قضايا

العلاقة بين الأدب والفلسفة

الحديث عن الأدب الفلسفي يعني الحديث عن حقل من حقول الثقافة تجمع بين حقلين يكاد تواصلهما حاضرا ومؤثرا منذ زمن طويل، إلا إن المفهوم من المفاهيم المعاصرة، التي حاولت البحث عن حقل يجمع بين الأدب والفلسفة بنسب متفاوتة، إذ ارتبطت الفلسفة ومازالت ترتبط بمجالات فكريّة متعددة من ضمنها مجال الأدب.

على الرغم من الاختلاف الكبير بين المجالين من حيث اللغة والهدف ومجال الرؤى هناك سمات مشتركة تجمع بين هذين العالمين أهمها: أولا البحث عن الوجود وماهيته، والذات وسبر أغوارها، وثانيا في مدى ارتباطها بالكون وبأحداث عصرها المتغير.

على مستوى التعريف

1-  كلمة الأدب عبارة عن كتابة ''إبداعيّة'' أو ''تخيليّة'' ومنها الكلام البليغ الذي يؤثر في نفوس القرّاء سواء كان شعراً أم نثراً، ولقد تطوّر هذا المفهوم على مر العصور واتّخذ العديد من المعاني حتى تكوّن بهذه الصياغة وهذا المعنى.

2-  فيما مفهوم الفلسفة مصطلح الفلسفة هو مصطلح يونانيّ، إذ تعني الفلسفة حب الحكمة، وهي النظرة العقلانيّة والفكرة التجريديّة، والمنهجيّة في الواقع بشكلٍ عام، فضلاً عن الأبعاد الأساسيّة للوجود البشري والخبرة، وهي عنصر أساسيّ في التاريخ الفكري للكثير من الحضارات كما أنها دراسة لفهم كيفيّة الوجود، ومعرفة ما هو حقيقي وصادق، وجميل، ويشار إلى اهتمامها بكيفيّة تواجد البشر لمعرفة الحقيقة والأمور الصحيحة. إذ يعد القلق الوجودي، جسراً رابطاً بين الأدب والفلسفة، وقد جعل من رابطتهما، أكثر ثراء وحيويّة، في سياق البحث والسؤال، على صعيد التخيل الجامح أو التأمل العميق الراسخ سواء في أعماق الذات الإنسانيّة أم الموجودات .وفي كل هذا يستعين بجماليّة الصور وبراعة الاستعارة بعيداً عن المباشرة في التناول .

3-  فالأدب الفلسفي هو المنطقة الوسطى الجامعة بين مضامين فلسفيّة وأشكال تعبيرية تخيليّة شعراً أو نثراً . إن التكامل بين الأدب والفلسفة، يعد ظاهرة ملموسة في سياق ما هو منجز من الواقع الفلسفي، بوصفه علامة دالة على إنهما وجهان لعملة واحدة، مهما تباين الأفق بينهما؛ إلا إنهما في تواصل وتكامل: توصيفاً، وتشخيصاً، ونقداً؛ لما هو إنساني ثقافي على صعيد متخيل يأخذ بجماليّة المكان والمشاعر والعواطف الشفافة؛ عميقةً برموزها واستعاراتها وتناصاتها التي تفتح أفقا كبيراً، للقراءة والتأويل لتكشف ما هو مسكوت عنه وإنه ليس من الممكن البوح فيه .

ويمكن دراسة العلاقة بين الأدب والفلسفة من خلال نظريّة الأجناس الأدبيّة إذ يعزى الاهتمام في استعمال مصطلح الجنس الأدبي في الدراسات الغربيّة الحديثة إلى ظهور أجناس جديدة من التأليف الأدبي في اللغات الأوربيّة، وذلك في بواكير النهضة الأوربيّة في القرن الثالث عشر الميلادي في ايطاليا،ليتوسع فيما بعد إلى نظريّة الأجناس الأدبيّة التي تترجم بالفرنسيّة genres liter Aires يقابلها في الانكليزيّة literary speiesثم عدلوا عنها إلى  literary genres

ويعد نورثروب فراي التقسيم الثلاثي الذي وضعه القدامى ( الملحمي والدرامي والغنائي) هو المنطلق لنظريّة الأجناس الأدبيّة، وهكذا أصبحت نظريّة الأجناس المكان الذي يتحدد فيه مجال الأدب وتعريفه.

