قضايا

من مفعول الإرادة إلى قيم العقيدة

مجدي ابراهيمأدعى الدواعي إلى تفعيل الإرادة، مطلق الإرادة، هو الإمارة على النفس؛ ففي هذه الدنيا العجيبة ما أشدّ ما ترى فيها من غرائب الأفعال وغرابة الأيام. وليس أقسى على المرء من أن يشتمّ من نفسه رائحة الصفاء والروحانيّة ثم تصادفه الأيام نفسها بما لا يتوقع مصادفته من الخنازير الآدمية. الأيام التي نعرف فيها معنى أن يكون "القلم" هو الأداة الشريفة التي توصلك بالله تعالى خير وصلة، وتقربك منه قرابة مرضية لهى هى الأيام التي تتعرض فيها للدناسة والقذارة ومصادمة الأغيار، لكنما كانت هذه القُرْبَة أو ذاك الاتصال عنواناً دالاً على وحدة الوجود كله بخيره وشره.

إنما هى وحدة وجود واحد لا شك فيه؛ فأنت أنت الذي تعيش اللحظة السعيدة مع نوارنية الحكمة وفواتح الوجود العلوي، ثم ما تلبث أن تعيش اللحظة التالية مع أوْهاق المادة وكثافة الظلمة وأقذار المخاليق: لحظات متداخلة مرة على الصفاء والنقاء، ومرة أخرى على الحجاب الأسود الداكن في عتامة كئيبة منفرّة وفي سواد طاغ لعين.

ينفتح الوجود كله أمامك في حالات الصفاء، فلا كأنك موجود مع موجودين ثم تنسدل عليك ظلمة الأغيار بأكثف ما يمكن أن يكون معه الوجود على الكثافة الظلمانيّة. تعيش الجمال كله مع التفتح والإشراق، ويشوبك النقص كل النقص مع الشر ومع الظلمة والحجاب. لكأنما كان الوجود كله مشطوراً إلى نصفين. الأول: علوية المقاصد وخيرورة الأهداف. والثاني منه: كل ما فيه من شرور وآفات. وتعيش الذات في حالة من التوتر بين الشدِّ إلى هنا والجذب إلى هناك، لكنه مع ذلك: وجود إنساني واحد.

والرغبة الباقية في أن تكون إنساناً كريماً بما تحمله من مقاصد علوية وأهداف خَيِّرة هى ليست رغبة منك لكنها كانت مفروضة عليك، هكذا تبدو.

أنت مقهور لها قهراً ومقسور عليها قسراً، لا غلبة لك فيها ولا حيلة لك في أن تعيش أو تحيا كما ينبغي أن يكون العيش وكما تلذُّ لك الحياة. تتعرض للدناءة من النفوس الدنيئة، ولا تدري ماذا عَسَاَكَ تفعل؟ ويقابلك اللئيم ولو كنت كريماً معه فيرد الإحسان بالإساءة بغير أن تدرك أنت كيفية المواجهة له، بل تحمر وجنتيك وتنتفخ أوداجك ويرتعش بدنك في مواقف الإحراج، فلَزَمَ تفعيل الإرادة؛ ولأنك كنت أميراً على نفسك فلم تصرفها فيما صرفها هو من خسة المعاملات. ولكن الشر هو الطاغي ولا خيرورة هناك، والكل محكوم بقبضة العزة. لا شيء في عرف الناس معروف، ولا شيء في أخلاقهم مدروس، لا شيء يبقى، ولا شيء يكون أو يدوم، وكل ما هو كائن في الدنيا مردّه إلى زوال، وإلى عدم وفناء. الدنيا لا شيء كما قال الشّبْلي.

