قضايا

المرجعية الدنيوية وإشكالية الدين والدنيا في العراق

ميثم الجنابيملاحظة وتقديم: لقد كتبت هذا المقال قبل أكثر من عشر سنوات ولم اطبعه آنذاك. وقد كنت اسعى آنذاك للمساهمة في إرساء اسس الرؤية الواقعية والعقلانية في الفكرة السياسية العملية العراقية. غير أن الأحداث والوقائع كانت تكشف عن طبيعة ومستوى الهوة العميقة بين الرؤية الفلسفية العلمية وثقل التقاليد الأيديولوجية الدينية والدنيوية التي لا تسمع ولا ترى ولا يمكنها تأمل أي شيئ خارج ما اعتادته وتعودت عليه. وهذا الأخير لا يعدو من حيث الجوهر غير كمية بلاغية من الجهل والغباء وانعدام الرؤية المستقبلية. إضافة إلى بطون جائعة وأفواه لا تمتلئ،  أي كل ما اطلقت عليه بعض شخصيات الورع والتصوف عبارة "اكياس خراء". وبالتالي، فإن هذا المقال لتنوير الرؤية العقلية ولا علاقة له بالأكياس!

***

من مفارقات فكرة المرجعية في التاريخ العراقي الحديث والمعاصر اقترانها بالمؤسسة الدينية. وهو اقتران لغوي ومؤسساتي لا علاقة له بالفكرة كما هي. فمن الناحية النظرية تتعدى ماهية المرجعية كل الأشكال الواقعية. وذلك لأن حقيقة المرجعية مثال متسامي. وبالتالي لا يعني حصرها بالمؤسسة الدينية سوى تحجيم وتقييد مضمونها الحقيقي.

فحقيقة المرجعية، بالمعنى الفلسفي، تتطابق مع فكرة الاحتمال الواقعية والعقلانية. بمعنى أن الجوهري فيها للفكرة المجردة، أما تحقيقها العملي فهو نماذجها الملموسة. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الحديث عن مرجعيات عديدة هي جزء من صيرورة الوعي النقدي والبحث عن البدائل، أي كل ما يتراكم في تجارب الأمم بوصفه مرجعيات متسامية. وهي الرؤية الوحيدة القادرة على تحرير الوعي من ثقل القيم والمفاهيم التقليدية باعتبارها بقايا قابلة للعيش وليس للإبداع. فالقيم والمفاهيم التقليدية تبقى، في أفضل الأحوال، جزء من بقايا البنية التقليدية للوعي والوجود الاجتماعي. ذلك يعني أنها تعيش في الأغلب بمعايير الزمن وليس التاريخ. وهي الحالة التي يمكن تحسس كل طابعها المأساوي في تاريخ العراق الحديث، الذي جعل من "البديل الديني" نفيا "للايدولوجيا العلمانية" (الدنيوية). وهو نفي مزيف، تماما بقدر زيف الأيديولوجية "العلمانية" للعراق الحديث.

إذ لم تكن "الأيديولوجية العلمانية" الأكثر انتشار وسيادة في تاريخ العراق الحديث سوى صيغ متناقضة في وحدتها للهامشية الاجتماعية والعرقية والمذهبية، أي لأشد أنواع الصيغ الأيديولوجية تخلفا وتخريبا، كما هو جلي على مثال الشيوعية والبعثية. فقد كانت الشيوعية والبعثية "العراقية" تعبيرا نموذجيا عن سيادة الحثالة والهامشية. وهو سرّ انحطاطهما المعرفي والأخلاقي والسياسي. وبالتالي لم تكن البدائل المصاغة بمعايير النفي المباشر سوى الصيغة المكملة لهما. وهو واقع جلي في صعود التيارات السلفية الدينية المتنوعة، وبالأخص في نماذجها الطائفية. ويبرهن هذا الصعود بحد ذاته على افتقاد تأسيسها لمعنى "المرجعية" من قيمتها ومعناها الحقيقي بوصفها مثالا متساميا. الأمر الذي يجعل من إعادة النظر بإشكالية الديني والدنيوي في العراق، إحدى أهم القضايا النظرية والعملية التي يتوقف على كيفية حلها مهمة التأسيس الواقعي والعقلاني لمرحلة الانتقال صوب التحرر الفعلي للفرد والجماعة والمجتمع والفكر، أي كل ما يؤدي إلى بناء الدولة والمجتمع والثقافة بوصفها منظومة الحرية الشاملة. وتفترض هذه النتيجة بدورها تحليل خصوصيتها الباطنية، أي البحث في إشكالية الدين والسياسة بوصفها إشكالية التاريخ الثقافي والسياسي للعالم العربي والعراق بشكل خاص.

فإذا كانت الكلمة تاريخ، أصواتها ولسانها في الثقافة، فإن كلمة التيار الإسلامي في العراق هي الأخرى صوت من أصوات الثقافة العربية الإسلامية ولسانها في العراق. لاسيما وانه التيار الذي يعكس في خصوصيته ظهور وتبلور أحد نماذج ما ادعوه بالظاهرة الإسلامية المعاصرة. والظاهرة الإسلامية ليست فرضية أيديولوجية مجردة، كما أنها ليست مجرد "تسييس" للإسلام. فالجدل المتمحور حول ما يسمى "بتسييس" الإسلام هو من بقايا التحزب الأيديولوجي النابع من انعدام أو ضعف إدراكه للحقيقة القائلة، بان "الظاهرة الإسلامية" هي إحدى أهم واعقد الإشكاليات الثقافية السياسية بالنسبة للعالم الإسلامي. من هنا تنوعها وخصوصيتها.