وهذا يقودنا إلى مفهوم الجنس الأدبي بوصفه مجموعة من الخصائص التي تحكم الممارسة الإبداعيّة .

أما نشأة الجنس الأدبي فهي قضيّة قديمة حديثة، تبدأ بالحديث عنه بوصفه رغبة فرديّة، ناتجة بصفة أساسيّة عن رغبة اجتماعيّة. وقد ظل الجدل دائرا حول إمكانيّة تحديد ضوابط معينه يمكن أن تسجلها من خلالها إن مهمة تمييز خصوصيّة جنس أدبي معين من غيره عسيرة ولكن يمكن الوقوف على مرحلتين أساسيتين:

المرحلة القديمة: التي بلغت ذروتها بالكلاسيكيّة الجديدة التي دعت إلى فصل الأنواع الأدبيّة بعضها عن بعض، إذ ينكفئ كل نوع من ضمن أسوار مغلقه لا يتراسل فنياً مع غيره وهذا هو المذهب الشهير ب”نقاء النوع” .

المرحلة الوصفيّة: التي ظهرت حديثاً والتي تفترض بإمكانيّة المزج بين الأنواع لتوليد أنواع جديدة . وهي المرحلة التي تميّزت بها الكتابات الحديثة التي تعطي انفتاحاً للنوع الأدبي كي لا يبقى منغلقاً على نفسه، بل تنظر إليه بوصفه نظاماً منفتحاً قابلا للتجدد والتكيف مع المستجدات.؛لذلك يمكن القول إن الجنس الأدبي الذي يزاوج بين أجناس متغايرة هو من أبرز منجزات الحداثة، التي تعلن إمكانيّة التلاقح بين أجناس مختلفة مما يدعو إلى إعادة النظر في توسيع حدود الجنس الأدبي وتكييف محدداته مع ظهور كل نتاج جديد بل والأكثر من ذلك الكشف عن الطرق التي تنتج وفقها النصوص وتستقبل وتتداول في المجتمع، ولاسيما أن الضغوط المستمرة التي تمارسها الأفكار المتصلة بالخلق والابتكار والذوق،ومتطلبات التلقي، تؤدي إلى تعديل تطوير هذا الدور باستمرار.

لعل في ظل هذه الظروف ظهر أيضاً الأدب الفلسفي الذي يدرس العلاقة بين الأدب بأشكاله الثلاثة والفلسفة من خلال التمييز بين الشكل / والمضمون إذ يعرف الأدب بشكله الجمالي فيما يتناول المضمون البعد الثقافي الفلسفي .

فدراسة الأدب في الأشكال الثلاثة: (الملحمي والدرامي والغنائي)، وتداخله مع الفلسفة ولد الأدب الفلسفي

أما المرحلة القديمة:

