رفضه جائزة نوبل للآداب في 1964 بدعوى انه لا يكتب من اجل الجوائز بل يكتب للإنسان والإنسانية . فالمثقف إنسان حامل لهموم الأمة والمشاريع الكبرى في التغيير. هذا النوع من المثقف أصبح من زمن الماضي بدليل التحولات التي طرأت على أدواره . المناضل والناقد والرافض لكل هيمنة ووصاية سرعان ما تحول إلى أداة في خدمة الدولة والشركات المتعددة الجنسيات . يقدم دراسات واقتراحات عملية مفيدة في فهم السلوك والعقليات الخاصة بالاستهلاك . ويقوم بدراسات ميدانية واستطلاعية ويعمل في الأجهزة الأمنية كخبير أو مستشار للرصد والمراقبة .

فحينما يتحدث المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد في كتابة  "خيانة المثقفين " عن صورة المثقفين في صرخة جوليان بندا عن المثقف الذي تستهويه المصلحة الذاتية والمنفعة . عن الصورة التي تتداعى بفعل الواقع المر. هذا المثقف الذي نطلبه أضحى صورة من الماضي . أصبح الناشط السياسي والفاعل الجمعوي والحقوقي يتمتع بأولوية عند الجماهير . هذا الكائن الذي يعبر بالرفض والكلمات المسموعة في شبكات التواصل الاجتماعي هي الصورة المقبولة في ذهن الجماهير الواسعة . انه يتحرك من مكان لآخر . غير قابع في كهفه وعالمه الليلي بين طيات الكتب يقرأ ويرسم العوالم الممكنة لما ينبغي أن يكون . فالإعلان عن نهايته يعني نهاية صورة للمثقف وإعادة تشكيل صورة جديدة وفق مقياس ما ترسمه سياسة العولمة من تغيرات شملت الإنسان في كل أبعاده الفكرية والنفسية والاجتماعية وشملت أيضا نمط الحياة . وعلى العموم مهما قيل في خطاب النهايات فان للمثقف مكانة في توجيه العقول وبنائها باليات كالنقد والهدم والتفكيك وكل ما يميز الفكر الفلسفي المعاصر في رسم الممكنات للكائن الإنساني . هذا المثقف الذي يحمل في ذاته هموم الشعوب وحنين نحو التغيير وتثبيت مستقبل واعد يعتبر نفسه منبه للسياسة والممكن في الفعل والممارسة . المثقف التقليدي ينتهي ويختفي, فأصبح هذا المثقف يبحث عن ذاته في ركام الأحداث وينتقد العولمة والزمن الضنين في رتابته وانهيار قيمه الإنسانية . ويبكي الأطلال والزمن الماضي الذي كانت الوقائع مفهومة من ذاتها والعالم منقسم بين معسكرات وتيارات أما العالم الآني فهو أشبه بغابة التيه والدروب المعتمة والمتاهات.

عالم اللامعنى والفوضى والتفكيك للبنى وإعادة تشكيلها وفق ما ترسمه النخب وذوي السلطة والنفوذ في عالم السياسة والمال . فالعولمة تيار يخترقنا في بيوتنا وعاداتنا وتفرض علينا تجديد آليات الفهم للواقع والعالم وللشبكة المعقدة من العلاقات الإنسانية. "افعل مثلي إن كنت تتشبث بحقك في الوجود" وان كان المثقف يرفض هذه الشعارات فان الأمر كذلك يصبح مبالغة وتهويل من مخاطر العولمة والصواب يبقى قائما في حاجتنا للمثقف الأصيل وليس ذوي الميولات الانتهازية في اللعب والمراوغة لأجل مصالح البورجوازية والشركات المهيمنة وتمويه الرأي العام بخدمة المجتمع المدني والفئات المقهورة . نهايته بمثابة إعلان جديد عن مواصفات المثقف في زمن العولمة واقتصاد السوق وزمن التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية . كل الناس مثقفون وفق ما يقول انطونيو غرامشي على الوظيفة التي يؤديها الإنسان في المجتمع  والتي تمنحه صفة المثقف . أما المثقف المتعالي (التقليدي) القابع في أبراج عالية فهو مثقف سلبي لا ينخرط في العمل والتغيير نحو الأفضل ولا يعير اهتماما لإيقاع المواطن ونبض الشعوب التواقة للحرية والتحرر من نير الاستعباد والاستبداد بأشكاله . ويجب القول أن هذا النوع من المثقفين انتهى بالفعل وعودته مسألة مستبعدة. أما وضعية المثقف في العالم العربي فهي بالتأكيد وضعية صعبة يعيشها لذاته وبانخراطه في الواقع الاجتماعي . مثقف قطري ينشد التغيير للوطن ويتماهى في غالب الأحيان مع الدولة القومية في الدفاع عن الشعارات والتوجهات بالتزكية والقول الصائب أو نقد الآراء المضادة للخطاب الرسمي أو يعيش في برجه العاجي يرسم الخطط والأماني والأحلام في الأوهام وينتهي في غالب الأحيان إلى الاستكانة والانكماش على الذات .

يترك المثقف العربي الانطباع أن دوافع التغيير في إحلال الديمقراطية وفلسفة حقوق الإنسان يفتح علينا مجالا من الاحتجاجات وانفلاتا في الأمن أو يشعل شرارة العنف. ونعثر على المثقف الذي ينتمي لأحزاب لها مرجعيات ايديولوجية يسارية ويمينية وإسلامية تنطلق من قراءة الواقع بأمل أو مخاوف من الآني والمستقبلي . فالإرادة في التغيير للأوضاع الحالية التي يمر منها العالم العربي من عدم الاستقرار والتشتت من جراء تحالفات وتباين الرؤى والمواقف. هذا الاختلاف يترك المثقف العربي يعيش أوهام مخالفة بتعبير علي حرب. أوهام النخب أو المثقف العربي في استلهام ما في التراث من وميض يمنح الإنسان العربي العودة للجذور أو الانفتاح بشكل كلي على الحداثة الغربية والقطع مع التراث. فالمثقفون مشارب وتوجهات ينادي كل منهم بما يمكن أن يكون اجتراحا لمشاكل بنيوية يعاني منها العالم العربي من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية. وينشد هذا المثقف التغيير دون عملية جراحية استئصالية بمعنى طلب الإصلاح واللعب على أوتار السياسي والاجتماعي والقيمي دون انكسار البنية وخلخلتها في العمق من ترسبات الأزمنة المختلفة وتراكمات التاريخ . مطلب مستعجل في إصلاح ما يرمي إليه الواقع من اكراهات جمة أصبحت تهدد وحدة المجتمع وتماسكه . الإصلاح يملي على المثقف أن يكون حريصا في توصيل الفكرة والثبات عليها . لا بديل عن الإصلاح والالتفاف وراء الخطاب الهادف دون السعي وراء تقويض أركان المجتمع في شعارات راديكالية تنقلنا نحو حرب الكل ضد الكل والصراعات المميتة . فالطموحات التي يرسمها المثقف العربي كبديل عن الواقع ليست أوهاما على طريقة دون كيخوتي بل السعي الحثيث نحو فعل أشياء تنير الوعي العربي في أفق تحقيق الممكن للدخول في العصر . واستنبات ثقافة التغيير.

 

بقلم : احمد شحيمط - كاتب من المغرب

 

في المثقف اليوم