فمن الناحية الظاهرية تبدو كما لو أنها مجرد إشكالية الدين والسياسة. بينما هي في الواقع إشكالية الوجود التاريخي والكينونة السياسية والثقافية لعالم الإسلام. وذلك لأن حصر هذه الإشكالية في ثنائية الدين والسياسة يعني إرجاع مضمونها التاريخي والثقافي إلى مجرد تكرار ونسخة باهتة لإشكالية الدولة والكنيسة، التي واجهها الغرب الأوربي وحلها بطريقته الخاصة. وهو حل ساهم في بناء الحضارة الأوربية (الغربية) المعاصرة وصروح القومية والمجتمع المدني والديمقراطيات الرأسمالية.

أما في عالم الإسلام فإن لها مقدماتها الخاصة. فقد برزت ظاهريا أول الأمر كما لو أنها شكلا من أشكال التحدي، بعد أن تحسس العالم الإسلامي للمرة الأولى انهياره شبه التام أمام الغزو الأوربي. حينذاك بدأت تطفو إلى سطح وجوده الاجتماعي والسياسي ردود الفعل المتنوعة، التي جرى تصويرها بعبارات التحدي واليقظة والنهضة والانبعاث والثورة وغيرها. وتعكس هذه الأوصاف لحد ما بعض جوانب الظاهرة الإسلامية لا حقيقتها.

من هنا، فإن الاجتهادات النظرية المتنوعة في مساعيها كشف علاقة الإسلام بالسياسة انطلاقا من تحسس هذه المواجهة أو التحدي للهجوم الأوربي الغربي تهدف في نهاية المطاف إلى بناء صرح تأويلي يؤيد أو يعارض هذه العلاقة لا إلى تأسيسها العلمي والعملي بمعايير الحاجة التاريخية والانتماء الثقافي. بينما ينبغي البحث عن جذور هذه الظاهرة أولا وقبل كل شيء في كيفية الانقطاع الذي حدث تاريخيا بين المرجعيات الثقافية والواقع المعاصر للإسلام في هذه المنطقة أو تلك. ومن هنا عالمية الظاهرة الإسلامية، باعتبارها بحثا عن المرجعيات الثقافية الذاتية.

وإذا كان تأثير الغرب الأوربي جليا وعميقا في إبراز الظاهرة الإسلامية إلى حيز المواجهة، فلأنها كانت تتراكم في الواقع باعتبارها جزء من تاريخ الثقافة الذاتية. الأمر الذي يفسر سبب الزوال التدريجي والاندثار الهائل لكمية ونوعية التأثيرات الغربية الأوربية في العالم الإسلامي في مجرى القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد أن استثارت في عالم الإسلام الظاهرة الإسلامية نفسها من سباتها الطويل تحت عروش الاستبداد. من هنا، فإن صعود الظاهرة الإسلامية نفسها لم يكن رد فعل على الهيمنة الأوربية(المادية والمعنوية)، بقدر ما كان رد فعل على الذات.

واتخذت هذه المركزية الإسلامية في مجرى تطور العالم الإسلامي صيغا وأبعادا سياسية متنوعة ومختلفة، عبّرت بمجموعها عن حوافز المواجهة والتحدي واستثارة الإرادة، أي كل ما كشف سياسيا وثقافيا عن نزوع الإسلام للتعبير عن المصالح الجوهرية للعالم الإسلامي من خلال تحوله إلى "مشكاة" المواجهة الثقافية مع الغرب(الأوربي) آنذاك. فقد سعت المركزية الإسلامية، من الناحية التاريخية، إلى وضع أسس الرؤية النقدية تجاه التجربة الأوربية وتطبيقاتها السياسية والاجتماعية والأخلاقية في العالم الإسلامي. أنها أرست بصورة تدريجية معالم الوحدة الضرورية بين الوعي السياسي والاجتماعي المعاصر وبين تاريخ الأمم الإسلامية. وحاولت استعادة اللحمة المنفرطة بأثر الغزو الكولونيالي، بين التاريخ والوعي، بين الرؤية الواقعية ومرجعيات الثقافة الخاصة، بين البدائل ومصادر الوعي التاريخي والثقافي. ومن ثم إعادة ترتيب الأحجار الضرورية لبناء صرح التلقائية الفكرية في العلم والعمل. إلا انه كان صعبا عليها أن تتخذ في بادئ الأمر توجها سياسيا – دينيا صرفا، لأنها لم تتحدد بآلية النظام الثقافي المستقل. فهي لا تشبه بشيء آلية الإبداع الثقافي الإسلامي في  عصور الخلافة المزدهرة، رغم الاستقلال النسبي للعالم الإسلامي، بما في ذلك في أواخر مرحلة الدولة العثمانية. لهذا عانت الحركة الأولى للتلقائية الثقافية الإسلامية من انفصام حاد عن مصادر وعيها التاريخي، ومن ضغط الثقافة الأوربية. مما كان يعّرضها على الدوام لعواصف التغيرات المفاجئة والطارئة. من هنا سرعة انحلال التراكم الفكري والروحي والاجتماعي الأولى في أواخر الدولة العثمانية الذي ساهم في بلورة تيارات سياسية وفكرية جديدة ونشطة مع سقوط السلطنة وتجزئة العالم الإسلامي بشكل عام والعربي بشكل خاص. ورافق ذلك شرذمة القوى الاجتماعية والفكرية والسياسية. وكسر هذا التحول المفاجئ والطارئ تقاليد الرؤية المتراكمة في غضون قرن من الزمن. مما أضطر الوعي الاجتماعي إلى أن يقع من جديد في نفس آلية ما أسميته بالحركة الأولى للتلقائية الثقافية الإسلامية، ولكن ضمن شروط جديدة  تجسدت بسيادة الرؤية الدنيوية (العلمانية) وحركاتها السياسية (من ليبرالية وقومية واشتراكية وشيوعية وغيرها). وتعرض هذا التراكم بدوره في مرحلة النضال من اجل الاستقلال الوطني وما تبعها من الانقلابات العسكرية وصعود الدكتاتوريات الحزبية والفردية والعائلية والقبلية إلى كسر وهدم جديدين.