كلما داهمتنا هذه الأحوال تذكرنا ابن عربي، طيّب الله ثراه، الذي يرى الوجود كله وحدة واحدة. كما يرى فيه الخير والشر صنوان لا يفترقان في الوجود، فولا الشر ما كان الخير، ولولا المعصية ما كانت الطاعة، ولولا النار ما كانت الجنة، ولولا الرزيلة ما كانت الفضيلة، ولولا الغضب ما كانت الرحمة، فليس في الوجود شر لأنه عرضي: مجرد تجليات لصفات الجلال الإلهي. كما أن الخير تجليات لصفات الجمال الإلهي؛ ومن أجل ذلك، وجب الإحسان إلى  من أساء إليك كما في الخبر المشهور، ووجبت من ثمّ محبة الأشرار، لا لأنهم أشرار في ذواتهم، ولكن لأنهم تجليات لصفات الجلال الإلهي. 

ولولا أن مَنَّ الله برجال في عباده أن يكونوا أمراء على أنفسهم من طريق الإرادة؛ لكانت الدنيا خراباً من الأزل إلى الأبد، بل ما كان هناك شيء يسمى أزلاً ولا أبداً؛ لأنه إذْ ذاك لا يكون هنالك وجود حقيقي للإنسان، لكأنما الإمارة على النفس شيء لم يعهده الآدمي في طباعه وأخلاقه فيما لو سقطت منه الإرادة. وهل كان آدم عليه السلام أميراً على نفسه حين عهد إليه ربه وأغواه الشيطان فلم يجد له عزماً؟ أيكون بذلك خَلّفَ من الأعقاب ما ورث هذه الصفة، ولم تكن له صحة عزمة، وعمل بها حتى آخر نفس يلفظه في هذه الدنيا؟ .... لا أدرى!

لكن الذي أدريه جيداً أن الإمارة على النفس طبيعة إلهية خلقها الله تعالى في الإنسان؛ ليكون إنساناً كاملاً لا حيواناً أعجمياً. فتلك العُجْمة الروحية تؤكد سقوط الإرادة وغيبة العزيمة ممن لم يكونوا أهلاً لهما. وإنْ تعجب فلا أشدَّ من عجبك، حين ترى الإنسان لم تزل فيه، رغم كل هذه الأوصاف، من الحيوانية ما يغيضه وغيضاً من معدن الروح الذي هو فيه، لكأنما هو مخلوق على التقدير: قدر الله فيه الروح المنفوخة كما قدر فيه الطينة، ولم يُشهد خلقه كيف كان فهو مخلوق على تقدير لا نعرفه، وأعجب من ذلك أن ترى الإنسان في عين الاختيار مجبور ويزعم أنه فعل هذا وقام بذاك، وارتفع ها هنا وساد هناك، وله الفضل كل الفضل فيما لا فضل له فيه ولا تقدير، وعجباً لهذا المخلوق الغريب!

فلو كان أميراً على نفسه، لأختار أن يكون حراً في اختياره غير مجبور. فليس يبقى إلا الرحاب العلوي يفرُّ إليه الأقوياء القدراء ويتهيبه الجبناء الأغرار؛ فما دُمتَ خائفاً من أن يجيء كمالك مشوباً بالنقص، فلن تنالَ إرادة ولا شيئاً مما تريد.

وما دمتَ تخشى العواقب وتدقق في النتائج، وتتردد؛ فكل أعمالك لا تكون جديرة بالقبول، لكأنما جزاء الإنسان في أعماله أن يكون مغبون القيمة، وأن مصير التقديرات الآدمية هو هذا الخذلان. أعمل وأنفق وقتك وطاقتك وعمرك كله؛ فقيمتك في نظر الآخرين لا شيء، فهل يصاب الإنسان بخسارة أخزى ولا أنكى من هذا الخذلان؟