فالبحث عن التمايز بين الطرفين نجده من الناحية التاريخيّة يظهر في الثقافة اليونانيّة لدى كل من أفلاطون وأرسطو، إذ كان أفلاطون قد أكّد على التمايز والاختلاف بينهما على الرغم من انه كان كاتباً عظيماً في مجال الأدب كما يظهر في المحاورات، إلا انه على الرغم من هذا الأمر؛ إلا إننا نجده يعبر عن حالة من التضاد بين الأدب والفلسفة كونه رفض وجود الفن والشعر والشعراء في مدينته؛بحجة أن الفن عموماً والشعر خصوصاً يقومان على مفهوم المحاكاة واتخذ مفهوم المحاكاة مفهوماً دونياً؛ لأنه يحاكي العالم الحسّي والشعر عنده إيهام بالحقيقة، بينما الفلسفة ترتبط بالعلم أي بالحقيقة فأخذ مفهوم الأدب مفهوما دونياً قياسا على هذا المفهوم الذي بقي تأثيره في الفكر الإنساني لمدّة زمنيّة طويلة. يقول أفلاطون عن الشعر: (أن الشعر الجميل ليس من صنع الانسان ولا من نظم البشر، لكنه سماوي من صنع الآلهة . وما الشعراء؛ إلا مترجمون عن الآلهة).

فيجب أن تكون الملهاة "الكوميديا" متجهة إلى السخريّة من الأخلاق الذميمة، ولا يجب أن تظهر فيها إلا الطبقة الدنيا، أما الطبقة الارستقراطيّة، فيجب أن إلا تتمثل معلقاً في الملهاة، أما المأساة "التراجيديّة" فيجب أن تمثل العواطف النبيلة، وأن يكون كل أشخاصها ممن ينتسبون إلى الطبقة الارستقراطيّة لكل تمثلهما فيها من عواطف نبيلة .

إما أرسطو فقد نظر إلى الأمر من زاويّة أخرى في كتابه " فن الشعر"، عندما قدّم تصنيفاً إلى أشكال التفكير جعل البرهان في المقدمة ثم الجدل وتأتي السفسطة والتخيل في المرتبة الأخيرة فهذا التوصيف الأرسطي قد اثر كثيراً في الفكر الوسيط بعد أرسطو وقد تمت محاكاته .

واستناداً على هذا التصنيف تكون التراجيديا، أولا لأنها تحاكي بوساطة اللغة،وثانيها عملاً جليلاً لأنها تحاكي أناساً فضلاء وتظهرهم بأخير مما هم عليه،وثالثاً: دراما لأنها تقوم بتصوير الشخصيّات، وهي تفعل وتنشط دونما تدخل من قبل الأدب . ونجد أن التأثير اليوناني ترك أثرا في الفلسفة الإسلاميّة؛ فان مفهوم المحاكاة فقد فهم نقاد العرب المحاكاة أنها مرادفة للمجاز إي: (التشبيه والاستعارة والكنايّة) يقول ابن رشد " والمحاكاة في الأقاويل الشعريّة تكون من قبل ثلاثة أشياء من قبل النظم المتفقة ومن قبل الوزن ومن قبل التشبه نفسه وهذا قد يوجد كل واحد منها مفرداً عن صاحبه مثل وجود النغم في المزامير والوزن في الرقص ، والمحاكاة في اللفظ . وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها ، مثلما يوجد عندنا في النوع الذي يسمى الموشحات والأزجال .

أما البحث عن المشتركات بين الأدب والفلسفة نجد إن العلاقة بين هذين المجالين المعرفيين قديمة قدم بدايات التفكير الإنساني وإدراك الفكر قضايا الوعي بالذات والعالم . مثلما نجد إن الإنسان قد مارس التفلسف منذ القدم، وذلك سعياً منه لفهم أبعاد وجوده بكافة مستوياته الأخلاقيّة والمعرفيّة والاجتماعيّة، بالمقابل نجد أيضا، أن الأدب احتفظ لنفسه بإيقاع ومنطق خاص به، فالكتابة الأدبيّة باعتبارها شكلا خاصا من أشكال التعبير، سواءً كانت شعراً أو مسرحاً أو روايّة، لها تراثها ورموزها وأشخاصها الذين صاغوا معالم الفكر الإنساني بجانب الفلاسفة . وبالآتي يصح القول أن هناك تداخلاً بين المجالين على الرغم من اختلافهما في مجال التعبير فالأدب يعتمد التخييل في التعبير عن موضوعاته معتمداً على " الكلام الإشاري" كلام دال على المجاز أو مضمر لفظه أو مشتبه معناه" نجد بالمقابل أن الكتابة الفلسفيّة تعتمد على كتابة العبارة، فالعبارة هي "لفظ محكم تركيبه ودلالته"، فالعبارة - هي أساساً-  كلام يلتزم بضوابط العقل المجرد، وهذه اللغة العباريّة ذات الدلالة المحدّدة والواضحة هي مدار اشتغال الفلسفة، في حين أن الإشارة التي هي بالأساس "كلام ينفتح على رحاب الخيال المجسد"، هي مدار اشتغال الأدب والشعر.