كشف هذا الانقطاع عن وجود هوة عميقة بين التاريخ الإسلامي وبين الواقع المعاصر، وكشفت في الوقت نفسه عن غياب الرؤية العقلانية والثقافية، وبالأخص عند الحركات السياسية، تجاه الإشكاليات الواقعية الكبرى. غير أن هذه الانقطاعات المفاجئة أدت أيضا إلى تعميق وترسيخ التوجه العام القائل بضرورة التأسيس الذاتي(الثقافي) للرؤية التاريخية تجاه الماضي والحاضر والمستقبل، باعتباره إحدى المرجعيات الفكرية الكبرى. وعليها أيضا ظهر التحسس الأولى لأهمية البديل الثقافي – السياسي. بمعنى تنامي براعم الرؤية التاريخية والسياسية عن ضرورة  التحّصن الثقافي، وما يترتب عليه من استقلالية حضارية في العالم المعاصر. وهو أمر جعل من التفعيل السياسي للإسلام جزءا من البحث عن البديل الشامل في حوار الحضارات وصراعاتها في العالم المعاصر.

لقد تحول الإسلام في تياراته المتنوعة واستقطابه المتنامي لمختلف القوى الفكرية والسياسية، إلى ميدان التحرير الثقافي للنفس. ومن ثم استعادة المركزية الثقافية الإسلامية على أسس جديدة قادرة في المدى القريب على إبداع نظما معقولة ومقبولة في العالم المعاصر، أي أننا نقف أمام إجماع خفي متراكم في الوعي الاجتماعي والسياسي المعاصر في العالم الإسلامي على ضرورة تأسيس نظم للحياة تستمد مرجعياتها الفكرية والروحية من التاريخ الثقافي للحضارة الإسلامية وأممها المتنوعة. ومن ثم تحول جهادها واجتهادها في مختلف الميادين إلى "قطب" روحي فعال في الصراع الحضاري، مع ما يترتب على ذلك بالضرورة من تفعيل سياسي لمكوناته الثقافية. فهي المرحلة الضرورية التي ينبغي أن تقطع أمم العالم الإسلامي ودوله أشواطها من اجل تكاملها المادي والروحي في نظم حكومية وسياسية وثقافية على المستوى القومي والإسلامي والعالمي.

غير أن هذا التكامل مرهون بخصوصية الظاهرة الإسلامية في هذا البلد أو ذاك. الأمر الذي يدفع إلى الأمام هذا الجانب أو ذاك باعتباره القضية الجوهرية لما أسميته بأشواط التكامل المادي والروحي في نظم حكومية وسياسية وثقافية. ولا تشذ الظاهرة الإسلامية في العراق عن ذلك.

ففي العراق تندفع إلى الأمام قضية الدين والدنيا، وعلاقة الديني بالدنيوي إلى الأمام باعتبارها القضية النظرية والعملية الأساسية لبناء النظم الحكومية والسياسية والثقافية في العراق. بمعنى كيفية حل هذه الإشكالية من وجهة نظر المشاركة البناءة للحركات الإسلامية في إعادة تعمير العراق على كافة المستويات، وبما يضمن بناء دولته العصرية ومجتمعه المدني ونظامه الديمقراطي والحقوقي الشامل. ولا يمكن حل هذه المهمة على المستويين النظري والعملي بصورة متجانسة دون إعادة تأسيس هذه الثنائية بصورة واقعية تأخذ بنظر الاعتبار ما ادعوه بمعاصرة المستقبل. وذلك لأن علاقة الديني بالدنيوي هي علاقة متغيرة ومتنوعة المستويات. إذ تختلف هذه المهمة من الناحية النظرية بالنسبة للتيار السنّي والشيعي بشكل عام، وفي العراق بشكل خاص.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن كل ما أضعه هنا من أفكار حول "التيار السنّي" في العراق هو مجرد رؤية محتملة لما يمكن أن تكون عليه الحركة الإسلامية السياسية المتبعة لتقاليد الحركات السنيّة. ذلك يعني أنها حركة كامنة في العراق أكثر مما هي واقعية، وواقعية أكثر مما هي احتمال. بمعنى أنها جزء عضوي من الظاهرة الإسلامية بشكل عام وفي العالم العربي والعراق بشكل خاص.

ولعل أهم ما يخصه بهذا الصدد في العراق هو ضرورة الاهتمام بثلاث قضايا جوهرية وهي: أولا قضية إعادة تأسيس فكرة "الفرقة الناجية" صوب الاهتمام بفكرة جوهرية الحق وأولويته على الرجال، وثانيا قضية إعادة تأسيس "السنة النبوية" التقليدية ضمن الرؤية الواقعية لسنّة التطور التاريخي، وأخيرا تحويل الفقه الثابت ومدارسه التقليدية إلى فكرة ثبات القانون والاجتهاد فيه حسب متطلبات التطور الاجتماعي والسياسي الديمقراطي والمجتمع المدني.

وفيما يتعلق بالقضية الأولى ("الفرقة الناجية")، فإن ذلك يفترض العمل من اجل إلغاء فكرة الفرقة بمعناها النفسي والعقائدي والتنظيمي. بمعنى تحرير فكرة "الفرقة الناجية" من الفرقة والإبقاء على جوهرية النجاة فيها، عبر تحويلها إلى فكرة سياسية. وهو تحويل ممكن من خلال ربط مضمون الفكرة السياسية للنجاة بالعمل النظري والعملي على حل الإشكاليات الواقعية الكبرى بعد إدراكها بمعايير معاصرة المستقبل بشكل عام وفي العراق بشكل خاص. مما يستلزم بدوره العمل من اجل ربط الجانب السياسي للفكرة بأبعادها الحقوقية. كما انه ممكن من خلال تأسيس الأبعاد السياسية للنجاة بمعايير الحقوق. مما يستلزم بدوره نفي حق الحديث باسم "الفرقة الناجية" و"أهل السنّة"، والعمل بصفة حركة اجتماعية أو سياسية أو كلاهما. بمعنى العمل والمشاركة بمعايير الرؤية السياسية والحقوقية شأن كل الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية. فهي المقدمة الضرورية لتذليل التوتاليتارية الدينية ونفسية التقديس الأيديولوجية. إذ يؤدي هذا التحرير والتحويل في مضمون الفكرة إلى نقل اهتمام الحزب السياسي الإسلامي وحركاته الاجتماعية صوب المستقبل وليس صوب الماضي. بمعنى تحويل كل الرموز الكبرى مثل النبي والصحابة والتابعون وأئمة الفقه والكلام وغيرهم إلى مصادر ثقافية تساهم في تعميق وترسيخ الرؤية السياسية والحقوقية.

