قضايا

وسام حسين العبيدي: ضرورة الوعي الثقافي في استلهام الحدث التاريخي

الاحتفال بالأحداث التاريخية مهم جدا للشعوب، والجماعات البشرية، أيا كان انتماؤها الديني أو الثقافي، أو السياسي، أو غيرها من الانتماءات، لما في ذلك الاحتفال من احتفاء برمزية الحدث وأثره في صياغة الوعي وتكامله عند هذه الجماعة أو تلك، بما يجعلها - الحدث- أكثر فهمًا للواقع الذي تعيشه الجماعة/ الأمة/ الطائفة/ الأقلّية، واستيعابًا للمتغيرات في كل عصرٍ، وفقًا لتلك الثوابت التي انطلقت منها وآمنت بها، وجعلتها قِبلةً تُحدِّد من خلالها الصواب من دونه، هذا ما ينبغي أن يكون على أساسه إقامة الاحتفاء وإحياء الذكرى وإنعاش الذاكرة به، أما إذا كان الاحتفال منسلخًا من كل ما تم ذكره من أولويات عقلانية تنفع حاضر الجماعة وتمدّها بجرعات معنوية تعينها على مواجهة التحديات المعاصرة أو المستقبلية في ظل التغيرات التي يعيشها العالم، فلا قيمة لإحياء مثل هكذا مناسبات، واستعادة التاريخ في ذكرى بعض أحداثه؛ لا لقصور في تلكم الأحداث، فهو تاريخ على أي حال، ولكن لتقصيرٍ يرتبط بهذه الجماعة أو تلك ممن يهمُّها إحياء هذه المناسبة أو غيرها، بما ينسجم ومحددات هويتها بين الهويات الأُخر.