هَبْ أنك أحسنت وقدرت وجهدت نفسك كل الجهد على أن تصنع شيئاً ذا قيمة، أيكون الجزاء على هذا الصنيع هو أن يجردك الآخرون من القيمة! .. لماذا؟ لأنك لا تحسن في موضع يكون فيه الإحسان مقبولاً على كافة الأحوال، ومنذ متى كان الإحسان مقبولاً في عالم التقديرات الآدمية على كافة الأحوال. ذلك هو عالم التقدير الآدمي يُلصق بطبيعة الضعف في كل ضعيف لا يقوى على تغيير الطبع الملعون في باطنه، ولا يصبر على شروط التغيير التي تفرضها الإرادة كما تفرضها الإمارة على النفس؛ لأنه لم يتعود التصبر ولا التخلق بأخلاق الكرام، بمقدار ما لم يتعود الركض في ميادين الحياة الشريفة، والإخلاص مع الناس إفلاس، والإخلاص من أجل الله وحده أحساس بالرقابة الإلهية على العمل.

إنك لا تحسن في موضع يكون فيه الإحسان مقبولاً في كافة الأحوال. ذلك ديدن الإحسان في العوالم الأرضية بعكس الإحسان في معاملة الله تعالى فهو أضمن ميدان يجرى فيه العمل الشريف، وهو إحسان تكون فيه الزيادة من القبول، والزيادة من الخير، والزيادة من الأجر والمثوبة، والزيادة من القربة والتوفيق، والزيادة، وهى الأهم، مما لا يخطر على بال الآدميين، بُله المحسنين.

عالم التقديرات الأرضية وضيع وحقير وناكر للفضل، وإذا كان للفضل قيمة في ذاته، لم يشأ إلا أن يسلب عنه هذه القيمة فلا يجعلها قائمة بمقدار ما يسقطها، ويسقط ما فيها من بقاء وتقدير.

وعالم التقديرات الإلهية عالم جليل وعظيم لا يبخس قدراً ولا يهضم قيمة، يحفظ للإنسان قيمته، ويدخل هذه القيمة في إطار من الوعي المحفوظ بترقي الزيادة من مدد إلهي موصول غير مقطوع، لا يعلم الإنسان، بما هو إنسان، كيف يفيض ولا كيف يتوارد:" للذين أحسنوا الحُسْنَىَ وزيادة ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهُم قَترٌ وَلَا ذِلُّة؛ أولئك أصحاب الجنَّة هُمْ فيهَا خَالدُون" (يونس: آية 26).

هذا عالم جليل وعظيم . وذاك عالم وضيع وحقير.

وهذا هو الفرق الفارق بين عمل الإنسان وتقدير الآدمي، وبين عمل الله تعالى وتقدير الربوبية. وهذا هو الفرق الفارق بين عمل العبد وعمل الرب، بين عمل المخلوق وعمل الخالق. فالتهيؤ للاتصال بالعالم العلوي لتحصيل أسمى آيات الكمال من الزيادة التي لا يشوبها نقصان هو عمل الأقوياء العاملين القدراء ذوي الإرادة النافذة والعزم الجميل.

فإذا انصرف الإنسان بكل قوته إلى رحاب الله؛ فلأنه أولاً موهوب هذه القوة وممدود العون بملكة التعلق في التوجه لهذا الجناب الأعلى. ولأنه ثانياً مفقود الجزاء في العالم الأرضي والتقدير الآدمي لا يعزيه شيء قدر ما يعزيه أن ينصرف عن تقدير المخلوقين إلى تقدير الخالق، وإنه ليكفيه من قوة وعزيمة ومضاء أن يكون منصرفاً عازفاً عن دنيا الناس إلى حيث ضمان التقدير من موعود الجزاء، فهو وحده ذلك الرحاب العلوي الذي يغنيه عن طلب الجزاء، ويعزيه عن فقدان الحمد والثناء بعد ضياع القيمة من وراء العمل، وضياع المثوبة في شواغل الأعباء. ومن عرف ما أخذ، هان عليه ما ترك.