إن إعلاء شأن "المصدر الثقافي" في الرؤية السياسية والحقوقية للحركة الاجتماعية والأحزاب السياسية يساهم بصورة فعالة وغير مباشرة في تذليل فكرة ونفسية "الأصول" اللاهوتية. بمعنى المساهمة على جعل معنى ومضمون الاجتهاد فعلا واقعيا ومستقبليا. ولا يعني ذلك إزالة أو تذليل فكرة الأصول بحد ذاتها، بقدر ما يعني أن "الأصول" هي ليست كيانا مستقلا بحد ذاته مقدسا بهيئة "نصوصا" لا تقبل التغير والتبدل. فالنصوص أيا كانت هي "أبدية" ولا "تقبل التغير والتبدل". إلا أن قيمتها "الأبدية" الفعلية تقوم في قدرتها على أن تكون جزءا من "المعاصرة"، أي جزء من معترك تربية العقل النقدي ومساهماته الواقعية في حل الإشكاليات الجوهري الكبرى للتطور الاجتماعي. بعبارة أخرى، إن النصوص لا تقدم حلولا، بل رؤية. وأن معيارها "المقدس" هو بقاءها ضمن إطار الرؤية الثقافية، التي يستحيل تأسيسها في العالم المعاصر دون إيجاد الصيغة المناسبة لحل إشكالية الديني والدنيوي.

وفي واقع العراق المعاصر، فإنها ممكنة من خلال حل أربعة حلقات في سلسلة "الدنيوية العراقية"، وهي أولا تذليل سيطرة الديني على الدنيوي، أي أولوية الإيمان والعقائد الجاهزة على الرؤية السياسية والاجتماعية الضرورية، وثانيا تأسيس فكرة الدنيوية المعتدلة بقيم الانتماء الثقافي الذاتي، وثالثا ربط فكرة وقواعد الدنيوية بفكرة الحق والحقوق، وأخيرا تجسيد الدنيوية بوصفها منظومة حقوقية سياسية اجتماعية اقتصادية وثقافية. فهو التأسيس الذي يمكنه أن يكون أسلوبا للتطور المتجانس في العراق، ومقدمة لدمج فكرة "السنة النبوية" فيما ادعوه بمعاصرة المستقبل في العراق.

وفيما يخص القضية الثانية ("السنّة النبوية")، وإعادة تأسيسها ضمن الرؤية الواقعية لسنّة التطور التاريخي، فإن ذلك يفترض العمل من اجل عقلنة ماهيتها التاريخية والمجردة. وهي ليست مهمة تأويل صرف، بقدر ما أنها تنبع من حقيقة السنة النبوية، بوصفها نموذجا تاريخيا ومتساميا للثقافة الإسلامية. وهي حقيقة تجعل من "السنّة النبوية" كيانا محدودا من الناحية الثقافية، بمعنى انحصار قيمتها العملية المباشر في حدود العالم الإسلامي، مع أنها تحتوي شأن كل ما هو متسام في الفكر والتاريخ على قيم أوسع من حدوده الزمنية والجغرافية.

إلا أن القيمة الكبرى للفكرة تقوم أولا وقبل كل شيء في أبعادها الثقافية الخاصة. الأمر الذي يعطي لها أثرا ماديا وروحيا بالنسبة لتاريخ ووجود الأمم نفسها وكيانها المتميز. و"السنّة النبوية" هي من بين هذه الأفكار المتسامية. فقد مرت شأن كل فكرة متسامية بمراحل ثلاث هي مرحلة الصيرورة والتكون ومرحلة الكينونة التاريخية ومرحلة الكيان المجرد. ويمكن التعبير عن هذه المراحل  بمرحلة البداية والوسط والنهاية، أو الولادة والحياة والموت، أو العمل والفكر والاغتراب. والتعبير الأخير هو الأكثر دقة بالنسبة لرؤية الظاهرة من حيث كونها تيار تاريخي – ثقافي. بمعنى انه ظهر في ظروف تاريخية معينة وأثر في مجراها لاحقا واغترب عنها عندما تحول إلى كيان ميتافيزيقي (ماورائي).

فقد كانت "السنة النبوية" فعلا وقولا تاريخيا للنبي، أي أنها وثيقة الارتباط بوجوده وشخصه الكريم. من هنا كان القول فيها عملا والعمل قولا، بمعنى وحدتهما التامة. وفي وحدتهما شكلا الصيغة التاريخية والفعلية لوجوده الشخصي. ومن ثم لم يكن فيها آنذاك اثر للتقديس والتعالي بالمعنى الوجودي والديني. لكن حالما تحولت لاحقا إلى مصدر من مصادر العقيدة الإسلامية وأصلا من أصول الإسلام والدين والفقه، واختلط فيها الصحيح بالموضوع والكاذب بالحسن والمقبول بالضعيف وما شابه ذلك من التقييمات الدقيقة، فإنها تحولت في الواقع إلى جزء من تاريخ الثقافة. وهي حالة طبيعية بالنسبة لتطور الحضارات، بحيث تجعل من الرجوع إلى ما يبدو "سليما" و"صحيحا" و"حقا" مقارنة بما هو موجود، فعلا وقولا مندرجا ضمن الاجتهاد التاريخي للثقافة نفسها. ولم تتخلص السنّة النبوية من تأثير هذا القانون التاريخي للثقافة. أما المحاولات اللاحقة لجعلها كيانا خارج التاريخ وفوقه وتجميدها الكمي والنوعي وتقديسها الشامل، فانه قد أدى إلى اغترابها الفعلي عن مجرى التاريخ الفعلي وإشكالاته الواقعية. بعبارة أخرى إن دمج مراحلها الثلاث في مكونة واحد، أي دمج مضمونها الأولي والتاريخي والمجرد، بوصفها مكونات مختلفة، في كل واحد أدى إلى تقييد كل شيء فيها، وبالتالي إلى "تقديسها".