وعلى الرغم من هذا الاختلاف بين الأدب التخيلي الاشاري المجازي والفلسفة بكلامها المعتمد على العبارة ذات الدلالة المحددة والواضحة؛ إلاإننا نجد التواصل حاضراً وعميقاً بين الفلسفة والأدب، إذ الفلسفة باعتبارها بحثاً عن الحقيقة تتوسل باللغة والأدب يبني عالمه على اللغة أيضا.

فاللغة هي القاسم المشترك بين المجالين ولكن ليست اللغة فقط وإنما هناك علاقة أخرى تجمع بينهما وهي علاقة معرفيّة فما تتوصل إليه الفلسفة يجسّده الأدب بأجناسه المختلفة من: (شعر وقصة وروايّة ومسرح) فقد تأثّر الأدب بالرؤى الفلسفيّة على مرّ العصور كما استعمل الفلاسفة بعض الأجناس الأدبيّة للتعبير عن نظرياتهم الفلسفيّة كما تمثّل في محاورات سقراط مع تلاميذه وفي غيره من الأعمال الفلسفيّة التي اتّخذت من الأجناس الأدبيّة حقلها المعرفي .في الدراسات المعاصرة والظرف الذي انبثق فيه مصطلح الفلسفي في ظل الحداثة وسعيها إلى البحث عن العقلانيّة في الخطاب، ويحاول البحث الكشف عن نقاط مشتركة بين الطرفين وأشكال العلاقة والتداخل بين عالم الفلسفة وعالم الأدب فهناك أشكال متنوعة بين الطرفين فهناك تداخل كلي وآخر جزئي مثال على هذا في الشعر مثلا نجد هناك تداخلاً جزئياً في الشعر الذي يعتمد على مقولات ومفاهيم مستقاة من الفلسفة ما نجدها في شعر المتنبي مثلاً، يقول المتنبي:

"خليلك أنت "لا من قلت خَلّي    وَإنْكًثُرَ التَمدّحُ والْكَلامُ

وهناك تداخل أعمق مثلما نجده في شعر المعري (973- 1057)م،الذي اتّخذ بعداً أعمق حتى وصف بالموقف الوجودي، من مؤلفاته "سقط الزند: وهو مجموعة قصائد و" اللزوميات " في الفلسفة العلائيّة و"رسالة الغفران "في قصة إلهيّة طريفة ، كان يقول:

فإني وجدتُ النفسَ تبدى ندامةً /على ما جنته حيناً يحضرها النقلُ

وإن صدئت أرواحنا في جسومنا /فيوشك يوماً أن يعاودها الصقلُ

ونجد التداخل يزداد فيضعف جماليّات الشكل ويزداد المضمون هيمنةً في الشعر الصوفي فهو يعتمد الشعر في التعبير عن تجربة باطنيّة روحيّة تحاول التعبير عما لا يمكن التعبير عنه من رؤيّة روحيّة حدسيّة، لننظر إلى هذا القول للبسطامي:في (الأحوال)

- آخر نهايات الصديقين أول أحوال الأنبياء،وليس لنهايّة الأنبياء غايّة تدرك .