*    *     *

هنالك تجيء العقيدة لتكون هى هى القيمة الباقية في عالم التقديرات الإلهية إذا عَوّل عليها الإنسان ولم يعوّل على سواها، وعرفها من طريق الإرادة الواعية وسلك سبيلها في طريق التصحيح وطريق العرفان. أذكر إني قرأت منذ زمن طويل للأستاذ العقاد، عليه رحمة الله، عبارة جاءت في كتابه "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه" لا يقولها إلا فيلسوف خبير بمعالجة الأفكار الكبرى في مثل قامة العقاد طيَّب الله ثراه. جاء فيها:" إنك لتلمس أصالة الدين عند المقابلة بين فرد يؤمن بعقيدة من العقائد الشاملة وفرد معطل الضمير مضطرب الشعور، يمضي في الحياة بغير محور يلوذ به وبغير رجاء يسمو إليه. فهذا الفارق بين الفردين، كالفارق بين شجرة راسخة في منبتها وشجرة مجتثة من أصولها، وقَلَّ أن ترى إنساناً مُعطل الضمير على شيء من القوة والعظمة إلا أمكنك أن تتخيله أقوى من ذلك وأعظم إذا حَلَّت العقيدة في وجدانه محل التعطيل والحيرة".

وعليه؛ فالعقيدة الإيمانية محور صادق وأمين يرتكز عليه العمل، وإذا هى حلت في ضمير الفرد أوجبت عليه مسعى التقدُّم والتعلق؛ فمن حيث جهة التقدم: معرفته بالسلوك على هدى من موفور الاعتقاد. ومن حيث جهة التعلق: وجوب الأعمال خالصة في إطار تلك العقيدة، وفي إطار الانتماء إليها وتقديرها في البواعث التي يتحرك المرء بمقتضاها ويدور في فلكها. وطالما تعلق القلب بالعقيدة الدينية فرضت عليه الإرادة أن يكون عمله في إطارها مرهوناً بالتفتيش في بواعث العمل، وبواعث العمل على نحو من الأنحاء تبدأ بالخواطر، ويلزم للخواطر إرادة واعية.

هنالك أنواع ثلاثة من الخواطر تلمُّ بالنفس العاملة، ومع ذلك ليس بالإمكان أن يقوم العقل بالتفرقة فيها بين الأعمال إلا أن تكون في الأصل عاملة في نفس صاحبها ومسيطرة. الخاطر الأول: خاطر شيطاني باعثه على العمل وسوسة الشيطان، وهو شيطاني لأنه إلقاء في النفس من جهة الشيطان. والخاطر الثاني: خاطر نفساني باعثه على العمل الشهوة وطلب الراحة، وهو حديث النفس وطلب الراحات للأنفس وللأبدان. والخاطر الثالث: خاطر ربَّاني باعثه العمل والتوفيق، وهو إلقاء من جهة الحق سبحانه، ولذلك كان الخاطر الرَّبَّاني يرد بأسرار خطابات العارفين وإمداداتهم الإلهامية؛ إذْ كان سراً من الله بعد تزكية حال صاحبه واستقامة قلبه على منهاج العارفين. يلزم للتفرقة بين هذه الخواطر إذْ كانت بواعث إعمال، إرادة يقظة. ولا يلزم قيامها في نفس صاحبها بغير إرادة؛ فغياب الإرادة وفقدانها غياب في الوقت نفسه للخلق القويم والنظر السديد يشي بفقدان الإيمان وفقدان العقيدة ويدل فقدانهما على حالات الضعف دلالة التقريب.

هذه حالة مَنْ تتفسخ لديه الإرادة فتنعكس بالسلب على المجموع ممَّن يحيطون به سواء؛ فالخسارة إذن مع تلاشي الإرادة ظاهرة واضحة في الحالتين: حالة الفرد الذي يفسد نشاطه كله بفساد إرادته وتنقلب حيويته إلى ضعف، وإدراكاته إلى فتور، واقتداره على الأفعال إلى خنوع وبلادة وتردي ونكوص. ثم حالة المجموع الذي ينتسب إليه هذا الفرد، إذْ الجماعة البشرية الصالحة والناهضة دوماً لا تتكون مطلقاً ممَّن أصابهم الضعف والفسُولة من جَرَّاء فقدان الإرادة، ولكنها تترقى دوماً من فعل أولئك الذين لديهم القدرة على العزم والحسم والنهوض بجليل التبعات، أعني أولئك العارفين من ذوي الهمم العالية؛ ومع توافر أركان الإرادة من قوة واقتدار وعزم وحسم وتصميم في الأفراد القادرين على توخي أركان الإرادة وتحققها فيهم، ينصلح حال المجتمع وتسمو إرادته الجمعية، وينهض رجاله بالمسؤولية المنوطة بهم في كل حال وفي كل حين.