ولم يعن تقديسها من الناحية الفعلية سوى اغترابها التام عن إشكاليات التاريخ والواقع. من هنا أثرها الكبير، على الأقل من الناحية الفكرية في تجميد وتكلس الإسلام تاريخيا وثقافيا. فقد كان هذا النوع من "السنة النبوية" أحد مصادر وأصول التأخر التاريخي للإسلام والعالم الإسلامي. إذ لم يعن تحويلها إلى أصل أولي وجوهري ومرجعية حياتية شاملة، سوى فرض صيغتها الشكلية المقيدة للإنسان والمجتمع والثقافة. بمعنى وضعها بالضد من مصادر وأصول التطور والتغير. بينما المهمة الآن تقوم في إعطائها موقعها الضروري في الرؤية الإسلامية الواقعية من خلال تحويلها إلى نموذج معقول يساهم في قبول سنة التطور غير المحدود وغير المحدد، بمعنى تحويلها إلى نموذج للرؤية العملية الباحثة عن حلول وبدائل. وهو تحويل ممكن في حال الإقرار المنهجي بنظرية الاحتمال الدائم ومعاصرة المستقبل. مما يفترض بدوره "رمي النصوص" والتعلم من محتواها التاريخي – الثقافي. بمعنى جعل السنّة النبوية أحد النماذج التاريخية والثقافية الكبرى للعقل النظري والعملي المعاصر والنظر فيها بمعايير المستقبل. بمعنى تقديم صيغة عقلانية جديدة للرؤية الإسلامية عن سنّة التطور، لاسيما وأنها الرؤية التي تتمتع بتاريخ عريق وعميق في مختلف صنوف وعلوم الفكر الإسلامي. وهي صيغة ممكنة في العالم المعاصر من خلال ربط فكرة "السنّة" أو القانون الكوني للتطور والتغير والتبدل بفكرة الأصول العقلية. وهو ربط يمكنه أن يحرر "الأصول" الإسلامية التقليدية من مرجعيتها كما هي. وفي هذا تكمن إحدى مقدمات تذليل ذهنية ونفسية "الأصولية" "السلفية" وغيرها من نماذج التحجر الفكري والمذهبي. كما أنها تتضمن في أعماقها إمكانية جعل فكرة الأصول مرجعية. بعبارة أخرى إن المهمة تقوم في جعل فكرة الأصول مرجعية ثقافية لا الأصول التقليدية كما هي. وعلى هذا الغرار وبأثره تصبح فكرة السنة النبوية مرجعية ثقافية مهمة لتأسيس فكرة وضرورة التطور والتغير والتبدل بالشكل الذي يستجيب لمعاصرة المستقبل.

أما بالنسبة للقضية الثالثة المتعلقة بتحويل الفقه الثابت ومدارسه التقليدية إلى فكرة ثبات القانون والاجتهاد فيه حسب متطلبات التطور الاجتماعي والسياسي الديمقراطي والمجتمع المدني، فإنها تفترض في البدء صياغة تحديد جديد لماهية الفقه الإسلامي. وينبغي أن يتركز هذا التحديد حول الفكرة القائلة، بأن حقيقة الفقه تفنن في اكتشاف وإدراك وتحقيق المعنى في النصوص والأحداث والوقائع والمستقبل. فهو التحديد الذي يحرر الفقه من تكرار النصوص والخوض في غمار مياه آسنة أو جدول صغير يعتقد السائرون فيه أنهم يغوصون في أعماق البحر. ويعيد التكرار الممل في حفظ المتون وأمهات الكتب إنتاج هذا الوهم عوضا عن أن تكون مجرد تمارين ذهنية للتعامل مع إشكاليات الواقع بروح المعاصرة. وليس المقصود بالتحرر هنا سوى التحرر من أحكامه القديمة، وإعادة النظر بتقاليد الرؤية الفقهية نفسها. فهي تقاليد مازالت أسيرة الفلسفة القديمة عن الأصول، بينما تفترض الرؤية الفقهية الجديدة صياغة فلسفة جديدة للأصول تعنى بإعادة بناء الكيان النظري للفقه الإسلامي من خلال إعادة ترتيب الأولويات في رؤيته للأصول نفسها. وهي إعادة ينبغي أن تستند إلى مرجعية فكرة الأصول.

وهذا بدوره يفترض جعل الفقه فلسفة الحق الإسلامي وبناءه على أسس منهجها العام هو البحث عن علل الأشياء وأسلوبها العملي هو الظن العقلي. مما يستلزم بالضرورة تأسيس فكرة إلغاء ذهنية ونفسية التحريم فيه. والأسلوب النظري والعملي لذلك يقوم في تحويل جهود الفقه النظري والعلمية صوب الاهتمام الدائم بقضايا الرؤية العقلية الحقوقية. وبالتالي جعل الفقه في مختلف اجتهاداته جهادا من اجل الحق والحقيقة. وهي مهمة يمكن إنجازها فقط من خلال تحويل قواه الذاتية صوب المباحث الاجتماعية السياسية. بمعنى العمل من اجل بناء منظومة من فقه حقوق الإنسان المدنية، ومنظومة من فقه الدولة الشرعية، ومنظومة من فقه الحكم الديمقراطي (نظام الشورى العصري)، ومنظومة من فقه الحقوق الاقتصادية وغيرها من جوانب حياة الفرد والمجتمع والدولة.