- للخلق أحوال، ولا حال للعارف؛ لأنه مُحيت رسومه، وفنيت هويته بهويّة غيره، وغُيبت آثاره بآثار غيره .

- نهايّة الصديقين أول أحوال الأنبياء .

ثم يزداد الأمر إذ يهيمن المضمون على الشكل في قصيدة ابن سينا في " العينيّة "؛ إلا أننا هنا نلمس أن الشكل الأدبي غدا ( وعاءً لشرح فكرة فلسفيّة ويكون العمل فلسفيا قبل كل شيء)

هبطتُ إليك كم المحا الأرفعُ        ورقاءُ  ذاتُ  تعززٍ  وتمنّعُ

محجوبةٌ عن كل مقلةِ  عارفٍ       وهي التي سفرتْ ولم تتبرقعُ

اما المرحلة الثانية:

إذ يعزى الاهتمام في استعمال مصطلح الجنس الأدبي في الدراسات الغربيّة الحديثة إلى ظهور أجناس جديدة من التأليف الأدبي في اللغات الأوربيّة، وذلك في بواكير النهضة الأوربيّة في القرن الثالث عشر الميلادي في ايطاليا،ليتوسع فيما بعد إلى نظريه الأجناس الأدبيّة التي تترجم بالفرنسيّة genres liter Aires يقابلها في الإنكليزية literary speiesثم عدلوا عنها إلى literary genres

ويعد نورثروب فراي التقسيم الثلاثي الذي وضعه القدامى:ا(لملحمي والدرامي والغنائي) هو المنطلق لنظريّة الأجناس الأدبيّة، وهكذا أصبحت نظريّة الأجناس المكان الذي يتحدد فيه مجال الأدب وتعريفه.

وهذا يقودنا إلى مفهوم الجنس الأدبي بوصفه مجموعةً من الخصائص التي تحكم الممارسة الإبداعيّة.

أما المرحلة الثانية أي الوصفيّة:

التي ظهرت حديثا والتي تفترض بإمكانيّة المزج بين الأنواع لتوليد أنواع جديدة . وهي المرحلة التي تميزت بها الكتابات الحديثة التي تعطي انفتاحا للنوع الأدبي كي لا يبقى منغلقا على نفسه، بل تنظر إليه بوصفه نظاماً منفتحاً قابلا للتجدد والتكيف مع المستجدات.لذلك يمكن القول إن الجنس الأدبي الذي يزاوج بين أجناس متغايرة هو من أبرز منجزات الحداثة، التي تعلن إمكانيّة التلاقح بين أجناس مختلفة مما يدعو إلى إعادة النظر في توسيع حدود الجنس الأدبي وتكييف محدداته مع ظهور كل نتاج جديد بل والأكثر من ذلك الكشف عن الطرق التي تنتج وفقها النصوص وتستقبل وتتداول في المجتمع، ولاسيما إن الضغوط المستمرة التي تمارسها الأفكار المتصلة بالخلق والابتكار والذوق،ومتطلبات التلقي، تؤدي إلى تعديل تطوير هذا الدور باستمرار.

لعل في ظل هذه الظروف ظهر أيضاً الأدب الفلسفي الذي يدرس العلاقة بين الأدب بأشكاله الثلاثة والفلسفة من خلال تميز بين الشكل / والمضمون إذ يعرف الأدب بشكله الجمالي فيما يتناول المضمون البعد الثقافي الفلسفي .

فدراسة الأدب في الإشكال الثلاثة: (الملحمي والدرامي والغنائي )، وتداخله مع الفلسفة ولّد الأدب الفلسفي وهذا يظهر أيضا في دراسة القصة والشعر والمسرح إذ نلمس مضامين فلسفيّة على مستوى الموضوع رافقت ظهور تلك الأجناس ونموها وخصوصاً الروايّة .