فالأخلاق في جوهرها إرادةٌ مسئولة وتبْعَة باطنة ووجود ملحوظ ينبغي أن يتحقق في الواقع الفعلي، فضلاً عن تحققه في الواقع النفسي، فلا مناص من توافرها في طبقات المجتمع بكافة طبقاته وأطيافه ودرجاته.

ويوم أن ننحِّي"الإرادة" جانباً من نطاق الأفراد يكون على المجتمع وحده تحمُّل العواقب الوخيمة يتضرَّر بها من فئات فقدوا مقومات التربية والترقية من طريق فقدهم لمزايا الإرادة؛ لاسيما تلك "الإرادة" التي نتحصَّل عليها من الشعور الديني العميق؛ لأن الدين هو أكثر المقومات ترقية للفرد وتربية لإرادته وتهذيباً لأخلاق المجتمعات. الوعي الديني من الأهمية بمكان بحيث يجيء لازماً لابد منه من لوازم الجماعة البشرية: إصلاحها وتعاونها وتآلفها وتوادُّها وتراحمها وحفظ السلامة فيها، وارتقاء أفرادها ذلك المرتقى العلوي الذي يوفِّر لها الأمانة والأمن كما يوفر لها التعايش السلمي بين أبنائها. وليس هذا بالشيء القليل.

أنزع عن الفرد عقيدته التي يدين لها بالولاء، وأسلخ عنه ولاءه لمجموعة القيم التي يَحْتَكمُ إليها، ثم رَاقب حالته النفسيّة، ستجد جهازه العصبي كله في غاية الاضطراب، ستدمر كل مصادر الطمأنينة النفسية والقلبية لديه، وسيعيش حالات القلق والخوف والرهبة في أعلى درجاتها؛ لأنك في تلك الحالة نزعت من قلبه الرجاء والأمل، وهما أرقى مراقي العبودية من مخلوق يتوجَّه بهما إلى الخالق دُوناً عن سواه.

والشيء الذي يُقَالُ في فرد، يُقَالُ كذلك في مجتمع يعيش بغير ملاذ الإيمان: فما الكوارث وما الآفات وما الشرور وما الآثام التي يسقط فيها المجموع في مستنقع آسن إلا نتيجة حتمية لزعزعة اليقين بموارد العقيدة وروافدها الإيمانية؛ أو قُلْ هو نتيجة لاعتقاد لا يخالطه عمل، ولاعتناق لدين لا يمازجه سلوك، ولتبني أفكار نظريّة لا تمارس ولا تطبق: التنظير فيها شيء، والعمل شيء آخر. العقيدة فيها في جانب والممارسة الفعلية في جانب آخر. الخطاب الأيديولوجي في كفة، والطريقة التنفيذية لهذا الخطاب في كفة مقابلة.

هنالك هوَّةُ وسيعةٌ بين القول والعمل، أو بين التصوِّر والاعتقاد من ناحية، والحركة الفعليّة في الواقع العملي من ناحية ثانية؛ وتلك مشكلة الضمير العربي وأزمته الكبرى - ولو فيما نراه نحن - على وجه العموم.