أما التيار الشيعي، فإنه التيار الفعلي والواقعي للظاهرة الإسلامية في العراق. بل انه يتعدى ذلك من حيث اندماجه العضوي في نسيج الصيرورة التاريخية والكينونة الثقافية والروحية للعراق. ومن هذا المنطلق يمكن النظر إليه، باعتباره الحامل الفعلي لفكرة البدائل الإسلامية في العراق. لاسيما وانه كان على امتداد كل تاريخه المعاصر ممثل روح التمرد والدعوة للحرية والنظام الاجتماعي والعدالة. وهو تاريخ يضع أمامه في الظروف الحالية أكثر من أي اتجاه إسلامي آخر مهمة المساهمة النظرية والعملية في صياغة وتجسيد الرؤية العقلانية والواقعية لآفاق البدائل السياسية الثقافية في العراق.

إن الأثر التاريخي للتيار الشيعي وآفاقه يفترضان مساهمته الفعالة في حل إشكالية الديني والدنيوي انطلاقا من ظروف العراق الحالية. وهي مساهمة تفترض إعادة النظر، استنادا إلى فكرة ومعايير معاصرة المستقبل، بثلاث قضايا وتأسيسها الجديد. وهي أولا قضية "ولاية الفقيه" وذلك عبر تحويلها إلى فكرة ولاية قانون الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني، وثانيا قضية تحويل فكرة المرجعية إلى اجتهاد اجتماعي وسياسي يهدف إلى إشراك المجتمع في بناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني، وأخيرا قضية تحويل عقيدة "الإمام المنتظر" إلى نظرية البحث عن بدائل المستقبل الواقعي والعقلاني استنادا إلى جوهرية العدل في التراث الشيعي.

ومع أن فكرة "ولاية الفقيه" ليست جديدة في الفكر الشيعي، إلا أن أبعادها السياسية المعاصرة لم تعد اجترارا أو إعادة مباشرة لفكرة "الإمام" و"الناطق" و"الشيعي الكامل". كما أنها لم تعد، بأثر التحولات الكبرى التي جسدتها الثورة الإسلامية في إيران ونتائجها العملية فيما يخص بنية الدولة والنظام السياسي والثقافي، مجرد فكرة عامة وتجريدا نظريا.

فقد كانت "ولاية الفقيه"، بما في ذلك في صيغتها التي بلورها وجسدها الإمام الخميني، رؤية أولية تحاور بعض قواعد العقيدة الشيعية المتعلقة بمسألة "الغيبة" و"الإمام المنتظر" ودور علماء الدين في التعامل مع إشكاليات الواقع. وهي رؤية كانت تهدف أساسا إلى إشراك علماء الدين الشيعة في السياسة. بمعنى تفعيل الدور السياسي لفكرة الانتظار، التي كانت تعني واقعيا نقل فكرة وممارسة التقية إلى ميدان المسئولية الفردية والتاريخية لعلماء الدين الشيعة. وقد احتوت بهذا المعنى على تقاطع سياسي مع تقاليد "التقية" الشيعية، إلا أنها كانت تعيد إمكانية تمحورها المحافظ، وذك لأنها كانت محصورة بالأطر اللاهوتية لفكرة "الولاية". بعبارة أخرى، انها كانت تعيد إنتاج التشيع التقليدي ولكن بصورة فعالة، عبر توجيه شحنة الوجدان ونفسية التمرد على الظلم والجور، دون كسر منظومته بصورة جذرية، أي دون تقديم رؤية بديلة تستند إلى معاصرة المستقبل. لهذا كانت من الناحية الظاهرية تمثل تجسيدا للفكرة التثويرية، لكنها كانت تحتوي في أعماقها على نقيض لها. الأمر الذي أعطى للثورة الإسلامية في إيران طابعا محافظا. لقد كانت الثورة الإسلامية في إيران "ثورة محافظة". وهي مفارقة كانت تكمن في عدم حل الرؤية الأولية لفكرة "ولاية الفقيه" إشكالية الديني والدنيوي بالطريقة التي تذلل بصورة جذرية إمكانية إعادة إنتاج الرؤية التوتاليتارية نفسها. وذلك لان مهمتها لم تكن العمل من اجل اشتراك "المؤمنين" في السياسية وعلماء الدين في الحركة الاجتماعية السياسية، بل في "بنائها" بالطريقة "الإسلامية".

أما في العراق، فإن تكونه التاريخي المعاصر وتركيبته الثقافية قد جعل من التأسيس النظري لعلاقة الديني بالدنيوي اكثر انفتاحا وعقلانية عند أهل الفكر والنظر من التيار الشيعي العام. والقضية هنا ليس فقط في أن التيار الشيعي العراقي كان يتصف على الدوام بانفتاح واسع على مختلف التيارات الفكرية العالمية والعربية والعراقية، بل ولتحرره الكبير من تقاليد المذهبية المغلقة في موضوعاتها. ومن الممكن الإشارة هنا إلى الإبداع النظري لمحمد باقر الصدر. إذ نعثر في كتبه الشهيرة "فلسفتنا" و"اقتصادنا" (وما يقال عن احتمال "سياستنا") عن بطانة ماركسية مقلوبة. والقضية هنا ليس فقط في أن أسماء وموضوعات الكتب هي نسخ وموازاة للمكونات الثلاث الكبرى للماركسية، أي الفلسفة والاقتصاد والسياسة، بل وفي ردودها البديلة. وبغض النظر عن مستوى النقد الفكري فيها لمكونات الماركسية التقليدية، غير أن مجرد الاهتمام بها كان يعكس مستوى وطبيعة الاندماج الفعال في قضايا الفكر والواقع السياسي والفكري العراقي، أي أن موضوعاتها لم تكن اجترارا وتكرارا لما في "أمهات الكتب" و"متون الأئمة" وما شابه ذلك، بل محاولة ذهنية للمشاركة في إشكاليات المعاصرة آنذاك. وبهذا المعنى يمكن النظر إليها باعتبارها إحدى البدائل النظرية والعملية السياسية الشيعية المهمة في تاريخ العراق المعاصر. وذلك لأنها حاولت الخروج على الواقع مع البقاء ضمن بعض مرجعياته التاريخية والثقافية الكبرى – التشيع. وفي هذا تكمن قيمته التاريخية وأهميته بالنسبة  لمعاصرة المستقبل من جانب التيار الشيعي فيما يتعلق بإمكانية الحل النظري والعملي لمسالة "ولاية الفقيه". فهي القضية التي تشكل مضمون ولب الرؤية النظرية لمشروع النظام السياسي البديل في العراق. ويتوقف الحل الإيجابي لهذه القضية على كيفية تحويل فكرة "ولاية الفقيه" إلى فكرة ولاية قانون الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني، بمعنى التأسيس لفكرة الاجتهاد السياسي وليس العقائدي.