وعلى سبيل المثال أرى ما القيمة التي نتغيّاها عند أمةٍ من الأمم، حين تحتفل بذكرى استقلالها، وهي لم تتخلّص بعد من براثن التبعيّة للآخر الذي تحتفل بذكرى استقلالها منه..؟! أو تحتفل طائفة من البشر آمنت بدينٍ من الأديان، أو مذهبٍ من المذاهب، بذكرى رحيل أحد كبار رموزها، وهي لم تعمل على ترجمة أفكاره التي نادى بها عمليًّا في حياته وبُحَّ صوتُهُ من أجل تطبيقها وإشاعتها لا بين جماعته التي آمنت بخطابه فحسب، بل بين كل الناس على مختلف توجّهاتهم، أو تعمل جماعةٌ من البشر بوصفهم ممثلين لهذه الطائفة الدينية على إحياء ذكرى استشهاد أحد أئمة هذا المذهب الذين يدينون له بالطاعة والتوقير، ويرون فيه المثال الأوحد لترجمة التعاليم الدينية دون غيره، وهي لم تستفد من المنعطفات التاريخية التي مرّت بهذه الجماعة، أو لم تقرأ الظروف التاريخية التي أُحيطت بذلك الإمام/ الرمز الممثِّل لتلك الجماعة، وبالمحصِّلة قد تقع تلكم الجماعة بالمطبّات التي وقع فيها السلف منهم، من دون اجتيازٍ آمن يوفِّر لها الوقت والجهد في آنٍ واحد، فيجعلها تراوح في مكانها ماديًّا ومعنويًّا بين سواها من جماعات، من دون أن تأخذ العِبرة ممّا سبق وقوعه من أحداث، وبهذا يكون التاريخ عند هذه الجماعة لا يأخذ سوى دور "الاجترار" الفج، من دون أن يُعاد تدويره بطريقة خلّاقة تصبُّ بالدرجة الأساس في صالح الجماعة التي شاءتْ أن تُنسج هويّتُها المذهبية/ الثقافية، من خيوط أحداث التاريخ التي ترى وقوعها من عداد المُسلّمات، أو قد تقع في بعض الممارسات الخاطئة التي كانت السبب في ما حصل من مآسٍ راح ضحيّتها أولئك القادة الذين أضحوا على طول زمن هذه الجماعة أو تلك رموزًا لا يطالها شكٌّ أو شبهة فيما صدر لها من خياراتٍ أو قرارات تُمثِّل مصائر تلكم الجماعة وقناعاتها، لاسيّما إذا كانت المنطلقات لدى هذه الجماعة أو تلك داخل الإطار الإسلامي الواحد غير مبنيةٍ على أسسٍ صحيحة بما يكشف تخبّط أهواء قادتها الزمانيين، وجهل القاعدة الجماهيرية التي يسوسها أولئك القادة، بما يؤدي إلى سلوكيات تصدر عنها أبعد ما تكون مستقاةً من فكر أولئك الرموز من أئمة لم يفكِّروا بجماعتهم على حساب المصلحة العامة للإسلام، وفي هذا الشأن يذكر السيد فضل الله في أحد خطبه، أنه (إذا كنتم تفكِّرون كمسلمين فإنكم تستطيعون أن تلتقوا مع المسلمين الآخرين، ولكن عندما تفكِّرون من مواقعكم الطائفية، فإنَّ كل الواقع السياسي يُبعد بعضكم عن بعض، لأن كل طائفة تعمل على أن تكون مستقلة عن الطائفة الأخرى في كلِّ قضاياها وتعمل على أن تتقوّى على الطائفة الأخرى، حتى بالكافرين..! وهذا ما يحدث في داخل اللعبة اللبنانية وفي داخل واقع العالم الإسلامي [...] إنَّ معنى التزامنا عليًّا (ع) هو أن نلتزم الإسلام ومصلحته، وإلا فقد نلتقي بعلي (ع) يوم القيامة، وقد عبثنا بوحدة المسلمين وأعنَّا المستعمرين عليهم، وناصرنا الكافرين ضدّهم نتيجة عقدة. فنقول له: يا علي لقد حاربنا من أجلك وسببنا الناس من أجلك وعملنا كل ما عملنا من أجلك فأعطِنا جائزتنا، فيقول علي (ع): من قال لكم إنكم عملتم من أجلي..؟ إنكم واهمون فمن يعمل للإسلام ولعزته ولقوّته، فهو الذي يعمل من أجل علي (ع) لأن عليًّا باع نفسه لله ولم يبعها لنفسه، ولم يكن يعمل لذاته بل كان يعمل للإسلام، فإذا كنتم تعملون لعلي (ع) فاعملوا للإسلام من خلال خطِّه)[1]، فلا بدّ من الوعي التام بتمثّل التاريخ وضرورة قراءته بدراية تقي من الوقوع في الأخطاء التي عانى السلف من تداعياتها، ولا يُفهم من هذا الطرح، (فالوعي التاريخي حاجة مُلحّةٌ ليس لقراءة التاريخ فحسب وإنما لقراءة الواقع أيضًا، فالذي لا يكون له بصيرة تاريخية يقع في أخطاء كبيرة حتى وإن كان رساليًّا يُصنِّف نفسه في عداد الثُوّار، فإننا نجد كثيرًا من هؤلاء عندما كتبوا في التاريخ وقعوا في الأخطاء نفسها التي وقع فيها المؤرِّخ السلطوي)[2].