إنما ضعف اليقين وقلة الإيمان وشلل الحيوية الروحيّة أمور تؤدي حتماً بالفردية إلى الوهم، وتفشي الوهم يؤدي حتماً إلى التخلف وظلمة السعي والعمل وانتشار الأمراض النفسيّة بين الأفراد فضلاً عن الجماعات؛ وإذا ضَعُفَ اليقين ونضبت الحيوية الروحية وغارت الحماسة الدينية، شاعت الأوهام في بواطن الفردية وكثرت، وبشيوع الوهم يضطرب السلوك، ويشل العمل النافع للفرد بكل تأكيد؛ فتتمثل أمامه الأوهام والخواطر الدنيا فلا يدرك سواها، بل كل ما يدركه حجاب؛ حتى إذا شاع الوهم وشاعت الخواطر السفلى في مدارك المحجوبين تَبَدَّتْ الحياة أمامهم وكلها حقائق! كأنها الحق الصُّرَاح الذي لا يخالطه باطل، تلك الحقائق التي يتصورونها من فعل الوهم، وهى في الحق سرابُ خَادعُ لعلم لا ينفع ولعَمل لا خير فيه!

ومادامت هناك أوهام يختلط فيها الحق مع الباطل والكذب مع الصحيح؛ فمن المؤكد أن هنالك دعاوى تحركها رعونة الأدعياء، وكل دعيِّ هو في الواقع من أهل البصائر المطموسة، والذي يتبعه في رأي أو في  منهج أو في تقليد هو كذلك ذو بصيرة مطموسة، وأهل البصائر المطموسة ليسوا أهلاً للصحبة؛ لأنهم ليسوا أهلاً لأن يكونوا أصحاب وعي ينفتح على بصائر الصابرين من ذوي الصدق الخالص، إذْ البصيرة المطموسة وحدها هى التي تحركهم، وهى التي ترشدهم إلى ما في النفوس من مقدرة على خلق الشرور والآثام.

*    *     *

ولكن في رحاب المعيّة الإلهية تسقط الإرادة الإنسانية ويخبو وهج العقل ليعتمل في جوف الإنسان نور البصيرة ونور الإيمان. وفي رحاب المعيّة الإلهية يتنازل العقل قليلاً قليلاً عن تحليلاته وتعليلاته، فلا شيء يحلل ليُفهم ولا شيء يعلل ليدرك، كل ما هنالك تسليم مطلق لطوارق الأحوال. في هذا الرحاب الجليل الجميل تتهافت الأنظار وتتطامن الرؤوس أمام هاته الرياض النضرة الفائقة: رياض الصحبة العظمى والأنس بالله فلا إرادة لإنسان أشرف من أن تكون إرادته في إرادة الله، بل لا إرادة لإنسان أعلى وأرفع من أن يكون في هذا المقام بلا إرادة. العطاء الإلهي في مثل هذه الأحوال يسلب الإنسان أعلى وأقدر قوة فيه، فلا قوة لديه إلا أن يكون محفوظ القوة بأمر الله، ممدود العون بفضله ولا عليه بعد ذلك أن يسأل: فيمَ كانت قوته موجهة، وإلى أين يصير الركب ويحل خطى الترحال؟ أقدار العباد محكومة بقبضة إلهية لا يعللها العقل، ولا يعطيها حق التعليل الأمين ألا نور الإيمان، فكل ما هو فوق طور العقل من شأن العقل أن يحيله لتدركه البصيرة المهدية بنور الهداية الإيمانية، ومن هذا الطور كانت أقدار العباد.

فإن مسألة الإرادة الإلهية إنما هى مسألة حفيت من أجلها أقلام الكاتبين ولا نخالها من بعدُ جاءت بحلول صحيحة صائبة اللهم إلا الحلول التي عولت على الإيمان، يتذوقه العُرفاء بمعدنه الكريم في جوف الإنسان. وفي الصحيحين عن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه قال: كنّا في جنازة في بقيع الفرقد، فأتانا رسول الله ، فقد وقعدنا حوله ومعه مخصرة (أي ما يتوكأ عليه كالعصا ونحوه وما يأخذه الملك فيشير به إذا خاطب) فجعل ينكت بمخصرته ثم قال:"ما منكم من أحد، أو قال، ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة". قال، فقال رجل: يا رسول الله: أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؛ فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟! فقال رسول الله :" اعملوا فكل ميسر: أمّا أهل السعادة فييسّرون لعمل أهل السعادة، وأمّا أهل الشقاوة فييسّرون لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ:" فأمّا من أعطى واتقى ... إلى آخر الآية من سورة الليل (الآية: 5 وما بعدها).