وهي المقدمة الضرورية التي يستتبعها حل القضية الثانية في سلسلة حل إشكاليات علاقة الديني بالدنيوي ضمن التقاليد المميزة للتيار الشيعي في العراق، ألا وهي قضية المرجعية والمرجعة. مما يفترض في البدء إعادة تأسيس فكرة المرجعية والمرجع الديني في التيار الشيعي المعاصر، بالشكل الذي يحولها إلى جزء من منظومة المرجعيات الثقافية.

فالمرجعية في التشيع هي مؤسسة لها أسسها المذهبية والعقائدية وكيانها التاريخي وأبعادها الروحية، أما المرجع الديني فهم أشخاص ورموز. بينما يفترض البديل أن تكون المرجعية فكرة منظومية تقر بمبادئ الاحتمال والتنوع وتحتوي عليها، وأن يكون المرجع منظومة مبادئ. فهي الصيغة التي يمكنها أن تعيد إنتاج الثبات التاريخي والمؤسسي للمرجعية الشيعية ولكن على أسس ثقافية جديدة مقترنة بمعاصرة المستقبل. وذلك لأنها الصيغة القادرة على أن تستعيض عن المؤسسة التقليدية بالمنظومة، وعن الأشخاص والرموز بالمبادئ  سوف تعطي للثبات أبعادا حركية. فمضمون الثبات فيها يتطابق مع المنظومة المؤسسة والداعمة لقيم التغير والتبدل والتطور والواقعية والعقلانية والنزوع الإنساني والديمقراطي. كما انه يضمن إمكانية إحكام مفاهيم وقيم التغير والتبدل والتطور بأوزان داخلية، هي أوزان الانتماء الذاتي والرؤية الثقافية. لاسيما وأنها أوزان لها تاريخها العريق ونماذجها المتنوعة.

فمن الناحية الظاهرية والعامة استطاع التشيع أن يكشف عن قدر هائل من الثبات في وجه كل الضغوط العنيفة التي مورست ضده تاريخيا من جانب مختلف القوى. ولعل التاريخ الحديث للعراق هو أحد اصدق وأعمق الصفحات الكبرى للتدليل على الاستعداد الهائل للتشيع في مواجهة التحديات الكبرى والبقاء ضمن حيز الانتماء الذاتي. بمعنى البقاء ضمن تقاليد الانتماء للمدارس الشيعية والتفاعل مع التغيرات الكبرى في مختلف الميادين. وهو بقاء وثيق الارتباط بمؤسسة المرجعية نفسها. ذلك يعني أن قيمة التشيع وقدرته على الثبات التاريخي، بما في ذلك قدرته على المحافظة على القيم الإنسانية وتمثلها الوجداني، قد ارتبط أساسا بمؤسسة المرجعية. غير أن هذا الارتباط الضروري المحكوم عليه بعنف الخارج لم يعد ضروريا في ظل الانفتاح المعاصر في العراق. وهو تغير وتحول ينبغي أن يجد طريقه إلى تحول وتغير في فكرة المرجعية نفسها. وهي مهمة ينبغي للتيار الإسلامي الشيعي أن يأخذ على عاتقه جهود تأسيسها العملي والعملي.

وإذا كانت الجذور العقائدية للارتباط المذكور أعلاه تكمن في فكرة وتاريخ "الغيبة"، فإن المهمة الأولية للفكر النظري ينبغي أن تسير في اتجاه فك هذا الرباط اللاهوتي وإعادة شده بطريقة تجعل منه رابطا وجدانيا بالتراث لا غير. بمعنى التأسيس للقيمة الوجدانية والتراثية للمرجعية في تاريخ "الغيبة" من خلال إعلاء شأنها الروحي باعتبارها رمزا ثقافيا خاصا لمعارضة الظلم والجور والطغيان والاستبداد.

فهي الرؤية التي يمكنها أن تكشف عن طبيعة الأبعاد التاريخية للمرجعية، أي النظر إليها باعتبارها كيانا تاريخيا له حدوده الثقافية. كما ينبغي توسيع مدى هذه الحدود من خلال جعلها جزء من معاصرة المستقبل. ويترتب على ذلك حل القضايا الفكرية المتعلقة بنموذج الممارسة السياسية وأسلوبها المنهجي، واقصد بذلك ثنائيات الخواص – العوام، والظاهر – الباطن من خلال إدراجهما ضمن معايير ومقاييس الممارسة السياسية العلنية والنظام الديمقراطي. وهي نتيجة ترتبط ارتباطا عضويا بتحويل مؤسسة المرجعية إلى فكرة متسامية، وترقيتها إلى مستوى المرجعية الثقافية. آنذاك يحصل التواصل النوعي الجديد بين التاريخ والمعاصرة، كما يحصل التكامل التاريخي – الروحي بين "الغيبة" و"المستقبل"، أي بين الأبعاد الروحية للمرجعية والوظيفة السياسية الجديدة لها عبر النشاط  النظري والسياسي للتيار الشيعي المعاصر.