وقد ظهرت اتجاهات حديثة في العلاقة بين الشكل والمضمون منها ما جاء به " كانط "(1724- 1804)م وتعد آخر المحاولات الفلسفيّة الكبرى لإرساء قاعدة نظريّة (منطقيّة ) للفن الخاص أو " الفن للفن " .أساسا كل خبرة جماليّة في رأي كانط هو الانسجام القائم بين الفهم والمخيلة . لكن لو نظرنا للعمل الفني في ضوء ثنائيّة الفردي والجماعي (سوف نجد العمل الفني فردياً وجماعياً فالوقت معاً فهو تنظيم لتجارب لم تقع الا لهذا الفنان لكنه تنظيم في سياق الإطار ذي الأصول اجتماعيّة الذي يحملها الفنان ويتخذ منها عاملا من أهم عوامل التنظيم)

لكن الحديث عن الأجناس يجعلنا نتوقف عند مشكلة التجنيس بوصفها ظاهرة في التاريخ الأدبي المعاصر،وعاملا نصياً بصورة خاصة تبقى قائمة مع انتشار ظاهرة ما بعد الحداثة التي شكلت خرقاً واضحاً لكل معطيات الحداثة ولا سيما التداخل بين الأدبي والثقافي واللغوي؛ لأن “ما بعد الحداثة صورت اختلاط الأجناس،واختلاط النصوص،واختلاط القراء والنصوص” ولاسيما أن تشكل الأجناس النظريّة في مخيلة الناقد هي جزء مما يمكن تسميته بالمنطق البراغماتي للتجنيسHmogeneisa،هذا المنطق يشكل ظاهرة إبداعٍ وتلقٍ نصيّة تختلف من ناقد إلى أخر، إلاأنّ أي معالجة لإشكاليّة الهويّة الأجناسيّة في خضم الأعمال الأدبيّة ينبغي إن تأخذ بنظر الاعتبار عاملين أساسيين:

احدهما: إمكانيّة الاختلاف بين سياقات عملين أدبيين،حتى وإن كانا يحملان التسميةالأجناسيّة الواحدة .

ثانيهما: يتجلى في إمكانيّة تجدد النص عبر سياقات مختلفــة ومتباينة . ولذلك يمكن القول ان " الهويّة الأجناسيّة لنص ما تعد أحياناً والى درجة معينة قابلة للتغيير سياقياً بالمعنى الذي ترتهن في المجال غير النصي، وبشكل أوسع بالمحيط التاريخي الذي يحكم ولادة النص،والذي يحكم إعادة نسيجه كفعل تواصلي ".

من الممكن أن نجد جذوراً لهذا الموقف عند الفيلسوف الألماني الشهير فيردريك نيتشه، الذي أشار في كتابه الذي حمل عنوان "ولادة التراجيديا" إلى أنه من الضروري على الفلسفة أن تحدّ من التفكير المنطقي الصارم، وتعود إلى الجانب الوجداني الذي يمثله أسلوب السرد الروائي، داعياً إلى (العودة إلى ما يعتمل في أنفسنا من عناصر بدائيّة للارتساف من نبع العاطفة.. حتى ولو أدى ذلك إلى تحطيم الفكر التحليلي).

فلسفة ما بعد الحداثة:

جاء التحول في الفكر الغربي مع بعد الحداثة بتحول مهم في جدليّة العلاقة بين الفلسفة، فقد تحوّلت الفاصلة بين المجالين المعرفيين الفلسفي والأدبي قد شهدت ذوباناً وتلاشياً مع فلاسفة ما بعد الحداثة، الذين عُرفوا بنقدهم الشديد للثنائيات التي هيمنت على تاريخ الفكر الفلسفي من قبيل: ثنائيّة الروح والجسد، والفرد والمجتمع، والحريّة والحتميّة. وجاء هذا بعد نقد ليوتار للعقل والذات العارفة . تجاوز فلسفة مابعد الحداثة، التمركز حول دوائر العقل لتهتم بالأطراف والهوامش، فتصبح هذه المطالبات شاغلاً فلسفياً يرتبط بتجاوز التقليدي وخلخلة يقينياته . فقد احتلت اللغة مكان مهم إذ أصبحت (المفتاح السحري لأغلب الفلسفات المعاصرة، ومنها البنيويّة)، فقد مثلت اللغة النبع الصافي للفلسفة والأدب، وهما يحققان الكثير من الأحلام البشريّة، ويؤكدان على، أدبيّة السرد الفني في مراميه عبر التخيل والعاطفة عبر تماسكهما وانسجامهما؛ وصولا إلى مقاصد عميقة تعبر عن رهانات عقليّة ورمزيّة.