إنَّ فكرة استلهام الحدث الديني واستثماره لارتقاء الواقع الذي تعيشه الجماعة الموالية لهذا الرمز، أو لذاك، أشار لها القرآن الكريم في أكثر من آيةٍ أعربت عن الغاية التي من أجلها سيقت قصصُ الأوّلين من الأنبياء والمُرسلين وغيرهم من أهل الضلال والانحراف، وكان استدعاؤها لبيان العِبرة لمن يأتي بعد هذه الأقوام، ولإسقاط الحجّة لمن يتذرّع بجهله – فردًا كان أم جماعة- فيما يمرُّ به من أزمات أو مواقف، فقد (أنزل الله في القرآن آيات كثيرة، يحدّثنا فيها عن بعض النَّماذج في وقائع المعركة، وعن الدروس التي ينبغي للمسلمين أن يأخذوها من المعركة، لأنَّ الإسلام، في ما جاء به القرآن، لا يريد للمسلمين عندما يمرّون بأيّ تجربة، سواء كانت التجربة تجربة نصر، أو تجربة هزيمة، أو تجربة يختلط فيها النصر بالهزيمة، كما كانت هذه المعركة، أو تجربة خطأ أو صواب أو فشل أو نجاح، إنَّ الله لا يريد للمسلمين أن تنتهي التجربة وينتهوا معها، ليصفِّقوا لانتصاراتهم وليبكوا هزائمهم، بل يريد لهم أن يدرسوا كلّ تجربة في الحياة ليفهموها جيّداً، فإذا كانت تجربة نصر ونجاح، فعليهم أن يدرسوا كيف انتصروا وكيف نجحوا وما هي عناصر النجاح والنّصر، ليستفيدوا من ذلك في المستقبل، وعندما تكون المسألة مسألة هزيمة أو فشل، فعليهم أن يدرسوا أسباب الهزيمة وأسباب الفشل، من أجل أن يتفادوها في المستقبل. إنَّ الله يريد للإنسان دائماً أن يستثمر نجاحاته لنجاحات أخرى، وأن يأخذ الدرس في هزيمته، حتّى لا يقع في هزيمة أخرى، لتكون تجربة الإنسان مدرسة له في كلِّ مجالات الحياة)[3] ولأنَّ "المؤمن لا يُلدغ من جُحرٍ مرَّتين" كما ورد في الحديث، كان المفروض أنْ لا تُكرَّر المآسي التي يقع فيها المؤمنون بهذا الخطِّ الرسالي الذي يرون فيه الصواب دون سواه، ولكنْ للأسف كانت العِبَر تمرُّ من دون استثمارٍ عمليٍّ لها في كثيرٍ من محطّات التاريخ للأمّة، وكأنَّ قول الإمام علي (ع): (ما أكثرَ العِبَر وأقلَّ الاعتِبار) أضحى سُنّةً تاريخية تقع فيها الكثير من الأمم، وفي مقدِّمتها أمةُ المسلمين في العالم؛ لما نشاهده من تداعيات الواقع المرير الذي تمرُّ به جماعة المُسلمين هنا أو هناك، في كثيرٍ من المجالات جعلها تأخذ دور المستهلك أو المقلِّد للآخر، كلُّ ذلك لم يكن غير واحدٍ من أسباب عدم استلهام التاريخ وقراءته بوعي لا على مستوى الفرد، بل على مستوى الجماعة، ولأنَّ التغيير الإيجابي نوعًا وكمًّا لا يتحقَّق على صعيد الأفراد، بل على مستوى الجماعة؛ فلذلك ليس عجبًا اليوم من توالي النكسات على هذه الأمة، الأمر الذي دعا أحد كبار علماء الدين المُصلحين – وهو السيد هاشم معروف الحسني- إلى القول: (لقد ترك لنا الحسين وجدُّ الحسين والأئمة من ذرية الحسين، من أقوالهم وسيرتهم وسلوكهم وجهادهم، مدرسةً غنيةً بكلِّ ما نحتاجه في الحرب والسلم والشِدّة والرخاء والفقرِ والغنى وكلّ نواحي الحياة، فما أولانا ونحن ندّعي الإسلام والتشيّع لهم، أن نرجعَ إلى سيرتهم ونسيرَ على خُطاهم، ونصنعَ من ميراث أمّتنا وقادتنا خير أمةٍ أُخرِجتْ للناس)[4]. وهذه النظرة أعلاه، تؤكِّد لنا الأهمية القصوى لوعي التاريخ واستلهام تجاربه السالفة بما ينفع الناس في حاضرهم، ويرتقي بهم لما فيه خيرهم وعزّتهم وقوّتهم بين الأمم، ولكنْ في الواقع لم يكن للمنتمين إلى هذا الدين أو هذا المذهب ذلك الوعي الكافي بتلكم التجارب التي صارت في ذمّة التاريخ، وذلك لاستلابه الدراية الاجتماعية لواقعه التي تستلزم منه الحضور الواعي لما حوله من تداعيات معاصرة، بما يكشف استلهامًا دقيقًا