قضايا

توفيق آلتونجي: العلاقات العائلية وإشكالية الانتماء الثقافي

البعيد عن العين، أبعيد أو قريب عن القلب؟

 القرن الحادي والعشرين جاء بتغيرات جوهرية من الدرجة الأولى في حياة البشر وأسلوب المعيشة. بدأت تلك التغيرات مع الثورة الصناعية والاكتشافات الكبيرة والتطور العلمي مع نهايات القرن التاسع عشر. كل ذلك اثرت على العلاقات بين ابناء المجتمع وداخل العائلة الواحدة. جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى لديهم من الذكريات التي لا تشبه أبدا بذكريات جيل اليوم. التطور التقني الكبير في عالم الاتصالات  واختراع التلفون الارضي ومن ثم الجوال ووسائل الاتصالات عبر الانترنت وسهولة السفر بين البلدان البعيدة و مع تطور أدواتها أدى إلى سهولة التواصل بين البشر وصولا إلى ما يسمى اليوم بالقرية الكونية.

 كانت أيام زمان العلاقات الأسرية وروابط القرابة محكمة وحتى حين يكون خصام بين شخصين أو طرفين كانت هناك دوما حلول يرضي الطرفين. كانت هناك كذلك دوما طرفا ثالثا في حل النزاع. ففي العلاقات البشرية تكون الخصام خالة طبيعية في عدم توافق الآراء ونتيجة مباشرة للجدال والنقاشات بين البشر. قد يكون الخصام ضمن أبناء العائلة أو الأقربون ومن ثم بين العشيرة الواحدة وقل تنتقل لتكون بين عدد من العشائر وحتى بين القوميات المختلفة داخل الدولة أو مع الدول المجاورة. لكن في الماضي كانت هناك منظومة اجتماعية تدير الحوارات وفي النتيجة يتم الصلح. بين القبائل المتنازعة أو بين الأشخاص. كان لديوان القوم والعشيرة مكانة مهمة في تمتين عرى الصداقة ونشر المحبة بين الناس. كان لشيخ القبيلة دورا مهما في تمتين أواصر العلاقات بين أبناء العشيرة. كانت المؤسسة الدينية أيضا تقوم بدور النشاطات بين المتنازعين بالإضافة إلى وجود المحاكم المدنية والشرعية.ز كانت الجوامع ملتقى لأداء الشعائر الدينية ولها دورا اجتماعيا كذلك. إما المقهى فكان بالإضافة إلى دوره كأماكن للترفيه عن كاهل المواطن له دور مهم في الجمع بين الناس والتصاهر وحتى إجراء العقود التجارية وفك المنازعات.3430 توفيق التونجي

الدور الحضاري لجميع تلك المؤسسات خرجت إلى الوجود مع سقوط الدولة العراقية اثر الاحتلال دول التحالف وأسقط النظام فيها عام ٢٠٠٣. أي أن تلك المؤسسات عادت إلى أداء نفس أدوارها السابقة وقد كان الإنكليز في احتلالهم وانتدابهم للعراق إبان وبعد الحرب العالمية الأولى قد ذكروا تلك التركيبة العشائرية للمجتمع العراقي الذي أبدع  د. على الوردي في وصفها في لمحاته الاجتماعية. الغريب أن في الاحتلال الأخير أي في عام ٢٠٠٣ كان نفس ذلك التركيب العشائري لا يزال حيا وأعيد إليه النشاط خاصة التركيب الديني ورجال الدين بعد أن كانوا لفترة وجيزة من تاريخ العراق بعيدون من الساحة السياسية الفعلية ويؤدون دورهم الطبيعي في المجتمع ويؤدون دورا محددا اجتماعيا و دينيا.

إما على مستوى العائلة فقد كانت التواصل قويا بين أبنائها من ناحية ومع الأقرباء وأبناء العشيرة كذلك وكان العديد من الأجيال يسكنون ويعيشون طول حياتهم في بيت واحد. صعوبة المواصلات كانت تؤدي أحيانا كثيرة في صعوبة التواصل بين أبناء العائلة خاصة لموظفي الدولة المعتقلين بين المدن جراء متطلبات عملهم. كانت الحالة أسوء القرويين اللذين يعيشون في مناطق نائية والتي لا تربطها مع المدن حتى الطرق المبلطة. كان القروي يعيش طول حياته في قريته دون أن يرى المدينة.

 إما المدينة فلم تكن كبيرة إلا قياسا بالنسبة للقرية خذ مثلا مدينة طوز خورماتو كانت تعتبر مدينة كبيرة بالنسبة إلى أبناء قرى منطقة افتخار المحيطة والقريبة منها، مثلا. لذا كان العديد من أبناء القرى المحيطة لمدينة كركوك لم يشاهدوا حتى كركوك نفسها طول حياتهم. إما العاصمة بغداد فكانت حلما وربما كنا نجد أحدهم قد حج إلى الحجاز يتجمع الناس حوله التبرك وسماع الروايات عن تلك السفرة المتعبة والشاقة إلى مدينة النبي صلوات الله عليه وسلامه وموطن هبوط الوحي وللعلم كان الحاج يتوجه أولا إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف قبل أن ينعطف ويتجه جنوبا إلى الحجاز.