وفي رواية: كان رسول الله  ذات يوم جالساً وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال:" ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلتها من الجنة والنار " قالوا: يا رسول الله فلم العمل؟ أفلا نتكل؟ قال: " لا: أعملوا فكل ميسر لما خلق الله ثم قرأ " فأمّا من أعطى واتقى ".

لا شك كان هذا البيان المحمدي الأمين يطلعنا على مسألة الإرادة الإنسانية بين الجبر والاختيار، وعلى أن أقدار العباد مسألة في صميمها تتصل بالعلم الإلهي؛ فالله يعلم أزلاً إنك ستكون من أهل السعادة، فييسر لك عمل أهل السعادة، أو يعلم أزلاً إنك ستكون، بإرادتك، من أهل الشقاوة؛ فيهيئ لك عمل أهل الشقاوة، وكلٌ ميسر لما خلق له مع العمل لا مع الخمول والكسل. وعلامة الإذن إذا شاء الله له أن يكون هو التيسير.

            *    *     *

لم تنقطع تلميحات الصوفية ولا تلويحاتهم في الإشارة المُعَمَّقة بوجوب الطَرْق الدائم على أن الوصول إلى الله تعالى لا يكون إلا بموت النفس. وموت النفس ليس يأتي من قبَل النفس أبداً، فما من نفس تريد أن تموت عما وقر فيها من آفات وشهوات وأوهام تحركها وتنقاد لها كما تنقاد السائمة لمن يقودها. ولكنه مع ذلك يأتي؛ وهو حين يأتي لا شك أنه يجيءُ من جناب علوي غير ميدان النفس المستبدة بصاحبها، القادرة عليه مع قلة قدرته عليها. في هذا الجناب العلوي يعمل "التفويض" عمله الفاعل، وتتزكى جذوته المشتعلة بقبس من دوام الدعاء، فالذي يعجز عن علاج نفسه لن يعجزه التسليم فيها لله؛ لأن الله خالقها بصيرٌ بها مطلع عليها بمقدار بصره وإطلاعه على العباد؛ فلزَمْ التفويض.

ومن ذلك ما قاله ابن عبّاد الرندي في شرحه على حكم ابن عطاء الله السكندري:"وسبيلُ المريد إلى الوصول إلى موت النفس إنما يكون بتقديم الافتقار والالتجاء إلى مولاه في أن يعينه ويقوِّيه على أمر نفسه، ويسهل عليه طريق سلوكه. وعليه أن يستعمل هذا (العلاج دواء لنفسه المريضة) في كل حال ووقت، وليجعله عُمْدَته فيما هو بسبيله"(1). تلك كانت في مجملها قيمٌ تترقى من مفعول "الإرادة" إلى قيم "العقيدة".

وليس من شك، أن الدعاءَ مُخُ العبادة؛ فما من عَبْد يعبد الله، ويتحقق من فنون العبادة وأذواقها، إلّا وهو يدعوه إمّا راجياً أو خائفاً. ومحور العبوديّة في مناجاة الله: هِجِّير العارف في مناجاته، وعبادته على الإخلاص توفيق؛ ولسهل بن عبد الله التُّسْتَّري شذرة رائعة تقول:"الأعمال بالتوفيق؛ والتوفيق من الله، ومفتاحها الدُّعَاء والتَّضَرُّع ".

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

..........................

(1) شرح الرندي على الحكم العطائية، جـ2؛ ص 146 .

 

في المثقف اليوم