للتاريخ وتمثُّلاً ذكيًّا لدروسه، وإلا كان "الاستحمار" قدرَ هذه الأمّة، الذي يعمل على (تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وحرف مساره عن "النباهة الإنسانية" و"النباهة الاجتماعية" فردًا كان أم جماعة. وأيُّ دافعٍ عملَ على تحريف "هاتين النباهتين" أو فرد أو جيل أو مجتمع عنهما، فهو دافع استحمار! وإن كان من أكثر الدوافع قدسية وأقدسها اسمًا. إنَّ أي عملٍ ومهمةٍ سوى هاتين النباهتين، أو ما يعد في طريقهما، ما هو إلا وقوع في العبودية، والذهاب ضحيةً لقوةِ العدو والاستحمار المُطلق، وإن كان عملاً مقدّسًا وموضوعه مهمٌّ جدا)[5]. ولعلَّ هذا الطرح النظري يتأكّد لنا تطبيقًا فيما ذكره السيد هاشم معروف الحسني، ناظرًا فيما آل إليه حال المسلمين الشيعة وتشرذهم، في قوله: (ولو نظرنا ومع الأسف الشديد، إلى مبادئ التشيّع التي تجسِّد الإسلام بكل فصوله وخطوطه، وقارنّا بينها وبين ما نحنُ عليه من تخاذلٍ وتراجعٍ وإذلال، وانحرافٍ عن الإسلام ومبادئه وقيمه، وجدنا أنفسنا من أبعد الناس عن عليٍّ وبنيه وعن الحسين بالذات، الذي نحتفل في كل عامٍ بذكراه ونبكيه، ونردِّدُ بألسنتنا: يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزًا عظيما، وأنا لا أشكُّ بأن الحُسين لو وُجِد في زماننا هذا، لصنع من القدس وجنوب لبنان كربلاء ثانية، وسوف لا يناصره ممّن يدّعون الإسلام والتشيّع، وممّن يتباكون على القدس والجنوب ويُتاجرون بهما في البيانات والخطب، وعلى صفحات الجرائد أكثر من العدد الذي ناصره في كربلاء الأولى)[6]. وشواهد أخرى كثيرة، يمكن أنْ نضعها على محكِّ الوعي تارةً واستلابه تارةً أخرى، منها ما نراه اليوم من غيابٍ لوعي الأعمِّ الأغلب من الناس وهم يُخدعون بشعارات المُرشّحين للانتخابات، ممّن ينهمكون في أواخر دوراتهم الانتخابية بأعمال من شأنها تضليل الرأي العام، في سبيل إظهارهم بمظهر الخادم للشعب، والمضحّي لأجله، وهي لعبةٌ قذرة تهدف إلى أنْ ينسى عموم الناس، ما كان لهؤلاء من صفقات فساد، أو استغلال المنصب لمصالح شخصية لهم ولحاشيتهم، وهذه اللعبة لم تكن جديدة في عالم السياسة، بل لها شواهد كثيرة في التاريخ، منها (لمّا أراد أن يأخذ البيعة ليزيد من الناس، طلب من زياد أنْ يأخذ بيعة المسلمين في البصرة، فكان جواب زياد له: ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب، والقرود، ويلبس المصبّغات، ويُدمن الشراب، ويمشي على الدفوف وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر؟ ولكن تأمره يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين فعسانا أنْ نُموِّه على الناس)[7]، فلو كان فعلاً هؤلاء الناس على وعيٍ تامٍ بتاريخهم، مستلهمين منه الدروس الكفيلة بعدم وقوعهم بمآسي السابقين، لما كان لهذا السياسي – وإنْ كان متسربلاً بثوب الانتماء لنهج آل البيت – أنْ يفلح في تمرير مثل هذه اللعبة القذرة في غايتها؛ لأنَّ القاعدة الجماهيرية صارت على وعيٍ تامّ أنَّ الذي يُمارس التضليل معها مثله مثل معاوية وسياسته مع الرعية في إبراز الصلاح بصورةٍ كاذبة ليتسنى له فيما بعد ما يريد الوصول إليه من غاية، وإنْ كان هذا السياسي المعاصر يتظاهر بكل ما يسعه من سبيل، أنه من الموالين الخُلّص لرموز الإسلام والمدافعين عن مبادئهم. ولكن نأتي إلى الواقع، فنرى أنَّ الكثير من الناس ما زالت تتمتع بذاكرتها السَمَكيّة "قصيرة الأمد" فتعيد الكرَّة بعد الأخرى لانتخاب هذا السياسي أو ذاك؛ لما يُخدعون به من مظاهر تنطلي عليهم لأوّل وهلة، وما بعدها لا ينفع الندم.