على الرغم من تمردهما على أشكال التعبير الفلسفي، فإن طاقة استعمالهما للغة تبقى ذات أفق إبداعي فلسفي .وهذا اخذ أبعاداً جديدة في ظل تحولات ما بعد الحداثة التي قامت على الانتفاض على كثير من المعايير العقلانيّة الصارمة، وكان من بين تلك التحولات خصوصا في مجال الأدب إذ تم كسر الحواجز بين الأجناس وقد تم المزج بين أسلوب السرد الروائي واللغة الشاعريّة من جهة، وبين اعتبارات السؤال والمقاييس الفلسفيّة من جهة أخرى .فأصبح النص (سلسلة من العلاقات مع نصوص أخرى)، قائمة أساساً على أساس مفهوم الاختلاف وهو (مفهوم متجذر في صلب ديناميّة رحك الكائن الواحد).

ولعل هذا جعل تلك الرؤية الجديدة تنفتح على النصوص المعرفيّة كالتصوف الذي عرف (المتصوفة قد نزعوا نزعة ذاتيّة عميقة، وأنهم يتّصلون بعالم ماوراء الحسً ويحاولون أن يصلوا بقلوبهم ومشاعرهم الى ما لايتسنى للعقل والحواس الوصول إليه، او قد اطمئنوا إلى ما وافقهم به أذواقهم من معاني وما صورت به عالم مافوق الواقع من صورة أن يدللوا عليه إن عالمهم هذا العالم الحق وان ماعداه هو الباطل) فهذا الانفتاح نلمسه في نيتشه الذي مهد الطريق لما بعد الحداثة عندما كان قد قدم فلسفته بصورة سرد روائي في عمله الشهير "هكذا تحدث زرادشت"، وهكذا جاءت التحولات تلك إلى دفع الفلسفة إلى انتهاج مسار مختلف هذه المرة عندما عمدت إلى تجاوز حالة السكون والثبات صوب ما هو معاش من حياة الراهن بكل تحولاته وصيرورته مما دفع الفلسفة إلى إن تدخل في النقد الذاتي وتتورط بالمراجعة لذاتها من أجل تجاوز غربتها عما هو معاش، وقد أسهم هذا إلى حد كبير في بلورة فهم معقول للواقع وتحولاته .ونقد الدوغمائيّة العنيفة المتطرفة .وكان لابد لهذا التحول الذي أصاب الفلسفة أن يصيب الأدب ومن الشعر الذي كان يمثل لغة خاصة به . إلا إننا نلمس ذلك على الرغم من إن التعارض بين الشعر إذ الاستعارة الشعريّة هي (ليس مجرد تغيير في المعنى، أنها تغيير في طبيعة أو نمط المعنى انتقال من المعنى المفهومي إلى المعنى الانفعالي)، لكن على الرغم من هذه التحولات العميقة؛ إلا أن هناك من يرى أن الأدب يبقى متأثراً بأنماط التفكير (وهذا ما يفتح أمامنا ملف تطور أساليب النثر الحديث التي مازالت الآن تتنوع لا بحسب الحاجات الفعليّة، وانما بحسب نمط التفكير السائد خلفها) .

 

د. عامر عبد زيد الوائلي

 

في المثقف اليوم