ويمكن تجسيد هذا التواصل على المستوى النظري والعملي من خلال التأسيس السياسي الفعال لخمس قضايا أساسية كبرى بهذا الصدد وهي قضايا الهوية العراقية، والمجتمع المدني، ودولة الحقوق، والتعددية السياسية، والانفتاح الفكري. فهي القضايا المحورية بالنسبة للعلم والعمل المتعلق بإمكانية تفعيل المرجعية والمرجع بمعايير معاصرة المستقبل، وبالأخص إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن للتيار الشيعي في العراق تاريخ متميز فيها. إذ للهوية العراقية في التشيع قيم محلية ووجوه شعبية ومثقفة، دينية ودنيوية، مؤمنة وغير مؤمنة. ونعثر في مراقد الأئمة وتاريخ الحسينيات والعزاء، أي في الأفراح والمآسي على نماذج لتجمعات وتآزر المجتمع المدني. بينما تمثل التقاليد العلوية  – الإمامية أنموذجا أعلى لفكرة الحق الإسلامي، بمعنى احتواءها على صيغة وجدانية وحقوقية وتاريخية لجوهرية الحق بوصفه عدلا. كما نجد في تنوع وتباين واختلاف الحركات الاجتماعية والسياسية الشيعية واشتراكها في المبادئ المرجعية نموذجا معقولا للتعددية السياسية. وفيه تكمن أجنة الانفتاح على النفس والآخرين، بوصفه الضمانة المادية والمعنوية للخروج على المذهبية الضيقة وتقاليدها.

إن هذا التحول صوب معاصرة المستقبل يضع بالضرورة مهمة استكمال الحل المنطقي لعلاقة الديني بالدنيوي في التيار الشيعي العراقي من خلال الرجوع إلى نقطة البداية، أي قضية المهدي. فالمهدي هو ليس "نهاية التاريخ" بل بدايته الرمزية. وتمثل هذه الصيغة المعادلة المتكونة من التاريخ والعقيدة الإيمانية. وإذا كانت هذه المعادلة إحدى الصيغ الواقعية التي حفظت للشيعة وحدتهم المادية والمعنوية من خلال الدور الذي لعبته المرجعية بوصفها مؤسسة ورجالها باعتبارهم رموز شخصية وتاريخية، فإن معاصرة المستقبل تفترض تحويل عقيدة "الإمام المنتظر" إلى نظرية البحث عن بدائل المستقبل الواقعي والعقلاني. وذلك من خلال التأسيس السياسي والحقوقي لجوهرية العدل في التراث الشيعي. فالمهدي ليس من الهداية فقط، بل والمكون الجوهري لفكرة الانتظار، أي المستقبل. ومعاصرة المستقبل تفترض أن يكون الحاضر محور الاهتمام العلمي والعملي للحركة الاجتماعية والسياسية الشيعية من اجل توليف الأبعاد الروحية والعقائدية لفكرة "المهدي المنتظر"، بمعنى تحويل راهنيتها العقائدية إلى راهنية سياسية وثقافية. مما ينبغي نفيه بصورة عقلانية من خلال تحويل "انتظار الأشخاص" إلى "انتظار البدائل"، أي نقل الوعي الاجتماعي من انتظار المعجزات إلى تحقيقها في الفعل الاجتماعي – السياسي. فالبدائل لا تحتمل الانتظار، لأنها تستلزم بالضرورة العمل من اجلها. وذلك لأن فكرة البدائل نفسها هي اجتهاد دائم ضمن حيز الاحتمال والإمكان، أي ضمن حدود الرؤية العقلية وإشكاليات الواقع. وبالتالي فان تحرير الانتظار من الأبعاد اللاهوتية والعقائدية والمذهبية يتضمن في أعماقه تحريره من نفسية العوام وذهنية التقليد. حينذاك يمكن تحقيق "المهدي المنتظر" في مشاريع متعددة غايتها العليا هي فكرة الحق. فالمهدي هو الحق، والحق هو الواقع والمستقبل والهداية.

وفي تحقيق التيار الإسلامي بشقيه السنّي والشيعي في العراق للمهمات النظرية والعملية الكبرى المطروحة تكمن أيضا مقدمة اندماجهما التاريخي في حركة اجتماعية سياسية ثقافية في العراق، يمكنها أن تكون نموذجا لما ادعوه بالإسلام الثقافي، أي الإسلام القادر على حل إشكالية الديني والدنيوي في العالم المعاصر بما يضمن للعراق إمكانية الازدهار والتقدم والإبداع الإنساني الأصيل في مختلف المجالات. فهو الإسلام الوحيد القادر على الإسهام بصورة فعالة في معترك البدائل السياسية الثقافية ليس على النطاق العراقي والعربي والإسلامي فحسب، بل والعالمي أيضا. وذلك من خلال المساهمة في إرساء الأسس الواقعية لنقل إشكالية الديني والدنيوي من نماذج وتصورات واحتراب العقائد القديمة إلى جهاد المعاصرة والاجتهاد في دروبه الواقعية والعقلانية. أما الحلول الجوهرية والمستقبلية الكبرى، فهي تلك التي تتراكم من تجارب الأمم الواقعية. وهي تجارب تنفي مع كل خطوة حقيقية في ميدان الحرية والنظام، تصورات وأحكام وعقائد الماضي أيا كان نوعها وشكلها وحجمها. ومن ثم تفتح طريق الحرية الفعلية للحداثة بوصفه طريق الاحتمال العقلاني والإمكان الإنساني، أي طريق الدنيوية العقلانية الثقافية. وما عداها مجرد اجترار للزمن وتجارب ميتة سرعان ما تتلاشى وتندثر.

***

ا. د. ميثم الجنابي

  

في المثقف اليوم