العالم الجديد الذي نعيش فيه اليوم اثر على تكوين العائلة. في الثقافة الغربية نجد ثقافة الأنا إي إن الشخص فقط مسئول عن أعماله ولا ينعكس تلك الأعمال على العائلة. المجرم في العائلة مسئول عن أفعاله بنفسه ولا يجلب العار للعائلة. إما في ثقافة الشرق " ثقافة نحن" فان الفرد جزء من الكل إي كل اعمله من خير أو شر ينعكس مباشرة على العائلة.

هذا الخلاف الجوهري ينعكس على مجمل العلاقات الإنسانية. صلة الرحم ونقصد به طبعا بين أبناء العائلة من المقربين وممن تربطهم رابطة الدم والانتماء. هذه الرابطة مختلفة كذلك هنا في الغرب. نحن لسنا هنا بصدد التقييم وإصدار الأحكام على الصحيح من تلك العلاقات والخطأ منها. لأنني كما أسلفت لا يمكن التقاء ثقافتين متناقضتين من حيث المبدأ. الجدير بالذكر إن هناك اختلافا واضحا بين الجنسين. بناتنا أكثر التصاقا بالعائلة من الذكور مثلا. تحاول جاهدا الزواج من نفس ثقافتها طبعا إذا أمكن ذلك. بالإضافة إلى ذلك تبقى على صلة وارتباط مع عائلتها. الذكور أكثر ثورية ويحبذون الانتقال وهجر العائلة وهناك دوما استثناء لكل قاعدة.

المهاجرين من العراقيين والقادمين من دول الشرق عامة يحتارون في انتمائهم الثقافي فهم ذو ثقافة شرقية في مجتمعاتهم في الغرب ولكنهم حين يزورون وطن أجدادهم ينظر إليهم بعيون ملئها الشك ويراقب كل حركة وكلمة ينطقون بتا وأخيرا يقولون لهم:

 انتم تغيرتم بعد الهجرة وترك اوطانكم والعيش في الخارج.

لكن طبعا هذا صحيح فهم يفكرون بالعلوم التربية التي حصلوا عليها في مدارسهم ومنذ أيام الحضانة في الغرب. وتأثروا بتلك التربية والتعليم التي حصلوا عليها ومختلفون مع أبناء البلد  لأنهم  تربوا ضمن العائلة الشرقية التي تسود فيها الأعراف ومبادئ الدين ورموز الثقافة الشرقية. لا ريب إن الانتماء والتربية الدينية أؤثر في سلوكهم كذلك خاصة ن يخص العبادات والشعائر. لعدم إلمامهم الكامل باللغة العربية. من ناحية ومن ناحية أخرى اختلاطهم مع العديد من الثقافات لمواطني الدول الأخرى من المهاجرين. هذا الاحتكاك يؤدي إلى تغيرات عديدة في تحليلهم و رؤيتهم إلى الأمور. إشكالية الانتماء الثقافي يولد حاجزا بينهم وبين اقرأنهم من أقربائهم في وطن إلام وهنا اقصد العراق. ختاما قد يتسائل المرء هل يمكن العودة الى ما كانت عليها اواصر المحبة والتضامن في العلاقات الاسرية وبين الإخوان والأقرباء ام انها تبقى كموروث ثقافي للامم. الجواب على هذا التسائل ومع الاسف سيكون بالنفي ليس فقط لان سلم التطور الانساني والتقني في الكون ياخذ مسارا صاعدا الى الاعلى ولا نرى وجود أي نقطة رجوع في الافق خاصة في المجال التقني العلمي والتطورات الحديثة في عالم السفر الى الفضاء واكتشاف المجهول. ليس هذه الإجابة من باب الياس بالمستقبل لكنه من الناحية العلمية لا عودة الى مجتمعات الماضي (الجميل) الابايقاف التطور العلمي والتقني في المستقبل. فكيف لنا في عالم يعيش جزء منه في مجرات بعيدة ويفصلها مع الارض سنوات ضوئبة ان نتصور العلاقات الأسرية الحميمة مثلا. واليوم  كيف نقنع الشاب وحتى الطفل الذي بيده احدث تلفون خلوي بان الجلوس حول صوبة (مدفئة) علاء الدين

والتمتع بمشاهدة فلم اسود ابيض في التلفزيون افضل من عالم الانترنت و وسائل التواصل الاجتماعي.

يبقى ان نعلم بان استمرارية الموروث الثقافي الديني في المستقبل خاصة في دول الشرق ستبقي على حميمة بعض العلاقات الأسرية خاصة في المناسبات الدينية والأعياد.

***

د. توفيق رفيق آلتونجي

...................

* الصورة لأحفادي - الأندلس

في المثقف اليوم