ولمّا كانت الخطوة الأولى لتنضيج وعي جمعي للأمّة بضرورة استلهام التاريخ والتقاط الدروس الأخلاقية من أحداثه، تقوم على غربلة ذلك التاريخ/ التراث وتصنيفه، وهذا ما يقوم به العلماء المُصلحون والباحثون المتخصِّصون في ذلك الحقل، (فإنَّ أي جهدٍ حركيٍّ لإصلاح الأمّة يكون بعيدًا عن مناله إذا أُهمِلَ الوعي التاريخي، لأنه ليس ضرورة معرفية فحسب وإنما ضرورة حياتية راهنة، فلو تغيّرت رؤية الأمة إلى التاريخ لَتَغيّرت آليًّا حياتها، لأن رؤيتها إلى التاريخ ستنعكس على موقفها في الحياة، ومواقف الأمة في الحياة حينما تكون إيجابية صحيحة فإن حياتها تتحوّل كلُّها إلى حياة إيجابية)[8]، ولعلّ هناك من يعترض، ويقول: ما علاقة توظيف أهداف النهضة الحسينية ودروسها الأخلاقية، فيما ذكرته من تردٍّ شمل مرافق الحياة بأجمعها في حياتنا الراهنة؟ وفي مقام الإجابة، نرى أنَّ من الظُلم والإجحاف بهذه النهضة، أنْ تكون مقصورة الفائدة على جانبٍ دون آخر من جوانب الحياة؛ لأنَّ امتداد الرسالة الإسلامية قد تجلّى بشخص الإمام الحسين (ع) وبما يصدرُ عنه من سلوكٍ يُترجمُ هذا الامتداد الرسالي، ولما كان إيماننا بهذا الدين منطلقًا من امتلاكه القابلية المُطلقة على حلِّ سائر مشاكل الحياة البشرية وتذليل سائر عقباتها، والجواب عن جميع استفهاماتها على الأقل فيما يتّصف به من الناحية الواقعية، وإلا فمن الناحية الفعلية فهو يحتاج إلى جهدٍ وتفكيرٍ واجتهادٍ يبذله أبناؤه ذوو القابليات العقلية العالية لإثراء هذه الجوانب التي تغطّي كل متطلّبات الحياة[9]، فالحسين (ع) لم يُقتل لأجل أنْ نبكي عليه، أو ليكون ذكرى شهادته موسمًا لطبخ بعض الأطعمة ولبس السواد، واستظهار كلمات العزاء، واستماع الخُطب أو الأناشيد التي تستعيد الذكرى بما يُهيّج العاطفة الدينية فحسب، أو لقطع الشوارع واستعراض مواكب العزاء وغيرها، وتعطيل الأسواق وإيقاف الدوام الرسمي من المؤسسات الحكومية وغيرها، بل كان قتله يمثّل إنعاشًا للدين الإسلامي، وتحريرًا لنا من قيود التبعيّة للمُضلّين من حُكّام طُغاة، ومن قيود التقاليد البعيدة عن قيم الإسلام العُليا في مضامينها، وانعتاقًا من عبوديّة الشهوات التي تُكبّل الإنسان عن نيل حقوقه المشروعة، بعد أنْ ظهرت البِدعةُ باسم الدين، الأمر الذي مسخ كلَّ تعاليم الدين السمحاء التي يُفترض أنْ ترقى بأتباعها إلى ما يجعلهم أفضلَ الشعوب بحسب فرض قوله (ع): (إنما خرجت لطلب الإصلاح) فالإصلاح المقصود هنا يعُمُّ سائر ميادين الحياة، ولا يقتصر على الزمن الذي عاش فيه، فحجم التضحية العظيمة التي قدّمها الإمام الحسين (ع) يُفترض أنْ يُقابلَ بارتفاع مطاليبها الإصلاحية إلى ما يخترق حدود الزمان والمكان، باعتبار أنّها أفهمت الأمة بأجيالها المتطاولة مقدار ما ينبغي أنْ يكون عليه الفرد من درجة الإخلاص والصمود وقوة الإرادة ونكران الذات تجاه العدل، ومن أجل محاربة الظلم والانحراف، وبهذا يكون الفرد مستشعرًا بأهمية الأطروحة العادلة، ومتّجهًا بكل رحابة صدر إلى تقديم المصلحة العامة على كلّ مصالحه الخاصة[10]؛ ليكون لبنةً في طور الاستخلاف الربّاني على يد المصلح الموعود.

ولا نبالغ إذا قلنا بأن درجة نجاحِ صدى تقبّلنا لرسالة تلك النهضة الحسينية تتحدَّدُ من طبيعة الرسالةِ التي نبعثُها للعالمِ من خلالِ ما نُمارسُه في عمليَّةِ الإحياءِ لموسمِ عاشوراء، فحين نقدِّمُ للعالمِ صورةً مشرقةً لهذه النهضةِ العظيمة، نكون قد أحرزنا درجةَ النجاح، إذ كلَّما كانتِ الصورةُ أكثرَ إشراقاً وتعبيراً عن واقعِ النهضة كلَّما أحرزنا درجةً متقدمةً من النجاح، فقيمُ النهضةِ أقربُ شيءٍ للقيمِ الإنسانيَّة وهي التعبيرُ الصادقُ لقيمِ الإسلام، فحينَ يُعبِّر الخطابُ الحسيني المترجم من خلال سلوكياتنا المنطلقة من قيمِ الحسينِ (ع) ومكارمِ أخلاقِه، وأهدافِ نهضته، والشعاراتِ التي رفعَها، والبطولاتِ والملاحمِ التي سطَّرها، فإنَّه يكونُ قد تمكَّن من تعريفِ العالمِ بنهضةِ الحسينِ وقدَّم له صورةً ناصعةً عن قيمِ الإسلام وروَّاده[11].

***

أ. د. وسام حسين العبيدي

..................

[1]  الجمعة منبر ومحراب: 107 .

[2]  التاريخ الإسلامي دروس وعبر، محمد تقي المدرّسي: 29 .

[3]  الجمعة منبر ومحراب: 269 .

[4] من وحي الثورة الحسينية: 42 .

[5] النباهة والاستحمار، علي شريعتي، سلسلة الآثار الكاملة: 100 – 101 .

[6] من وحي الثورة الحسينية: 42 .

[7] تاريخ اليعقوبي: 2/ 220 .

[8]  التاريخ الإسلامي دروس وعبر: 37 .

[9] ينظر: القانون الإسلامي وجوده، صعوباته، منهجه، السيد الشهيد محمد الصدر: 15 .

[10] ينظر: اليوم الموعود بين الفكر المادي والديني، السيد محمد الصدر: 618 – 619 .

[11] ينظر: من خطبة الشيخ محمد صنقور، موقع صحيفة الوسط البحرين على موقع:

http://www.alwasatnews.com/news/print/1033799.html

في المثقف اليوم